مدينة تشتهر بالطبيعة الخلابة وشلالات المياه والسهول الخضراء والتعايش السلمي، إنها بحر دار عاصمة إقليم أمهرا التي تبعد نحو 578 كيلومترًا شمال العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
تمثل المدينة القلب النابض لبحيرة تانا التي ينبع منها النيل الأزرق ويطلق على النهر محليًا اسم (تِنِّش أبآي)، وتعني النهر الصغير فهو صغير بالفعل في تلك المنطقة لكنه سرعان ما يكبر ويتضاعف عندما تنضم إليه الروافد والوديان في رحلته عبر السهول، وهو يشق أرض الحبشة متجهًا إلى السودان ليلتقي بشقيقه النيل الأبيض في منطقة المقرن بالخرطوم ليشكلان سويًا نهر النيل الذي يواصل الرحلة حتى مدينة الإسكندرية في مصر.
كلمة بحر دار “BaharDar” تعني باللغة الأمهرية “شاطئ البحر”، ونلفت هنا إلى وجود تداخل كبير بين اللغتين العربية والأمهرية، فالكثير من الكلمات تعطي المعنى نفسه مثل: بيت، سكر، ليل، حساب “للفاتورة”، لهذا فإن كلمة “بحر” غير مستغربة.
الديمغرافية والتاريخ
تقع المدينة على الشاطئ الجنوبي لبحيرة تانا، بالقرب من الشلالات التي ينبع منها النيل الأزرق، وتتميز بارتفاعها إلى 1840 مترًا فوق مستوى سطح البحر، وهي مدينة قديمة يعود تاريخ وجودها إلى ملايين السنوات كما يقول أهلها، غير أن الإمبراطور هيلا سيلاسي أعاد بنائها على الطراز الحديث في العام 1950، حيث بنى فيها قصرًا منيفًا اتخذه كمصيف، وهي تمثل العاصمة السياسية والاقتصادية لإقليم أمهرا.
وتعتبر بحر دار ثاني أكبر المدن الإثيوبية من ناحية المساحة بعد العاصمة، ويقدر عدد سكانها بما يقارب 300 ألف نسمة يتحدثون الأمهرية والإنجليزية والعربية، وتتوزع معتقداتهم الدينية بين الإسلام والمسيحية بالإضافة إلى الديانات التقليدية.
الطرق والمواصلات
هناك عدة خيارات تُمكن الزائر من الوصول إلى المدينة نوضحها كالآتي:
عن طريق الجو من أديس أبابا.. للخطوط الجوية الإثيوبية 3 رحلات يوميًا وتستغرق نحو 40 دقيقة تقريبًا، لكنّها تستخدم الطائرات الصغيرة وهي مزعجة ومقلقة لبعض الأشخاص، نسبة لهدير المحركات، والأسوأ من ذلك إذا صادفت الرحلة عاصفة رعدية تجعل الطائرة تهتز وترتج بشدة.
الميزة الوحيدة لذلك النوع من الطائرات أنه يحلق على ارتفاع منخفض ليسمح برؤية ما على الأرض بوضوح مثل غابات السفانا والجبال المغطاة بالخضرة على مد البصر وقطعان الحيوانات البرية.
كما يمكن للزائر استئجار سائق بسيارة خاصة من العاصمة، وهناك خيار ثالث هو أن تستقل المواصلات العامة، وتستغرق الرحلة نحو 9 ساعات بالحافلات من ميدان سكوير في أديس أبابا، وما يميز هذا الخيار قلة التكاليف فثمن التذكرة لا يتجاوز 7.5 دولار أمريكي.
وللقادمين برًا من السودان هناك طريق مرصوف يربط بحر دار بمدينة القضارف السودانية وتتوافر وسائل نقل عام بين المدينتين، أما داخل المدينة فتجد السيارات الكبيرة و”الميني باص”، فضلًا عن عربات “التوك توك”، وسيارة الأجرة الزرقاء القديمة إلى جانب سيارات الأجرة الصفراء الجديدة.
في زيارتي الأخيرة للمدينة الصيف الماضي، وجدتُ بحر دار شهدت تغيرات عميقة وجذرية من الناحية العمرانية والبنية التحتية، بنايات شاهقة، فندق من فئة الـ5 نجوم، مقاهي حديثة وصالات ديسكو جديدة، تماثيل متنوعة لشخصيات أسطورية وحقيقية، وحياة متناقضة يوازيها قفزات كبيرة في البنية التحتية والاستثمارات التي غيرت وجه المدينة وإقليم أمهرا ككل، المدينة شرقية آسرة وخزانة لتاريخ إثيوبيا التي أصبحت دولة محورية إفريقيًا بعد النهضة التي شهدتها في عهد رئيس الوزراء الراحل مليس زيناوي.
تناول القهوة الإثيوبية في بحر دار من أساسيات الحياة
القهوة.. أسلوب حياة
ذات يومٍ استيقظت فجرًا على صوت هزيم الرعد وهو يزلزل أركان الفندق الذي أقيم فيه، وسرعان ما ابتدأ هطول الأمطار بغزارة، خرجت من غرفتي بالفندق بعد التاسعة صباحًا، نحو أحد المقاهي الشعبية التي جذبتني برائحة القهوة الحبشية المعبقة بالبخور والسماء لا تزال مغطاة بالسحب الداكنة والرذاذ يستمر في مداعبة وجوه المشاة.
جلست أمام صبية سمراء، كانت فاتنة المحيا قمحية اللون سريالية الملامح مشرقة الابتسامة بملامحها البريئة، حييتها بلغتها الأمهرية قائلًا “سلام نو”، عندما أحضرت القهوة كان المطر قد اشتد من جديد في الخارج، ويبدو أنها أرادت قول ذلك بالأمهرية التي لا أعرف سوى كلمات محددة من مفرداتها لذلك وقعتُ في شيء من الحرج عندما أخبرتها بأني لا أتحدث لغتها بطلاقة حينها أدركت أنني سوداني الجنسية، ومثل هذه المواقف تتكرر كثيرًا نسبة للتطابق في سحنات الوجوه بين مواطني دول القرن الإفريقي خصوصًا السودان وإثيوبيا وإريتريا والصومال.
تناول القهوة الإثيوبية في بحر دار من أساسيات الحياة، إذ تنتشر في أرجاء المدينة زوايا القهوة التي تديرها النساء، وما إن تطلب القهوة حتى تبدأ صانعتها بتحميصها مباشرة أمامك، وأنت تستمتع برائحتها المعتقة تشاهد حبيبات القهوة ودخانها اللذيذ يخترق أرجاء المكان بنعومةٍ ساحرة ممتزجًا بالبخور المحلي، وبعد طحنها وتحميصها، تُغلى القهوة على الفحم، ما يمنحها نكهة أصيلة، لتتلذذ بتناولها، رشفة بعد رشفة، وإذا أردت أن تعبر عن استمتاعك بالطعم، فإنك لصانعتها تقول “كونجو” أي “جميل” باللغة الأمهرية.
مدينة التناقضات والتسامح
بعد توقف الأمطار، تجولت في المدينة الجميلة التي تجمع التناقضات، فقر الأزقة وساكنو الشوارع من المشردين والمتسولين، يقابل ذلك البنايات الشاهقة والمراكز التجارية الفاخرة والمقاهي الحديثة، لكنّ الجمال هنا لا يقاوم، مدن متناثرة على جبين الهضاب وحقول مطلة على السفوح ومروج تزين المكان وتمنح المواطنين قوت يومهم.
ومن اللافت للنظر أن المساجد بمآذنها العالية مطلة على الشوارع الرئيسة في بحر دار وضواحيها، توجد بجوار الكنائس الأرثوذكسية في لوحة تسامح نادرة ومن الطبيعي أن تجد الأسرة الواحدة تضم أفرادًا مسلمين ومسيحيين، حتى في المواصلات العامة إذا قام السائق بتشغيل ترانيم مسيحية لا تجد مسلمًا يعترض، والعكس كذلك إذا كان سائق المركبة مسلمًا وفتح الراديو أو جهاز التسجيل على القرآن الكريم أو قصائد في مدح النبي محمد “عليه الصلاة والسلام” يصمت الركاب احترامًا وتقديرًا.
بحيرة تانا
من أبرز معالم بحر دار وتعد من أكثر الأماكن روعًة وجمالًا في إثيوبيا، وهي بحيرة فريدة من نوعها إذ تبلغ مساحتها نحو 3700 كيلومتر مربع ومتوسط عمقها يصل إلى 15 كيلومترًا فيما يبلغ ارتفاعها 1820 مترًا، وتحتضن بحيرة تانا نحو 37 جزيرة، يضم بعض منها أديرة وكنائس ومتاحف لمقتنيات قديمة، تتراوح تواريخ إنشائها بين 400 و500 عام، إلى جانب المدارس الكنسية في طور بدائي، حيث يعيش التلاميذ حول البحيرة في أكواخٍ من القش، ليعلمهم رجال الدين التعاليم المسيحية.
ولدى بحيرة تانا عدد من المصادر المائية المغذية، من بينها (تِنِّش أبآي) الذي يمثل المصدر الرئيس لمياه البحيرة، بالإضافة إلى أنه يمثل أحد أهم روافد النيل الأزرق كما ذكرنا فهو يمتد على مساحة 5600 كيلومتر بدءًا من هذا المكان عند مدينة بحر دار وحتى البحر الأبيض المتوسط بالقرب من مدينة الإسكندرية.
وداخل بحيرة تانا هناك جزيرتان تضمان تاريخًا تليدًا يعود إلى أعماق سحيقة في التاريخ، إحداهما للنساء الراهبات، يختفين تمامًا عن أعين الزوار، فيما الأخرى مخصصة للرهبان الرجال، ولا تفصل بين الجزيرتين سوى أمتار قليلة، ولا يزال القائمون عليهما يحرصون على عدم دخول الحداثة، ويلحظ الزائر أن الأدوات المستخدمة والطرق الصاعدة إلى الأديرة تتحدث عن حقبٍ وحضارات سادت في المكان، ويشرح الدكتور سلمون علي المسؤول في إدارة السياحة بالإقليم قائلًا: “تاريخ الأديرة في الجزر يعود إلى القرن التاسع الميلادي، منذ دخول المسيحية إلى الحبشة بواسطة منليك الأول ملك إثيوبيا”.
شلالات النيل الأزرق
تقع على المجرى العلوي من نهر (تِنِّش أبآي)، على بعد نحو 30 كيلومترًا من مصب بحيرة تانا، وتعتبر شلالات النيل الأزرق إحدى مناطق الجذب السياحي المفضلة لزوار إثيوبيا وبحر دار تحديدًا.
تمتد الشلالات بين 37 و45 مترًا على النهر وهي من الأماكن التاريخية في إثيوبيا وتتألف من أربعة تيارات، وترتفع بين 37 و45 مترًا أو نحو 150 قدمًا، ويقدر عرضها بنحو نصف ميل، مما يجعلها وجهة غاية في الروعة خصوصًا في موسم الأمطار الغزيرة.
حيثما توجهت داخل المدينة أو خارجها تلاحظ الخضرة الدائمة، لا سيما إذا مشيتها سيرًا على الأقدام
يمكن الوصول إلى شلالات النيل الأزرق بطريقة سهلة نظرًا لوجود العديد من الرحلات اليومية التي تنظمها مكاتب السياحة ووسائل النقل لزيارة هذا المكان الرائع انطلاقًا من مدينة بحر دار، ويعتمد العديد من السكان المحليين في دخلهم على السياح فالكثير يعمل على بيع المواد الغذائية والمشروبات بجانب تقديم خدمة الإرشاد والترجمة للزوار من مختلف الجنسيات.
هناك العديد من أماكن الإقامة المفضلة للسائح الذي يزور شلالات النيل الأزرق كما أن هناك فنادق جيدة متوفرة على بعد بضعة كيلومترات من الشلال، وإذا كنت تخطط لزيارة شلالات النيل الأزرق، فمن المفضل الاهتمام بارتداء الملابس المريحة للسير بسهولة في طريق الشلالات الوعرة.
بعد مغادرة الشلالات ستجد ممرًا ممتلئًا بالتعرجات بجانب الحقول المفتوحة والخصبة، يوجد بجانبه أماكن الانشقاق العميق مع الجسر المحصن الذي يرجع إلى القرن السابع عشر وهو ما زال قيد الاستخدام.
أشياء يمكن فعلها في بحر دار
1- الاستمتاع بالمناخ المعتدل طول العام، خصوصًا في فصل الصيف الذي يشهد تساقط الأمطار الغزيرة باستمرار، لن تجد مكيفات الهواء في فنادق المدينة لأنه لا حاجة إليها، إلا أن بعض الفنادق الكبيرة يوجد بها مراوح فقط لتحريك الهواء حسب رغبة بعض السياح الأوروبيين.
2- حيثما توجهت داخل المدينة أو خارجها تلاحظ الخضرة الدائمة، لا سيما إذ مشيتها سيرًا على الأقدام، فجولات المشي لها طعم خاص في هذه الجبال والحقول والقرى الصغيرة الموزعة عند أعشاب المرتفعات وحول قواعد الجبال والأودية وقبل الوصول إلى الهضاب على ارتفاعات شاهقة التي توفر مشاهد وإطلالات مذهلة على السهول والمروج.
3- تذوَّق الأطعمة الشعبية وعلى رأسها “الإنجيرا” التي تفرض نفسها في كل الأوقات حتى في أفخم الفنادق، فتعتبر إثيوبيا الدولة الوحيدة التي تنتشر أطعمتها الشعبية في كل المواقع السياحية حتى الفنادق ذات الخمس نجوم، وتتكون الإنجيرا من نبات الذرة وتقدم مع الأطباق المختلفة مثل لحم الغنم أو البقر والدجاج والسمك، بشكل فتة أو ملفوف بحشوة من اللحم والبقول وتشكيلة من التوابل الحارة أو المعتدلة.
4- إذا كنت مهتمًا بالتاريخ، فإننا ننصحك بزيارة قصر الإمبراطور هيلا سيلاسي التاريخي الذي كان يقيم فيه خلال فترة الصيف، وتوجد في المنطقة ذاتها الكنائس التاريخية وآثار الرهبان.
5- يفضِّل السياح زيارة المتحف الوطني في قلب مدينة بحر دار فهو يحتوي على العديد من الصور والمقتنيات والآليات العسكرية التي تحكي عن التاريخ الوطني لإثيوبيا والثورات المختلفة.
6- لا تكتفِ بمشاهدة البحيرة من الشاطئ، بل يجب عليك القيام برحلة نيلية بالزوارق السريعة في عرض بحيرة (تانا)، لمعايشة أجمل التجارب ومشاهدة أروع اللوحات الجمالية الطبيعية، فالرحلة تستمر 5 ساعات تقريبًا وبتكلفة معقولة لا تزيد على 50 دولارًا.
تتميز بحر دار برخص تكاليف الإقامة في الفنادق والشقق، إذ لا يزيد سعر الغرفة في أفخم الأماكن على 150 دولارًا أمريكيًا
7- منطقة البحيرة تستوطن فيها تشكيلات متنوعة من الحيوانات البرية الفريدة مثل ماعز الجبل والثعالب وقطعان القردة ذات الصدور الحمراء التي تعيش بين الصخور وأنواعًا مختلفة من الطيور الجارحة.
8- عشاق السهرات الصاخبة لهم نصيب في بحر دار، فالمدينة تحتوي على العديد من مراكز الديسكو والمطاعم الشعبية التي تقدم عروضًا فنية تستمر حتى الساعات الأولى من الصباح.
9- ومن معالم المدينة البارزة جامعة بحر دار وهي إحدى الجامعات العريقة في إثيوبيا يدرس بها نحو 35 ألف من الطلاب في مختلف التخصصات من بينها كليات الطب والهندسة وتقنية المعلومات إلى جانب الكليات النظرية.
10- وتتميز بحر دار برخص تكاليف الإقامة في الفنادق والشقق، إذ لا يزيد سعر الغرفة في أفخم الأماكن على 150 دولارًا أمريكيًا.