حكمت دولة المرابطين بلاد المغرب والأندلس وجزءًا كبيرًا من بلاد السودان جنوب الصحراء طيلة أكثر من 90 سنة، تداول خلالها حكام الدولة السلطة سلميًا، فما إن يتوفى أمير المسلمين حتى يحل محله ولي العهد المعين سابقًا، إلا في مرة واحدة لم يحدث ذلك وهي المرة التي أذنت بسقوط الدولة.
سنة 539 هجريًا توفي أمير المسلمين، تاشفين بن علي، في وهران خلال حربه مع الموحدين، وتولى من بعده ابنه إبراهيم الحكم، لكن هذه المرة حدث ما لم يكن متوقعًا، فقد ثار أحد أفراد العائلة الحاكمة على الأمير الجديد.
اعترض إسحاق بن علي على حكم ابن أخيه وحاربه في السلطة إلى أن تمكن منه وعزله بعد أشهر قليلة من اعتلائه عرش المرابطين المهدد من الموحدين الزاحفين على مركز الحكم في مراكش، وما هي إلا سنة حتى انهارت الدولة.
نعود في هذا التقرير ضمن ملف “الأمراء التسعة” بالزمن إلى الوراء قليلًا للحديث عن الأمير إسحاق بن علي وكيفية توليه الحكم والمظاهر التي سادت في أثناء ولايته وسقوط دولة المرابطين.
إسحاق بن علي ..صراع على السلطة
لم تتطرق كتب التاريخ إلى نشأة إسحاق بن علي ولم تذكر تاريخ ولادته ولا مكانه، ذلك أن المرابطين لم يهتموا كثيرًا بالتدوين وكانوا يهتمون طيلة فترة حكمهم بالفتح والجهاد في سبيل الله حتى تعلو كلمة الله في بلاد المغرب والأندلس وجنوب الصحراء.
يعود أول ذكر لإسحاق بن علي وفق بعض المراجع التاريخية، حينما عزم أبوه أمير المسلمين، علي بن يوسف بن تاشفين، مبايعته وليًا للعهد سنة 536 هجريًا عوضًا عن أخيه تاشفين بن علي بعد فشل الأخير في صدّ الموحدين الراغبين في إسقاط دولة المرابطين والحكم مكانها.
ويذكر ابن عذاري المراكشي في كتاب “البيان المُغْرِب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب”، “أن أمير المسلمين عليا، حين رأى توالي فشل ولده تاشفين في محاربة الموحدين ساءه ذلك، وعزم على إقالته وأن يقدم مكانه ولده إسحاق وكتب بالفعل إلى عامله على إشبيلية عمر بالقدوم ليجعله مدبر ولده وكان ذلك سنة 536 هجري، بيد أنه يبدو أنه لم يجد متسعًا من الوقت لتحقيق هذا العزم، إذ توفي بعد ذلك بأشهر قليلة”.
انهزم المرابطون وتتبعهم الموحدون بالقتل واقتحموا عليهم مراكش، في آخر شوال سنة 541 هجريًا
مع وفاة أمير المسلمين تاشفين بن علي، رأى الأمير إسحاق أن الفرصة مواتية للظفر بالسلطة خاصة أن ولي العهد الأمير إبراهيم ما زال صغيرًا ولا يقوى على أمور الدولة والحرب في هذه الظرفية الحساسة التي تشهدها دولة المرابطين.
وفي تلك الفترة كان المرابطون في حرب مع الموحدين خسروا أغلب جولاتها وفقدوا معظم أرضهم في بلاد المغرب وجنوب الصحراء وملكهم في الأندلس مهدد من ملوك الإفرنج والصليبيين ومن عائلات ملوك الطوائف الراغبة في الحكم مجددًا.
وما إن تمت البيعة لإبراهيم كأمير للمسلمين خلفًا لوالده، حتى عارضه عمه ونادى بالبيعة لنفسه وحشد خلفه جمعًا مع قادة لمتونة والأهالي الذين سئموا الوضع العام في البلاد، وظنوا أن الأمير إبراهيم بن تاشفين غير قادر على مواجهة الموحدين.
بداية الانهيار
تمكن الأمير إسحاق من عزل أمير المسلمين إبراهيم والجلوس على عرش المرابطين، إلا أنه لم يستطع الحفاظ على عرشه طويلًا، فما إن تولى الحكم حتى بلغته أخبار سقوط تلمسان في يد الموحدين في بداية سنة 540 هجريًا، وانفصال العديد من القبائل عن المرابطين، فعمت الفوضى في مراكش وبعض المدن الأخرى.
وفي نفس السنة، سقطت مدينة فاس بعد حصار شديد وقطع النهر الداخل إليها بالسدود حتى انحسر الماء فوقها، ثم فُتحت السدود فزحف الماء على المدينة دفعة واحدة فهدم سورها وبيوتها، وهلك بها خلق كثير، وبقيت فاس دون سور حتى أعيد بناؤه سنة 600 هجري.
وتلت فاس، مكناسة بعد أن حاصرها يحيى بن يغمور وهو من قادة الموحدين، وسقطت سلا وسلم أهل سبتة المدينة، وتوالى فيما بعد سقوط المدن والقرى المغربية، وقائد الموحدين في طريقه إلى مراكش، مركز حكم المرابطين وعصب الدولة.
سيطر الموحدون على سائر القواعد الجنوبية فيما عدا مراكش، وبسطوا نفوذهم على سائر الشغور الشمالية، ما عدا الركن الشمالي الغربي، ولم يكن هناك أي شك أن دولة المرابطين كانت تسير إلى نهايتها المحتومة بسرعة.
في تلك الأثناء، وفد قائد الأسطول الأندلسي المرابطي، علي بن عيسى بن ميمون، إلى قائد الموحدين عبد المؤمن وقدم له الطاعة، ثم عاد إلى الأندلس وأقام الخطبة للموحدين بجامع قادس، وهي مركز قيادة الأسطول في تلك الفترة، وقدم أهل سبتة أيضًا يقدمون الطاعة للموحدين.
وصل عبد المؤمن بن علي مدينة مراكش سنة 541 هجريًا، وبدأ أمير المسلمين حينها، إسحاق بن علي، بتحصين المدينة وتقوية دفاعاتها، خاصة أنه تيقن أن الحرب المباشرة مع الموحدين لن تجدي نفعًا في ظل تململ الجند والأهالي.
نزل قائد الموحدين عند جبل بقرب مراكش يسمى جبل جليز، وهناك تم بناء مسجد وصومعة يشرف من خلالهما على المدينة المحاصرة من الاتجاهات الأربع، واستمر الحصار لتسعة أشهر وأعداد الموحدين في تزايد والمرابطين في تراجع.
نتيجة الحصار، نفد الطعام من المخازن وأُعدمت الحيوانات، فاشتد الجوع والعطش بأهل مراكش ومات عدد كبير منهم، فاضطر ما بقي من جيوش الدولة المرابطية للمواجهة المباشرة، لكن الهزيمة كانت تنتظرهم لضعف العدد والعتاد وكثرة الضيق والشدة.
انهزم المرابطون وتتبعهم الموحدون بالقتل واقتحموا عليهم مراكش، في آخر شوال سنة 541 هجريًا، وهرب الأمير إسحاق وبعض أعيان الدولة المنهارة إلى القصبة، ولحقهم الموحدون إلى أن تمكنوا منهم وتم القبض على الأمير وأحضر بين يدي عبد المؤمن فقتله.
سقوط دولة المرابطين
بسقوط مراكش وموت الأمير إسحاق بن علي، انهارت دولة المرابطين وانتهى عصر الملثمين الذين سيطروا على رقعة جغرافية تمتد من المحيط الأطلسي غربًا وموريتانيا وحوض نهر السنغال جنوبًا، وامتدّت شرقًا لتحاذي إمبراطورية كانم وتزاحمها على بحيرة تشاد، أما شمالًا فقد اخترقت جبال الأطلس، وشملت أجزاءً من شبه الجزيرة الأيبيرية، وسيطرت على بلاد الأندلس لمدة تزيد على 90 سنة.
وسرعان ما سير قائد الموحدين جيوشه للسيطرة على الأندلس، فسيطر على رندة غلب ثم لبلة ثم مرتلة وشلب، ثم على باجة وبطليوس، وأعقب ذلك السيطرة على إشبيلية التي اعتبرت حاضرة دولة الموحدين في الأندلس ثم مالقة، وبعد أقل من عامين سيطروا على مدينتي جيان وقرطبة.
استنفدت دولة المرابطين أموالها خلال حرب الموحدين التي امتدت قرابة 20 سنة
ويعود سقوط دولة المرابطين إلى أسباب عديدة، منها تركيز قادتها على الجهاد وإهمال أمور الدولة، وانعزال القضاة المكلفين بنشر العدل عن الرعية واهتمامهم بالمسائل الجدالية، ما ساهم في انتشار الفساد ومظاهر الظلم بين العباد.
إضافة إلى طمع بعض القادة والأمراء في الحكم، دون أن ننسى تحرش الصليبيين والإفرنج بهم في الشمال، بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية التي عرفتها البلاد في الفترة الأخيرة من حكمها.
أما السبب الأبرز والأهم، فهو بروز الموحدين وقائدهم المهدي بن تومرت الذين أفتى بكفر حكام المرابطين ومن تبعهم، وقد استغل الموحدون الأسباب السابقة لضرب المرابطين وافتكاك مناطق سيطرتهم منهم.
واستنفدت دولة المرابطين أموالها خلال حرب الموحدين التي امتدت قرابة 20 سنة، فيما كان توالي هزائم جيش المرابطين وتمزق صفوفه وفناء أغلب قائدته وتراجع معنوياته وانفضاض العديد من القبائل عن الدولة، يؤذن بأن الانهيار قادم لا محالة وبسرعة مهما كانت المقاومة.
نجح الموحدون في إسقاط المرابطين وإقامة دولة على أنقاض دولتهم في المغرب والأندلس، وامتد حكمهم خلال قرن ونصف إلى مناطق أوسع شملت تونس وليبيا ووحدت شمال إفريقيا وجنوب الصحراء والأندلس تحت راية واحدة للمرة الأولى في التاريخ.