تفاجأ الشارع السوري في الأيام القليلة الماضية بمجموعة من القرارات أصدرتها “حكومة الإنقاذ” القائمة في إدلب، منها إلزام كل أرملة بالسكن مع محرم شرعي لها أو بجانبه وذلك بانتقالها لمكان إقامته أو نقله لمكان إقامتها، وإلزام كل مالك لسيارة أو دراجة نارية بتسجيلها مع دفع رسوم معينة وإلا سيتم مضاعفة الرسوم وحجز الدراجة، وهما أبرز قرارين أثارا الجدل وأشعلا السخط وأبانا عن عقلية المتصدرين في هذه الحكومة الوليدة.
يمكن القول بكل أريحية إن حكومة الإنقاذ التي تشكلت مطلع نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، زادت من رصيدها السلبي عند الناس بهذه الحزمة من الإجراءات خاصة أن الكثيرين ينظرون إليها بعين الريبة كون نشأتها مشبوهة من حيث الظرف التاريخي السياسي، وتمثيلها الجماهيري ضعيفًا كونها مرتبطة من حيث الولادة والسياسة والتوجيه بفصيل معين لا بالشعب.
على كل حال، وبصرف النظر عن أنها لا تسمى حكومة بالمعنى السياسي للحكم، ولم تُنتخب ويؤخذ رأي جمهور الناس بوزرائها، وأنها تابعة لهيئة تحرير الشام ذات الصيت غير الحسن، فبمعزل عن كل هذا وذاك فإن القرارات التي افتتحت مشوارها بها غريبة بل شاذة ولا يمكن تفسيرها تحت أي معنى، ومفعولها العملي لا يكسب الناس القلقة بسبب التطورات العسكرية الراهنة ووصول النظام إلى تخوم إدلب إلا قلقًا وحزنًا، ولا يزيد الشعب المرهق بتكاليف الحياة إلا رهقًا وبؤسًا، ولعمري إن كان هذا عنوان البداية في ظل الحرب، فكيف تكون عناوين المستقبل في ظل الاستقرار والأمان؟!
إن الأعمال التي ينبغي على أي حكومة أو تشكيل إداري أن يقوم بها في فترة الحرب والمدافعة لإدارة شؤون الناس والإشراف على مصالحهم حتى لا تبقى معطلة يلزم أن يقوم حجر الأساس فيها على الرعاية لا الجباية
مع كل محاولات التسويغ وإضفاء الشرعية وإعطاء الصورة الجميلة على هذه القرارات من وزير الشؤون الاجتماعية والمهجرين محمد علي عامر، وكذلك رئيس الحكومة الدكتور محمد الشيخ، فإن غضبة الناس لم تهدأ واستهجانهم لم يسكن.
وقد انتشر مقطع مرئي على وسائل التواصل الاجتماعي لأحمد عبد الجواد أحد وجوه العشائر في المخيمات السورية يتكلم فيه بمحضر رئيس الحكومة بمنتهى الإنكار: “المهجَّر الذي يسكن بخيمة، صدرت قرارات من الحكومة بأن خيمته التي اشتراها من ماله ممنوع أن يتصرف بها، من بنى حجارة من أجل أن تؤويه حر الصيف وقر الشتاء ممنوع أن يتصرف بها، فرضت الضرائب على أصحاب المحال التجارية داخل المخيمات، فرضت الضرائب على سائقي الدراجات، ولم نر بالمقابل من الحكومة شيئًا، فأنتم تفرضون علينا الضرائب التي تزيد معاناتنا قبل أن نرى الخدمات والواجبات التي عليكم أن تؤدوها للنازحين، واعتبر أن الناس في المخيمات “وصلت لدرجة من الاحتقان لا يعلم بها إلا الله تعالى”.
وأضاف بلهجة صريحة “الآن أنتم كوزراء وكحكومة وكمسؤولين نطالبكم بداية أن تأخذوا أغراضكم ومتاعكم وتسكنوا في تلك المخيمات، وأن تركبوا الدراجات النارية، وتجلسوا في تلك المحال التجارية، ومن ثم أصدروا هذه القرارات”، ولعل ما انتشر وذاع خبره أخف لهجة وألطف مقالًا مما لم ينتشر، وليس خافيًا على كل قريب من أحوال الشعب أن هذا الشخص قد عبر عن مكنون صدورهم وتكلم بلسان حالهم.
في هذا السياق يصرح لـ”نون بوست” الناشط السياسي مصطفى سليمان قائلًا: “من لديه دراجة نارية أو سيارة في وضع الثورة لا يعتبر من الرجال الأغنياء، خاصة أن هذه الوسائل يستخدمها الناس غالبًا – ما عدا أمراء الحرب – لقضاء حوائجهم وإسعاف أبنائهم وما شاكل ذلك، والرأي العام يرى هذه القرارات خدمة مالية لا للحكومة إنما للفصيل الذي تتبع له الحكومة”.
ورأى أن القرار المتعلق بالأرامل محرج جدًا لهذه الحكومة، وبحسب اطلاعه فإن “نسبة مهمة من هؤلاء النسوة أرامل لشهداء سقطوا في معارك استنزافية وموجهة من الخارج، وإذا أرادت الحكومة معالجة مشكلة الأرامل ينبغي أن تعالجها بتحرير أراضيهم وإعادتهم لأهلهم وذويهم، حينها تجلس المرأة في بيت أهلها أو بيت حموِّها بشكل طبيعي”.
إن العقلية العسكرية تقوم مفاهيمها في الحكم على القهر والبطش والتسلط وسوء التدبير، وحكومة الإنقاذ لا تتجاوز هذا الوصف ولو تمظهر القائمون عليها بمظهر السياسي ولبسوا أفخم القمصان وتَحلَّوا بأبهى ربطات العنق
إن الأعمال التي ينبغي على أي حكومة أو تشكيل إداري أن يقوم بها في فترة الحرب والمدافعة لإدارة شؤون الناس والإشراف على مصالحهم حتى لا تبقى معطلة يلزم أن يقوم حجر الأساس فيها على الرعاية لا الجباية، على تقديم الخدمات وتخفيف الأعباء على الناس المقيم فيهم والمُهجَّر.
نعم إن القرارات السالفة للحكومة شاذة لأن إيصال الكهرباء للناس بعدما أثقلت ظهورهم أثمان الاشتراكات وألواح الطاقة البديلة أولى من إلزام الناس برسوم على السيارات والدراجات النارية مهما كانت الضريبة زهيدة وهذا فعل مقدور عل الحكومة أن تطبقه.
نعم هي شاذة لأن بناء مجمعات سكنية جديدة تريح النازحين من أسعار الإيجار الباهظة أولى من إلزام الأرملة بالسكنى بجانب أحد محارمها – هذا على فرض أن هذا القرار له مستند من التشريع الإسلامي كما زعم البيان – وأيضًا هذا فعل ميسور على الحكومة أن تنفذه.
نعم هي شاذة لأن إزالة الضرائب عن السلع والمواد الأساسية وبخاصة الإستراتيجية منها كالمازوت والغاز أولى وأهم وأعظم.
إن العقلية العسكرية تقوم مفاهيمها في الحكم على القهر والبطش والتسلط وسوء التدبير، وحكومة الإنقاذ لا تتجاوز هذا الوصف ولو تمظهر القائمون عليها بمظهر السياسي ولبسوا أفخم القمصان وتَحلَّوا بأبهى ربطات العنق، لا تخرج عن هذا الحال ما دامت موصولة بتنظيم عسكري، وشعب سوريا كما كل شعوب هذه المنطقة على وجه الخصوص يحتاج إلى قيادة سياسية تمثل إرادته وقيمه، تقوم مفاهيمها في الحكم على أساس الرعاية، والرعاية تكون بالرحمة والرفق وحسن التدبير.