“انقطاع عن العمل، الجمع بين وظيفتين، تحريض على العنف”، مجرد أمثلة ضمن قائمة طويلة من الاتهامات، يستخدمها نظام ما بعد 3 من يوليو 2013 في تمرير سياسة “التطهير الأكاديمي” لعشرات الأساتذة الجامعيين، باعتبارهم “غير موالين” لحكمه.
فخلال 4 سنوات ونصف، أقدم النظام على فصل عشرات الأكاديميين، أعضاء هيئة التدريس بعدة جامعات مصرية، في خطوة غير مسبوقة، فعلى الرغم من مصادرة أنظمة مصر المتعاقبة منذ 1952 للحريات الأكاديمية، كانت تعتبر فصل أساتذة الجامعات خطًا أحمر، حتى بعد ثورة يناير 2011، رفض المجتمع الأكاديمي بشكل صارم آراء بعض الناشطين السياسيين بشأن إقصاء الأساتذة أعضاء لجنة السياسات بالحزب الوطني المنحل.
بعد 3 من يوليو 2013، تسابقت الجامعات المصرية على دهس هذا الخط الأحمر، بإيعاز من السلطة الجديدة، وتوسعت في عمليات فصل الأكاديميين، دون أي اعتبار للتقاليد الأكاديمية المعتبرة في هذا الإطار، بحجج مختلفة واهية، مسايرةً لجو التنكيل العام بالحريات، الذي عاشته مصر – ولا تزال – منذ ذلك التوقيت.
إطلاق يد البطش بـ”القانون”
منتصف يناير 2015، أصدر عبد الفتاح السيسي، قرارًا جمهوريًا يقضي بتعديل بعض أحكام قانون تنظيم الجامعات، الصادر بقانون رقم 49 لعام 1972.
من ضمن التعديلات التي أدخلها السيسي على قانون الجامعات، فصل أعضاء هيئة التدريس الذين “يشتركون أو يحرضون أو يساعدون على العنف أو أحداث الشغب داخل الجامعات أو أي من منشآتها”، كذلك يشمل الفصل الأساتذة الذين “يمارسون الأعمال الحزبية داخل الجامعة”، أيضًا وبموجب التعديلات الجديدة، أصبح لرئيس الجامعة سلطة وقف أي عضو هيئة تدريس عن العمل بمجرد صدور قرار بإحالته للتحقيق حال توجيه أي من تلك الاتهامات له، وهكذا فتحت الصيغة الفضفاضة لتعديلات السيسي الباب للتنكيل بأي أكاديمي لا يسير على هُداه.
في يناير 2014، أقدمت جامعة الأزهر على فصل 8 أساتذة بحجة تغيبهم عن العمل لمدة 6 أشهر، كما قررت إيقاف 8 آخرين عن العمل بسبب حبسهم على ذمة قضايا جنائية تتعلق بتحريضهم على العنف
قبل هذا التاريخ، ضمن السيسي سيطرته على الجامعات، بقرار جمهوري أصدره في يونيو 2014، ينص على تعيين رؤساء الجامعات وعمداء الكليات بقرار من رئيس الجمهورية بدلًا من انتخابهم.
بعد ذلك بأربعة أشهر، تحديدًا في أكتوبر 2014، أصدر السيسي قرارًا جمهوريًا جديدًا بتعديل بعض أحكام القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها، وبمقتضاه “يُعاقب بالعزل من الخدمة بالنسبة لأعضاء هيئة التدريس، وبالفصل بالنسبة للطلاب، كل من يتورط في أي أعمال من شأنها إلحاق ضرر جسيم بالعملية التعليمية والنيل من هيبة جامعة الأزهر الشريف وعرقلة أداء رسالتها التعليمية”، هكذا أتت صيغة التعديل فضفاضة لا تنطوي على جُرم محدد، فكل ما يراه رئيس الجامعة ضررًا جسيمًا يودي بصاحبه إلى الهلاك.
ضحايا تسييس الجامعات
لم يكن الأكاديمي الشهير عمرو حمزاوي أول ضحايا سياسة “التطهير الأكاديمي”، ربما التفت المجتمع الحقوقي إلى هذه القضية بعد فصله، نهاية نوفمبر الماضي، نظرًا لشهرته السياسية الواسعة من جانب، وصعوبة اتهامه بالأخونة نظرًا لخلافه مع تيار الإسلام السياسي من جانب آخر.
على كلٍ، خلف حمزاوي توجد قائمة طويلة من الأساتذة المفصولين والمُنكل بهم، نستعرض أبرزهم، من الأقدم إلى الأحدث، في السطور القادمة:
في يناير 2014، أقدمت جامعة الأزهر على فصل 8 أساتذة بحجة تغيبهم عن العمل لمدة 6 أشهر، كما قررت إيقاف 8 آخرين عن العمل بسبب حبسهم على ذمة قضايا جنائية تتعلق بتحريضهم على العنف.
وفي أبريل 2014، قرر مجلس جامعة بني سويف، فصل الدكتور محمد بديع الأستاذ المتفرغ بكلية الطب البيطري بالجامعة، ومرشد جماعة الإخوان المسلمين، عقب صدور قرار بإحالة أوراقه إلى المفتي.
في مارس 2016، أصدر مجلس التأديب بجامعة الأزهر، قرارًا بفصل 4 أساتذة نهائيًا، بدعوى تحريضهم على التظاهرات
في مايو 2015، قضت محكمة جنايات القاهرة بإعدام 107 أشخاص، في قضيتي “التخابر” و”الهروب الكبير”، من بينهم عماد شاهين أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية والأستاذ الزائر بجامعة جورج تاون بواشنطن، مما دفعه إلى إصدار بيان أدان فيه ذلك الحكم ووصفه بـ”الصوري”، واعتبره “مظهرًا مسيئًا لاستخدام القضاء في تصفية الحسابات السياسية بشكل عشوائي وقمعي”.
في مايو أيضًا، قرر مجلس جامعة الأزهر، فصل الدكتور محمد البلتاجي الأستاذ المساعد بقسم الأنف والأذن والحنجرة بكلية طب بنين القاهرة، بعد صدور أحكام قضائية ضده.
وفي يونيو 2015، قرر مجلس جامعة الزقازيق، فصل الدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية الأسبق وعضو هيئة التدريس بكلية الهندسة، بتهمة أثارت سخرية مواقع التواصل الاجتماعي، آنذاك، وهي تهمة “انقطاعه عن العمل”، حيث يعلم الجميع أن مرسي محبوس على ذمة عدة قضايا منذ عزله في 3 من يوليو 2013.
وفي يوليو 2015، قرر مجلس جامعة الإسكندرية بالإجماع فصل الدكتور حسن البرنس أحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين، والمحبوس حاليًّا على ذمة عدة قضايا، نهائيًا من عمله كأستاذ أشعة في كلية الطب، لانقطاعه أيضًا عن العمل منذ يوليو 2013.
وفي أغسطس 2015، أصدر رئيس جامعة القاهرة، آنذاك، الدكتور جابر نصار، قرارًا بفصل اثنين من الأساتذة، وهما الدكتور حسن الشافعي رئيس مجمع اللغة العربية وأستاذ الفلسفة والنحو والصرف بكلية دار العلوم، البالغ من العمر 87 عامًا، والدكتور محمد حماسة عبد اللطيف وكيل كلية دار العلوم الأسبق، بدعوى جمعهما بين وظيفتين إحداهما بالجامعة والأخرى بمجمع اللغة العربية.
ومن المعروف أن “الشافعي” استقال من منصبه كمستشار لشيخ الأزهر، بعد فض اعتصامي ميداني رابعة العدوية والنهضة، أغسطس 2013، بطريقة خلّفت مئات الضحايا.
في نوفمبر 2017، قررت جامعة القاهرة إنهاء خدمة 6 من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، أبرزهم الدكتور عمرو حمزاوي الأستاذ المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بدعوى انقطاعه عن العمل
مستشار شيخ الأزهر السابق علّق على واقعة فصله قائلًا: “أشعر بأن فصلي مرتب، لأن رئيس الجامعة استند للمادة 171 التي تعني الغياب شهر دون إذن، لكي يفصلني، مع أنه منعني من دخول الكلية منذ 14 من يونيو الماضي”.
وفي أكتوبر 2015، أعلنت جامعة القاهرة، برئاسة جابر نصار، فصل الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، لانقطاعه عن العمل شهر متواصل، فيما وصف عبد الفتاح قرار فصله بالـ”سياسي“.
وفي مارس 2016، أصدر مجلس التأديب بجامعة الأزهر، قرارًا بفصل 4 أساتذة نهائيًا، بدعوى تحريضهم على التظاهرات، والأساتذة هم: الدكتور محمد أمر الله أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية، والدكتور حسن يونس عبيدو أستاذ التفسير وعلومه بكلية الدعوة الإسلامية، وحرمانهم من المعاش، كذلك الدكتور مدحت رمضان أستاذ القلب بكلية طب البنات بالقاهرة، والدكتور رضا المحمدي الأستاذ بكلية التربية، من كلياتهم، ومنحهم المعاش.
وفي أغسطس 2017، أصدر مجلس جامعة المنيا، قرارًا بفصل الدكتور محمد سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب السابق والأستاذ المتفرغ بكلية العلوم بالجامعة، برفقة 9 آخرين، بعد صدور أحكام قضائية ضده وانقطاعه عن العمل.
وفي سبتمبر 2017، أحال الدكتور محمد الخشت رئيس جامعة القاهرة، أربعة من أعضاء هيئة التدريس في كلية العلوم إلى التحقيق، وإيقافهم عن العمل، بتهمة الانتماء لتنظيم الإخوان، والسفر لحضور أحد مؤتمرات التنظيم في ألمانيا.
الأساتذة الأربعة هم: “الدكتور أحمد حلمي محمود إبراهيم وأحمد فتحي درويش رمضان والدكتور إسماعيل عبد الشافي عبد الحميد والدكتور عمرو محمود عبد المنعم”.
حذر مراقبون للشأن المصري من عواقب سياسات الإقصاء تلك، وتأثيرها السلبي على تراجع عملية البحث العلمي
وفي أكتوبر 2017، قرر الدكتور ماجد القمري رئيس جامعة كفر الشيخ، إنهاء خدمة 4 أساتذة بالجامعة بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان وانقطاعهم عن العمل.
وشمل القرار، الدكتور جمال أحمد الشربيني أستاذ مساعد بقسم الفارماكولوجي بكلية الصيدلة، لصدور حكم نهائي بحبسه 3 سنوات، وإسلام محمد صبري ومحمد محمد عبد الهادي السعدني المدرسان المساعدان بكلية الطب البشري، والدكتورة نهى حسني حمودة المدرس بكلية الهندسة وذلك لانقطاعهم عن العمل.
وفي نوفمبر 2017، قررت جامعة القاهرة إنهاء خدمة 6 من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، أبرزهم الدكتور عمرو حمزاوي الأستاذ المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بدعوى انقطاعه عن العمل، والدكتورة باكينام الشرقاوي مستشارة الرئيس الأسبق محمد مرسي للشئون السياسية، بحجة إدراج اسمها ضمن قائمة الإرهابيين.
4 آخرين تم فصلهم من الجامعة، بجانب حمزاوي والشرقاوي، بتهمة إدراج أسمائهم على قائمة الإرهاب، هم: رشاد البيومي أستاذ بكلية العلوم وعضو مكتب الإرشاد، وعصام الدين حشيش أستاذ بكلية الهندسة وقيادي إخواني بارز، وأحمد الزهيري أستاذ بكلية الزراعة.
من جهته، علق حمزاوي على قرار إنهاء خدمته من الجامعة، ودافع عن نفسه قائلًا: “تقدمت بطلب لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية والجامعة بقبول أن أحصل على إجازة دون مرتب للعمل في الولايات المتحدة، تقدمت بطلبات الإجازة منذ بدأت في يوليو 2017 العمل لمدة عام في مؤسسة كارنيجي وجامعة جورج واشنطن”.
وتابع: “جددت طلب الإجازة في يوليو 2017 ما إن بدأت عملي في جامعة ستانفورد وهي جهة عملي الحاليّ، في حدود معلوماتي، وافق مجلس كلية الاقتصاد والعلوم السياسية باستمرار على طلبات الإجازة بينما رفض مجلس الجامعة، واعتبر مجلس الجامعة أن طلبي ليس بمستوف لشروط الموافقة على الإجازة دون مرتب“.
أصدر اتحاد الطلبة بكلية الاقتصاد جامعة القاهرة، بيانًا، وصف فيه قرار فصل حمزاوي والشرقاوي، بأنه من “المضحكات المبكيات”
أضاف حمزاوي: “أنذرتني الجامعة بالعودة لاستلام العمل، ورددت بتجديد طلب الإجازة دون مرتب وأرفقت صورة عقد العمل مع جامعة ستانفورد، لم أحصل على مرتب من جامعة القاهرة منذ أعرت إلى الجامعة الأمريكية قبل 2015 وتوقف مرتبي من الجامعة الأمريكية منذ صيف 2015“.
واختتم تعليقه قائلًا: “بغض النظر عن الأسباب التي دفعت جامعة القاهرة لإنهاء عملي، فالأمر لا علاقة له بما ادعته بوابة الأهرام زيفًا بالجمع بين مرتبين، يؤلمني للغاية إنهاء عملي في جامعة القاهرة التي دومًا ما غمرني الشعور بالفخر بالانتماء إلى صرحها العريق”.
الإطاحة بحمزاوي والشرقاوي من الجامعة، دفعت الدكتور مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بالجامعة، إلى تقديم شهادته عن هذا الأمر قائلًا: “شهدت بنفسي تقديم طلب الدكتور عمرو حمزاوي لجامعة القاهرة الموافقة على انتدابه لجامعة ستانفورد في الولايات المتحدة، ولا أعرف ما هو تعريف الإرهاب الذي استندت إليه اللجنة الموقرة التي قررت أن الدكتورة باكينام الشرقاوي تندرج تحت قائمة الإرهابيين”.
وتابع: “باكينام أعدت رسالتيها للماجستير والدكتوراة تحت إشرافي، وكانت مثلًا طيبًا للجدية والموضوعية، وزاملتني في تدريس مقرر التنمية السياسية لطلبة السنة الثالثة في قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد”.
كما أصدر اتحاد الطلبة بكلية الاقتصاد جامعة القاهرة، بيانًا، وصف فيه قرار فصل حمزاوي والشرقاوي، بأنه من “المضحكات المبكيات”.
وفي أكتوبر 2017، خضع الدكتور يحيى القزاز أستاذ الجيولوجيا بجامعة حلوان، وأحد أبرز الوجوه المعارضة للنظام الحاليّ، للتحقيق أمام نيابة استئناف القاهرة، لاتهامه بالتحريض على قتل رئيس الجمهورية، وأخلت النيابة سبيله بكفالة 10 آلاف جنيه.
هكذا، وبعد استعراض حصاد “تسييس” المؤسسات الأكاديمية طيلة أربع سنوات ونصف، تحولت الجامعة المصرية إلى واحدة من أبرز أدوات التنكيل السياسي بمعارضي النظام.
كل ما سبق دفع مراقبون للشأن المصري للتحذير من عواقب سياسات الإقصاء تلك، وتأثيرها السلبي على تراجع عملية البحث العلمي.