لم تكترث الحرب لأمر الأطفال السوريين وتبقيهم بعيدًا عن سلبياتها التي أحاطت بهم الآن بعد مرور قرابة السبع سنوات، فكان لزامًا على الأطفال تذوق الأوجاع التي شملت عائلاتهم وتأثرت نفوسهم من شدة المواقف الصعبة كفقدان أحد أفراد أسرتهم وتدمير منزلهم، وأجبر عدد كبير من الأطفال السوريين على ترك مناطقهم برفقة عوائلهم إما للهجرة خارج البلاد كالذين ذاقوا الموت غرقًا أو رميًا بالرصاص في اجتياز الحدود، والقسم الآخر فضل النزوح إلى الخيمة داخل الأراضي السورية رغم صعوبة العيش فيها.
لم تقتصر على هذا فحسب فقد كان لضياع مستقبل الأطفال نصيب من كوارث الحرب، سبع سنوات وهم يعيشون قصفًا ودمارًا وتنقلاً من مكان لآخر، يقضون شهرًا في منطقة وأسبوعًا في منطقة أخرى، بسبب عدم استقرارها ويدركون تمامًا أن الحرب تلاحقهم.
في حين أجبر الأطفال على ترك تعليمهم لعدم استمرار الأمان رغم افتتاح المدارس داخل أبنية سكنية بعد تعرض المدارس الرسمية للقصف الجوي والمدفعي، وضعف إمكانات سير العملية التعليمية ونقص الكوادر التدريسية.
عمل الأطفال لإطعام أسرة
أدرك باسل – 13 عامًا – أن التعليم في هذا الوضع لا يطعم عائلته الخبز ولا يجني له مالًا يعتاش منه بعد فقدان والده بقصف للطيران الحربي على مدينة حلب في أواخر 2015، كان باسل يذهب إلى المدرسة ولدى والده محل قريب من منزله، سقط برميل من الطيران الحربي التابع لقوات النظام على محل والده الذي راح ضحية القصف، ما زال باسل يذكر تلك اللحظة بعين تمتلئ حزنًا.
خرج باسل وعائلته من مدينة حلب مرغمًا في أواخر العام 2016، إلى الريف الغربي للمدينة قائلاً: “رجعت من جديد على الريف وأنا وإخوتي كنا نخاف كتير”، قررت أم باسل وعائلتها الخروج من تلك المناطق التي تتعرض لقصف دوري من الطيران الروسي وطيران قوات النظام إلى الريف الشرقي لمدينة حلب.
“بحثت كثيرًا عن عمل وأنا أسكن في منزل مدمر جزئيًا قرب مدينة الباب، أجبرت على العمل بالبحث عن قطع النفايات البلاستيكية والحديدية وبيعها للتجار الذين يعيدون صناعتها”، هكذا بدا كلام باسل الذي لم يبلغ 13 عامًا
يقضي باسل أيامه في مكب نفايات يسترزق منه ما تيسر في طريقه لإعالة العائلة التي حطت رحالها في جوع وفقر مفجع، رغم أنه كان يتمنى العيش بكرامة في منزل متواضع كباقي أطفال العالم.
فيما قالت والدة باسل: “أرسلته للبحث عن عمل لكن لم يجد أحدًا يعمل معه لصغر سنه وعدم قدرته على تحمل مشاق العمل”، وأكدت أنهم بحاجة ماسة لمساعدات إنسانية من منظمات خيرية أو فاعلي خير، فهي توقد أكياس بلاستيك وما تيسر من القش “الحطب” في مدفأتها المتواضعة لتخفيف عبء الشتاء عن أطفالها، وأضافت “أدركنّا الشتاء ونحن لا يوجد لدينا أي نوع من المحروقات لإشعال المدفأة وليس لدينا القدرة المادية على تحمل كل تلك المصاريف، فنحن كثيرًا لا نجد خبز يقيت يومنا”.
وأوضحت أن باسل يذهب كل صباح لعمله في مكب النفايات القريب من مدينة الباب ليجمع قطع بلاستيك وحديد، ويبيعها، ويعود في المساء حاملاً معه 500 ليرة سورية، أي ما يعادل دولارًا أمريكيًا واحدًا، وهو لا يعد مصروفًا لشخص من العائلات المتوسطة الدخل.
أم باسل كباقي السوريات تعاني في جميع المجالات بسبب قلة تدفئة وعدم وجود المال لشراء المازوت وأطفالها لم يستطيعوا الالتحاق بالمدرسة رغم تعلقهم بها، هي مثل الكثيرات اللاتي يعملن ويقومن بتربية أطفالهم وحمل مسؤوليتهم بعد فقدان أزواجهن.
تواجه العائلات السورية حالات مأساوية في تأمين التدفئة للشتاء والأغطية لا سيما في المخيمات العشوائية والرسمية على الحدود السورية التركية
من جانبه أكد الناشط الإعلامي مصطفى بطحيش وجود عشرات الأطفال الذين يمتهنون هذه المهنة، فيجمعون المواد التالفة في مكبات النفايات لتصبح مصدر رزقهم، وهم بحاجة ماسة لرعاية خاصة ربما تعيد لهم الحياة بعد الحرب التي دمرت حياتهم وأجبرتهم على ترك المدرسة.
وأضاف بطحيش: “الأطفال يواجهون عذاب الحرب ويعيشون في ضياع وتشرد، إضافةً لانقطاعهم عن التعليم منذ السنوات الأولى للثورة السورية ربما للعمل وجلب الرزق أو لأسباب القصف الذي تعرضوا له في بلداتهم وقراهم”.
الجدير بالذكر أن الظاهرة انتشرت خلال الفترات الماضية في ريفي حلب الشمالي والشرقي، بعد اكتساب المنطقة أمانًا جزئيًا ونزوح الآلاف من المدنيين من شتى المحافظات السورية إلى المنطقة، ولكن الحاجة أوقعت العائلة في حيرة من أمرها ما بين تعليم أبنائها أو إرسالهم للعمل لتأمين قوت يومها.
تواجه العائلات السورية حالات مأساوية في تأمين التدفئة للشتاء والأغطية لا سيما في المخيمات العشوائية والرسمية على الحدود السورية التركية، وبعضهم تفتقد الطعام، فالسوريون يحلمون بتوفر نوع واحد من الطعام لسد جوعهم، في ظل غياب تام للمنظمات الإنسانية والخيرية التي تهتم بأمورهم.
لا شك أننا في مواجهة كارثة ستستمر لسنوات من جيل إلى جيل في جهل وشتات يضيع كل ما بني ويدمر المجتمع أخلاقيًا وفكريًا وعقائديًا، حتى أننا بتنا بحاجة إلى شيء يمسح ذاكرة الأطفال السوريين، من هول رأوه في الحرب، نحن بحاجة لهيكلتهم نفسيًا لإدراك الكم الهائل من النقص الذي وصلنا إليه وبنائهم تعليميًا لقيادة المجتمع بنهضة فكرية تزيل ذاك السواد الغاشم الذي يعترض طرق المستقبل، وإلا سنفشل ونتنحى جانبًا تاركين خلفنا دمارًا شاملاً لا نجاة منه ولا مفر.