“هناك الكثير الذي يربط الشعب المصري مع نظيره التركي، فهناك صلات قوية وتمازج ومصاهرة وتراث مشترك، ونأمل أن تعود العلاقة فمصر دائمًا منفتحة”، أعادت تلك التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية المصري سامح شكري، خلال حوار أجرته معه صحيفة “أخبار اليوم” المصرية (الممولة من الحكومة والداعمة لها) 22 من ديسمبر/كانون الأول، قضية التقارب بين القاهرة وأنقرة لساحة الأضواء مجددًا.
مغازلة هنا على استحياء، وترحيب هناك يشوبه التردد، يقابله حديث عن دور روسي للوساطة يهدف إلى طي صفحة العلاقات المتوترة منذ الانقلاب العسكري في مصر 2013، وتدشين مرحلة جديدة تتناسب والمستجدات الأخيرة التي أعادت رسم خريطة التحالفات في المنطقة بصورة جذرية.
ورغم تشبث كل طرف بموقفه من الطرف الآخر ذهب البعض إلى أن الأفق يلوح بتقارب محتمل قد يكون لبعض القوى الإقليمية دور فيه، لكن يبقى السؤال: ماذا عن الملفات الشائكة بين البلدين؟ وهل يمكنها عرقلة إتمام عملية المصالحة؟ وما إذا كان بالفعل هناك تقارب، ما ملامحه؟ كذلك تداعياته؟
رسالة في انتظار الرد
أعرب شكري عن أمل بلاده في عودة العلاقات مع تركيا إلى طبيعتها مرة أخرى بعد 52 شهرًا من التوتر، تخللها موجات من الشد والجذب ومنحنيات متعرجة من التراشق السياسي والإعلامي، أفسد الأجواء بصورة بات الحديث فيها عن مسألة التقارب دربًا من دروب الخيال.
وزير الخارجية المصري خلال حواره تحدث عن العلاقات التاريخية التي تربط بين الشعبين المصري والتركي، مستعرضًا بعض ملامح تلك العلاقات “فهناك صلات قوية وتمازج ومصاهرة وتراث مشترك”، آملاً أن تعود العلاقة “فمصر دائمًا منفتحة”.
ورغم بقاء الأوضاع مع تركيا على ما هي عليه حتى الآن حسبما أشار الوزير المصري، فإنه أوضح أن “مصر تؤكد الرغبة على تجاوز أي توتر، على أساس مبادئ عدم التدخل بشؤون مصر الداخلية، وعدم الإساءة لها”، ملفتًا إلى وجود بعض التغير في الموقف التركي حيال القاهرة، إذ إن الوضع لم يعد بالوتيرة السابقة، مؤكدًا “الاستماع من حين لآخر لرغبات بعض المسؤولين الأتراك للتقارب، ولكن على تركيا أن تعتمد هذه المبادئ حتى نعود لعلاقة طبيعية، تعود بالنفع والمصلحة على البلدين”، على حد قوله.
مسارات التهدئة
ظلت موجة الخصومة والتوتر بين البلدين في أوج شدتها طيلة السنوات الثلاثة التالية للانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/تموز 2017، غير أن إرهاصات تكسيرها بدأت مع منتصف 2016 حين أدلى رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، بتصريحه الذي أعرب فيه عن رغبة بلاده في تطوير علاقاتها بالقاهرة خاصة فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي.
هذا التصريح الذي أدلى به يلدريم في 20 من أغسطس/آب 2016 اعتبره البعض حينها بادرة طيبة من أنقرة لتدشين صفحة جديدة مع القاهرة حتى وإن واصل التأكيد على رفض بلاده للانقلاب العسكري كسلطة شرعية لمصر بعد الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب.
ولم يمر على هذا التصريح أكثر من يومين حتى ردت القاهرة على لسان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بعدم وجود أي دوافع للعداء بين الشعبين، المصري والتركي، آملاً مراجعة الجانب التركي موقفه تجاه النظام المصري وإعادة النظر في التصريحات الصادرة عنه.
وتواصلت بعد ذلك رسائل التهدئة بين الجانبين، خاصة في تبادل برقيات العزاء في العمليات المسلحة التي تعرضت لها البلدان خلال الفترة الماضية، لعل آخرها حادثة تفجير مسجد الروضة بشمال سيناء، 24 من نوفمبر/ تشرين الثاني، حيث أعلنت أنقرة الحداد الرسمي وقامت بتنكيس الأعلام فوق البنايات الحكومية تضامنًا مع القاهرة، كذلك إرسال الأخيرة برقيات عزاء وتنديد بالجرائم التي تعرضت لها تركيا ما بين الحين والآخر.
تطورات الموقف في سوريا في ظل أجواء التصعيد الإرهابي الداخلي، كذلك التحديات الاقتصادية والأمنية الضخمة التي تواجهها، يعد دافعًا قويًا لأنقرة من أجل تقليل مساحة التوتر في العلاقات الخارجية
في 14 من نسيان/أبريل 2016 وحين تسليم مصر قيادة منظمة التعاون الإسلامي، لتركيا، غادر وزير الخارجية المصري للجلسة بمجرد تسليم رئاسة المؤتمر للرئيس التركي، دون مصافحته، وهو ما اعتبره البعض حينها تصعيدًا جديدًا في مسار التوتر بين البلدين، إلا أن شكري شارك مؤخرًا في قمة المنظمة بإسطنبول 13 من ديسمبر/كانون الأول الحاليّ التي دعت إليها أنقرة للتصدي لقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل سفارة بلاده للقدس، وذلك قبل أن يدلي بتصريحاته الأخيرة بـ12 يومًا فقط.
اقتصاديًا.. رغم التباين السياسي الواضح بين البلدين، فإن معدلات التبادل الاقتصادي والتجاري لا تزال تسير بخطى ثابتة، ارتفعت بصورة ملحوظة خلال الأشهر الخمس الأخيرة على وجه الخصوص، وذلك حسبما جاء على لسان وزير التجارة والصناعة المصري طارق قابيل الذي أشار إلى أن الصادرات المصرية للسوق التركية سجلت زيادة كبيرة خلال الفترة من شهر يناير وحتى شهر مايو من العام الحاليّ بنسبة 52% لتبلغ 837.2 مليون دولار، مقارنةً بــ549.4 مليون دولار خلال نفس الفترة من العام الماضي، هذا بخلاف مشاركة وفد مصري في مؤتمر اقتصادي عقد مدينة قونية التركية نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم
دوافع تقود لذلك
لدى كل من القاهرة وأنقرة دوافعهما لتدشين مرحلة جديدة من العلاقات وطي الصفحة القديمة، خاصة بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي استطاع أن يوحد الصفوف مرة أخرى ولو بصورة ظاهرية خاصة بعدما أيقن الجميع أن واشنطن لا هم لها سوى خدمة المشروع الصهيوني في المنطقة، وما لهذا من تداعيات خطيرة على مستقبل دول المنطقة دون استثناء.
من الجانب التركي، فإن تطورات الموقف في سوريا في ظل أجواء التصعيد الإرهابي الداخلي وفتح جبهات جديدة من التوتر مع بعض دول أوروبا فضلاً عن أمريكا، كل هذا بالإضافة إلى الضغوط الداخلية التي تتعرض لها، كذلك التحديات الاقتصادية والأمنية الضخمة التي تواجهها، يعد دافعًا قويًا لأنقرة من أجل تقليل مساحة التوتر في العلاقات الخارجية ومنها العلاقات مع النظام المصري.
حسابات المصالح والخسائر ربما تفرض نفسها على القرار التركي فيما يتعلق بعلاقته بالقاهرة خاصة بعد فقدان المسار الثوري الكثير من زخمه ومن ثم حضوره في الشارع ما أوصله إلى مرحلة أشبه بالاكتفاء بالوضع الحاليّ على ما هو عليه حفاظًا على ما تبقى منه في انتظار سقوط النظام نتيجة فشلة أو إحداث انشقاقات بين حلفائه، ولعل هذا ما يدفع أنقرة إلى المزيد من المرونة في التعاطي مع هذا الملف.
وفي المقابل، لن يختلف الجانب المصري كثيرًا عن نظيره التركي، فالقاهرة تعي جيدًا مكانة أنقرة، ومن ثم فإن المصالحة معها تعطي النظام الحاليّ ثقلاً جديدًا على الأرض وتضمن تثبيت أركانه، كذلك ستساعده في تصدير صورة جيدة تعكس الانفتاح على المجتمع الدولي.
علاوة على ذلك فإن البُعد الاقتصادي يمثل ركنًا أصيلاً في دفع مصر إلى التقارب وإتمام المصالحة، خاصة في ظل ما يعاني منه الاقتصاد المصري من أزمات تدفعه إلى الاستفادة من العلاقات الاقتصادية التي يمكن عقدها مع تركيا حال التصالح لما للأخيرة من ثقل اقتصادي قوي في المنطقة كونها عضو مجموعة العشرين.
وزير الخارجية المصري: هناك الكثير الذي يربط الشعب المصري مع نظيره التركي، فهناك صلات قوية وتمازج ومصاهرة وتراث مشترك، ونأمل أن تعود العلاقة، فمصر دائمًا منفتحة
عقبات في الطريق
لم يكن طريق المصالحة بين الجانبين مفروشًا بالورود كما يتوهم البعض، إذ إن هناك حزمة من العقبات التي قد تجعل من إتمام هذه العملية دربًا من الخيال ما لم يتراجع أي من الطرفين عن ثوابته المعلنة التي تمثل ركيزة أساسية في الحكم لدى النظامين على حد سواء.
ففي الوقت الذي تمارس فيه بعض القوى داخل تركيا الضغوط على الحكومة لإعادة النظر في العلاقات مع القاهرة، هناك احتمالية كبيرة لرفض شعبي لأي تقارب في العلاقات، خاصة أن شرائح كبيرة من الأتراك تتعاطف مع معارضي الانقلاب وضحاياه وهو ما قد يمثل عقبة كبيرة أمام أردوغان حال تفكيره في ذلك.
كذلك فإن استضافة تركيا لمعارضي الانقلاب في مصر يمثل العقبة الأبرز في عملية التقارب التي قد تضع السلطات التركية في مواجهة حزمة من المطالب المصرية على رأسها تسليم المعارضين، علمًا بأن هذه القضية تعد من القضايا المحسومة لدى حكومة أنقرة التي لا تلتزم بمعاهدات تسليم مع مصر.
فتركيا لن تغامر بسمعتها التي بنتها طيلة السنوات الماضية من أجل مصالحها لتترك المعارضين للانقلاب الموجودين فوق أرضها لقمة سائغة للنظام في مصر حال إتمام المصالحة.
بحسب بعض المصادر فإن هناك ملفين آخرين ربما يعرقلان عملية التقارب خاصة أنهما من الثوابت التي يتمسك بها الجانب التركي ويمثلان خطًا أحمر لا يقبل المساس، وهما تحسين الملف الحقوقي في مصر والإفراج عن المعتقلين من جانب وإدماج القوى الثورية المعارضة للانقلاب في الحياة السياسية من جانب آخر، وهو ما قد تعترض عليه القاهرة بصورة كبيرة.
هل لروسيا دور؟
تسعى روسيا خلال السنوات الأخيرة الماضية نحو تفعيل وجودها في الشرق الأوسط بصورة كبيرة، ساعدها على ذلك النجاحات التي حققتها في الداخل السوري، مما أغراها نحو مزيد من التوغل وتمديد النفوذ في مجابهة الوجود الأمريكي الذي بات يتراجع بصورة كبيرة لأسباب عدة على رأسها الضغوط التي يتعرض لها على المستوى الداخلي.
صعود موسكو كلاعب أساسي في العديد من مسارح دول المنطقة الساخنة شجعها نحو تدشين تحالف جديد يكون بمثابة الظهير الإقليمي لتوجهاتها الإقليمية، مستغلة في ذلك الأخطاء التي تمارسها الولايات المتحدة التي تفقدها حلفاءها يومًا تلو الآخر، فكانت البداية بإيران ثم الصين وها هي الآن تسير نحو السعودية ومصر وتركيا.
الروس يعرفون جيدًا من أين تؤكل الكتف، لذا كان العزف على الأوتار التي قطعتها واشنطن مع حلفائها القدماء، نجحت من خلالها في فتح قنوات اتصال مع الرياض بعد سنوات من التوتر، كذلك تدشين مرحلة جديدة في العلاقات مع أنقرة سواء في سوريا من جانب والقيام بدور الوساطة بينها وبين طهران من جانب آخر، هذا بخلاف استمالة الجانب المصري عبر عدد من المشروعات على رأسها مشروع “الضبعة” النووي، كذلك المغازلة بالتلميح بعودة السياحة الروسية المتوقعة منذ أكتوبر 2015.
التقارب بين القاهرة وأنقرة في ظل وجود نظام السيسي أمر مستبعد بالكلية، مهما كانت الضغوط الممارسة علي النظام التركي
الحديث في الآونة الأخيرة كثر عن قيادة موسكو جهود الوساطة – في الخفاء – من أجل التقارب بين مصر وتركيا، يقينًا منها بأن تدشين تحالف يضم هاتين الدولتين بلا شك سيكون له ثقل إقليمي كبير يساعد بشكل أو بآخر في تحقيق المصالح الروسية في المنطقة من جانب، وتقليل النفوذ الأمريكي – الخصم التاريخي لروسيا – من جانب آخر.
ورغم نفي القاهرة على لسان وزير خارجيتها لوجود مثل هذه الوساطة الروسية، فإن آخرين ذهبوا إلى هناك العديد من الرسائل التي تقوم بها موسكو الآن لتقريب وجهات النظر بين البلدين، استكمالاً للجهود التي أثيرت قبل ذلك بشأن وساطة سعودية للعمل على نفس الملف.
هذا بخلاف ما يشاع بشأن تدخل روسي لإنهاء الأزمة الخليجية بين قطر ودول الحصار الأربعة، في مقابل أنباء عن اتصالات قطرية مع القاهرة في هذا الشأن، بخلاف ما أثير من فترة بخصوص مسارات التهدئة بين القاهرة وطهران قيل إن للروس يدًا فيها، مما يشي بتدشين مرحلة جديدة من التحالفات في المنطقة.
مساعٍ روسية لضم القاهرة إلى تحالفها الإقليمي
ما العمل؟
رغم جهود الوساطة التي تبذلها موسكو بين تركيا ومصر – حتى إن كانت في الخفاء -، فإن مسألة إتمام عملية المصالحة وتفعيل مسارات التطبيع بين البلدين بشكل كامل مسألة غاية في الصعوبة بحسب البعض، خاصة في ظل وجود قيادات الصف الأول لدى النظامين الحاليين.
فمن الصعب أن يتراجع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن ثوابته المعلنة في هذا الملف على وجه الخصوص، لا سيما الإفراج عن المعتقلين من معارضي الانقلاب على رأسهم الرئيس السابق محمد مرسي، وقيادات جماعة الإخوان المسلمين التي قد تعرضه لموقف حرج وتسيء لصورته شعبيًا.
وفي المقابل وفي ظل النظام الحاليّ من المستبعد رضوخ القاهرة للمطالب التركية – ما لم يحدث طارئ ما يغير بوصلة الاتجاهات والتوجهات بصورة كلية – وهو ما تجسده حالة العناد والصلف التي تغلف الخطاب الإعلامي المصري تجاه تركيا ورئيسها والمستمرة حتى الوقت الحاليّ رغم رسائل التهدئة بين الجانبين.
الحديث في الآونة الأخيرة كثر عن قيادة موسكو جهود الوساطة – في الخفاء – من أجل التقارب بين مصر وتركيا، يقينًا منها بأن تدشين تحالف يضم هاتين الدولتين بلا شك سيكون له ثقل إقليمي كبير
المشهد بصورته الحاليّة قد يقود الجميع إلى ما يشبه “التطبيع النسبي”، حيث تفعيل مسارات التعاون الاقتصادي والمجتمعي لتعود إلى ما كانت عليه على أقل تقدير، وهو ما تشي بعض الشواهد إليه بصورة ملحوظة، بينما تتجمد العلاقات السياسية على الأقل على مستوى قيادات الصف الأول (الرئيس والحكومة) في مقابل تهدئة إعلامية هنا وهناك.
هذا التصور الذي طرحه البعض كاستجابة منطقية للمستجدات الراهنة وما تملكه من قوة دفع للجميع لإعادة النظر في توجهاته الخارجية قلل آخرون منه بشكل قاطع، منوهين إلى أن التقارب بين القاهرة وأنقرة في ظل وجود نظام السيسي أمر مستبعد بالكلية، مهما كانت الضغوط الممارسة على النظام التركي الذي نجح في فتح آفاق جديدة في العلاقات الخارجية – خاصة مع روسيا وإيران وما تحقق من تطور في المشهد السوري -، قللت بشكل واضح من حدة الانتقادات الداخلية، ومن ثم ما عادت هناك حاجة لأنقرة أن تتنازل عن ثوابتها لتمد يدها للنظام في القاهرة.