ترجمة وتحرير نون بوست
مع امتداد الاحتجاجات الطلابية الحاشدة بسرعة إلى الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأسبوع الماضي، وانتشار احتجاجات أخرى في بريطانيا وأماكن أخرى في أوروبا، أعطت وسائل الإعلام الغربية مركز الصدارة لرجل واحد للتحكيم بشأن ما إذا كان ينبغي السماح باستمرار المظاهرات: الرئيس الأمريكي جو بايدن.
نقلت وسائل الإعلام الرسمية بكل احترام رسالة الرئيس بأن الاحتجاجات كانت عنيفة وخطيرة، وتعاملت مع تقييمه كما لو أنه كلام خُطّ على لوح من حجر. أعلن بايدن أن المتظاهرين ليس لهم “الحق في إثارة الفوضى”، وأعطى الضوء الأخضر للشرطة للتدخل بقوة أكبر لإخلاء المخيّمات. وهذا الأسبوع، أثار بايدن المخاطر أكثر من خلال الإشارة إلى أن الاحتجاجات دليل على “تصاعد شرس” لمعاداة السامية في الولايات المتحدة.
وفقًا للتقارير، اعتُقل أكثر من 2000 متظاهر بعد أن قام بعض مديري الجامعات – تحت ضغط متزايد من البيت الأبيض والمانحين الأثرياء – باستدعاء الشرطة المحليّة. وبموافقته على سحق المعارضة، ناقض بايدن نفسه: “نحن لسنا أمة استبدادية نُسكت الناس أو نسحق المعارضة، لكن النظام يجب أن يسود”. لكن مشكلةً صغيرة واحدة لم تُذكر: لم يكن بايدن طرفًا محايدًا، في الواقع، وكان تضارب المصالح لديه هائلاً لدرجة أنه يمكن رؤيته من الفضاء الخارجي، مثل الضرر الذي لحق بغزة.
يدعوا الطلاب جامعاتهم إلى سحب جميع الاستثمارات من الشركات التي تساعد “إسرائيل” في تنفيذ ما وصفته المحكمة الدولية بإبادة جماعية “معقولة” في غزة، ويتم توريد الأسلحة بكميات ضخمة، ويعود الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى قرارات رجل واحد. نعم، إنه جو بايدن.
بايدن ضد القانون
“النظام” الذي يريد الرئيس الأمريكي أن يسود هو ذلك الذي تظل فيه قراراته بعرقلة أي وقف لإطلاق النار وتسليح المذبحة والتشويه واليتم لعشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين دون منازع. لقد كان بايدن متساهلًا للغاية مع تدمير “إسرائيل” لغزة، لدرجة أن حكومة بنيامين نتنياهو تجاوزت “الخط الأحمر” المفترض للرئيس هذا الأسبوع. شنت “إسرائيل” المراحل الأولى من هجومها النهائي الذي هددت به منذ فترة طويلة على مدينة رفح في جنوب قطاع غزة حيث يتجمع نحو 1.3 مليون فلسطيني في خيام مؤقتة.
كان بإمكان بايدن بسهولة أن يجبر “إسرائيل” على تغيير مسارها في أي وقت خلال الأشهر السبعة الماضية، لكنه اختار عدم القيام بذلك. وحتى عندما تظاهر بالقلق إزاء الارتفاع المستمر في عدد القتلى بين المدنيين الفلسطينيين، فقط في ظل الضغط الشعبي المتزايد الذي غذته الاحتجاجات، بدا أخيرًا وكأنه يوقف شحنات الأسلحة مع اشتداد الهجوم على رفح.
سمح البيت الأبيض بشحن كميات كبيرة من الأسلحة إلى “إسرائيل”، بما في ذلك القنابل التي يبلغ وزنها 2000 رطل والتي سوّت أحياءً بأكملها بالأرض، مما أسفر عن مقتل رجال ونساء وأطفال على الفور أو تركهم محاصرين تحت الأنقاض ليختنقوا ببطء أو يتضوّروا جوعًا حتى الموت.
في أواخر الشهر الماضي، وقّع بايدن على مبلغ إضافي قدره 26 مليار دولارًا من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين لـ”إسرائيل”، معظمها مساعدات عسكرية – في الوقت الذي تم فيه الكشف عن المقابر الجماعية للفلسطينيين الذين قتلتهم “إسرائيل” – ولم يتمكن من القيام بذلك إلا من خلال التجاهل الصارخ لمتطلبات القانون الأمريكي التي تنص على عدم توفير أي أسلحة قد يتم استخدامها بطرق من المحتمل أن تشكل جرائم حرب.
حذّرت جماعات حقوق الإنسان إدارته مرارًا وتكرارًا من أن “إسرائيل” تنتهك القانون الدولي بشكل ممنهج. وحسب ما ورد، وقّع ما لا يقل عن 20 من محامي إدارة بايدن على رسالة مفادها أن تصرفات “إسرائيل” تنتهك مجموعة من القوانين الأمريكية، بما في ذلك قانون مراقبة تصدير الأسلحة وقوانين ليهي، بالإضافة إلى اتفاقيات جنيف. وفي الوقت نفسه، تظهر تحقيقات وزارة الخارجية أنه حتى قبل أن يبدأ تدمير “إسرائيل” لغزة قبل سبعة أشهر، كانت خمس وحدات عسكرية إسرائيلية ترتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان للفلسطينيين في هذا الجيب المنفصل بالضفة الغربية المحتلة.
هناك، لا تملك “إسرائيل” حتى العذر الذي يناسب الجميع بأن إساءة معاملة المدنيين الفلسطينيين وقتلهم يشكل “أضراراً جانبية” مؤسفة في عملية “القضاء على حماس”، فالضفة الغربية تخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس، وليس حماس. مع ذلك، لم يتم اتخاذ أي إجراء لوقف عمليات نقل الأسلحة، ويبدو أن القوانين الأمريكية لا تنطبق على إدارة بايدن، مثلما لا ينطبق القانون الدولي على “إسرائيل”.
احتجاج الرمال المتحركة
من خلال حرمان الطلاب من حق الاحتجاج على تسليح الولايات المتحدة للإبادة الجماعية المعقولة التي ترتكبها “إسرائيل”، يحرمهم بايدن أيضًا من حق الاحتجاج على السياسة الأكثر أهمية في فترة ولايته التي تمتد لأربع سنوات – وعلى الأقل في العقدين الأخيرين من السياسة الخارجية الأمريكية، منذ الغزو الأمريكي للعراق. وكل هذا يحدث في عام الانتخابات الرئاسية.
ولهدف المباشر للطلاب هو وقف تواطؤ جامعاتهم في ذبح عشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة، ولكن هناك هدفان واضحان أوسع نطاقًا. الأول لفت الانتباه مرة أخرى إلى المعاناة التي لا نهاية لها للفلسطينيين في هذا الجيب الصغير المحاصر. حتى الهجوم الذي وقع هذا الأسبوع على رفح، كانت محنة غزة قد تراجعت بشكل متزايد عن الصفحات الأولى، حتى مع تفاقم المجاعة والمرض اللذان تسببت فيهما “إسرائيل” خلال الشهر الماضي.
عندما تصدرت غزة الأخبار، كان ذلك دائمًا من خلال عدسة لا علاقة لها بالذبح والمجاعة، بل بتفاصيل المفاوضات التي لا تنتهي، أو التوترات السياسية بشأن “الغزو” الإسرائيلي لرفح، أو خطط “اليوم التالي” في غزة، أو محنة الرهائن الإسرائيليين، أو معاناة عائلاتهم، أو أين يمكن وضع حد لحرية التعبير في انتقاد “إسرائيل”. أما الهدف الثاني للطلاب هو جعل مواصلة توفير الأسلحة والغطاء الدبلوماسي الذي سمح لـ “إسرائيل” بتصرفاتها ــ من الذبح إلى المجاعة، والآن الدمار الوشيك لرفح – أمرًا غير مريح سياسيًا بالنسبة لبايدن.
يحاول الطلاب تغيير الحوار الوطني بطرق من شأنها الضغط على بايدن لوقف خرقه الواضح للقانون. لكنهم واجهوا المشكلة المعتادة: الحوار الوطني تمليه إلى حد كبير الطبقة السياسية والإعلامية بما يخدم مصالحها الخاصة، ويبدو أنهم جميعًا يؤيّدون استمرار الإبادة الجماعية، بغض النظر عما ينص عليه القانون. وهذا يعني أن وسائل الإعلام أعادت تركيز اهتمامها بعناية، وتعاملت حصريًا مع طبيعة الاحتجاجات – والتهديد المفترض الذي تشكله على “النظام” – دون معالجة موضوع الاحتجاجات فعليًا.
حذّرت رئيسة برنامج المساعدات الغذائية التابع للأمم المتحدة، سيندي ماكين، يوم الأحد الماضي، من أن شمال غزة يقع في قبضة “المجاعة الشاملة”، وأن الجنوب ليس بعيدًا عن ذلك. وتعليقا على وفاة عشرات الأطفال بسبب الجفاف وسوء التغذية، قالت: “إنه أمر مرعب”.
حذّر مدير منظمة اليونيسف الأسبوع الماضي، قبل أيام قليلة من أمر “إسرائيل” بإخلاء شرق رفح، قائلاً: “إن جميع الأطفال تقريبًا البالغ عددهم حوالي 600 ألف طفل المحاصرين الآن في رفح إما مصابون أو مرضى أو يعانون من سوء التغذية أو يعانون من الصدمة أو من إعاقات”.
كشف تقرير منفصل للأمم المتحدة مؤخرًا أن إعادة بناء غزة سيستغرق 80 سنة، استنادا إلى المستويات التاريخية للمواد التي سمحت إسرائيل بدخولها، وفي أفضل السيناريوهات – وهو سيناريو غير محتمل إلى حد كبير – سوف يستغرق الأمر 16 سنة. وكما هو الحال دائمًا، كان لصحفيي المؤسسة الحاكمة دور أساسي في صرف الانتباه عن هذه الحقائق المروعة.
وجد الطلاب أنفسهم عالقين في احتجاج يشبه الرمال المتحركة: فكلما ناضلوا من أجل لفت الانتباه إلى الإبادة الجماعية في غزة، اختفت الإبادة الجماعية في غزة أكثر عن الأنظار، واستغلت وسائل الإعلام نضالهم كذريعة لتجاهل غزة وتسليط الضوء على احتجاجاتهم بدلاً من ذلك.
الشعور “بعدم الأمان”
كانت حركة الاحتجاج الطلابية سلمية بشكل ملحوظ، وهي الحقيقة الأكثر وضوحًا عند مقارنتها باحتجاجات حياة السود مهمة التي اجتاحت الولايات المتحدة في سنة 2020، بموافقة بايدن. قبل أربع سنوات، كانت هناك حوادث عديدة من الأضرار التي لحقت بالممتلكات، لكن هذا لم يُسمع به من قبل في الاحتجاجات الطلابية، التي اقتصرت في الغالب على المخيمات في حدائق الحرم الجامعي.
في البداية، كانت فكرة عنف الاحتجاجات الطلابية تعتمد على ادعاء غير مرجح إلى حد كبير: وهو أن الهتافات التي تدعو إلى تحرير الفلسطينيين من الاحتلال، أو إلى المساواة بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين، كانت معادية للسامية بطبيعتها. كان على التغطية أن تتجاهل بشكل متعمد حقيقة أن شريحة كبيرة من المتظاهرين في الحرم الجامعي كانوا من اليهود.
ثم تمّ بعد ذلك وضع السرد المفبرك في وسائل الإعلام لتحقيق غرض خبيث. أفادت التقارير بأن اليهود الصهاينة في الحرم الجامعي – أولئك الذين يتعاطفون مع “إسرائيل” بدلاً من الحركة العالمية لوقف الإبادة الجماعية – يشعرون بعدم الارتياح عند مواجهة الاحتجاجات أو “عدم الأمان” كما تسميه وسائل الإعلام.
في خضم كل هذه الهستيريا، بدا أنه لا أحد يهتم بمدى شعور الطلاب اليهود المناهضين للصهيونية “بعدم الأمان”، أو الطلاب الفلسطينيين والمسلمين، بعد أن وُصفوا علنًا بمعادي السامية وأنهم تهديد “للنظام” من قبل الكونغرس والرئيس. لكن هذا سيصبح قريبًا أكثر من مجرد صراع مشاعر.
بسبب إدانات بايدن والضغوط السياسية والمالية على الجامعات، اتخذت الإدارات خطوةً غير عاديّة بدعوة قوات الشرطة المحلية إلى حرمها الجامعي، وسرعان ما تم حشد شرطة مكافحة الشغب ضد الطلاب. ومع تصاعد المناخ السياسي والإعلامي ضد الحرية الأكاديمية والحق في الاحتجاج على قضايا “إسرائيل” والإبادة الجماعية، خرج موظفو الجامعة لإظهار الدعم لطلابهم المحاصرين.
في كلية دارتموث في نيو هامبشاير، على سبيل المثال، انضمت البروفيسورة اليهودية أنيليز أورليك إلى زملائها الذين كانوا يأملون حماية طلابهم من خلال وضع أنفسهم بين الشرطة والمخيمات. وقد تكرّر هذا النمط في جميع أنحاء البلاد. قالت لبرنامج “الديمقراطية الآن” إن الشرطة عازمة بشكل واضح على تفكيك المخيمات باستخدام القوة. وكانت أورليك، الرئيسة السابقة لقسم الدراسات اليهودية، واحدة من العديد من الأساتذة ذوي الشعر الرمادي الذين تم تصويرهم وهم يتعرضون للاعتداء من قبل الشرطة. وفي حالتها، كانت تقوم بتصوير الاعتقالات العنيفة للطلاب عندما قام ضابط شرطة بضربها من الخلف. وعندما حاولت النهوض، طرحها على الأرض، وثبتها بركبته في ظهرها وربطها بسحاب. كما تم اعتقال جيل ستاين، وهي يهودية بارزة أخرى ومرشحة حزب الخضر في الانتخابات الرئاسية في وقت لاحق من هذا العام، أثناء مظاهرة.
الذعر الأخلاقي
بذلت وسائل الإعلام جهودا حثيثة لتقديم مبررات لهذا الاعتداء على الحريات التي كانت تعتبر أمرا مفروغا منه. وتوضح إحدى حالات الذعر الأخلاقي ـ وهي قصة مزيفة تمامًا عن “العنف” الاحتجاجي في الحرم الجامعي ضد طالبة يهودية في جامعة ييل ـ مدى عمق هذه الظاهرة. يظهر مقطع الفيديو الخاص بالحادثة طالبة يهودية وهي تضغط على نفسها ضد مسيرة احتجاجية في الحرم الجامعي، على الأرجح كجزء من احتجاجها المضاد لصالح استمرار “إسرائيل” في الإبادة الجماعية. وفي لحظة ما، لامس وجهها علمًا فلسطينيًا صغيرًا.
كانت مقاطع فنان الفيديو، مات أورفيا، للتغطية الهستيرية الناتجة ستكون مضحكة لو لم تكن المخاطر خطيرة. صرخ سيل من العناوين الرئيسية ومقدمي البرامج التلفزيونية بنبرة مرعبة: “طالبة يهودية طُعنت في عينها” و”طُعنت لكونها يهودية”. إن استثمار وسائل الإعلام في الغضب الصادم نيابة عن إحدى الطالبات – التي تقول، حتى في تقييمها الخاص، إن أسوأ إصابة تعرضت لها كانت الصداع – بسبب مواجهة غير ملحوظة في واحدة من العشرات من الاحتجاجات في الحرم الجامعي في الولايات المتحدة هو القصة الحقيقية.
لو كان لدى صناعة الإعلام ضمير ولو قليلا، لكان من الممكن أن يتوقف الصحفيون الذين يبالغون في الاهتمام بطالبة من جامعة ييل تعاني من الصداع ليتساءلوا عن ما إذا كان من الواجب إعادة توجيه بعض هذه المخاوف إلى مكان آخر ــ كما تطالب الاحتجاجات في الحرم الجامعي – مثلا نحو مقتل عشرات الآلاف من الأطفال بسبب القنابل الأمريكية وتضوّرهم جوعا بسبب حصار التمويل الأمريكي على وكالة الإغاثة الرئيسية التابعة للأمم المتحدة، الأونروا، أو تدمير “إسرائيل” لكل جامعة من جامعات غزة الـ12.
ظهرت أكاذيب مماثلة بشكل كامل في التغطية الإعلامية للاحتجاجات في جامعة كاليفورنيا عندما تراجعت الشرطة لفترة وجيزة عن مواجهتها مع الطلاب. اغتنمت مجموعة ملثمة من الناشطين المؤيدين لـ “إسرائيل” – على ما يبدو غير مسجلين في الجامعة – الفرصة لاقتحام الحرم الجامعي، وإلقاء الألعاب النارية داخل المخيم، وتدميره وضرب الطلاب. استغرقت الشرطة عدة ساعات لتظهر. ويبدو أنه لم يتم القبض على أي من “المتظاهرين المناهضين”.
على الرغم من الأدلة الواضحة والمصوّرة على الهجوم على الطلاب، صورته وسائل الإعلام بشكل موحد على أنه “صدام” بين مجموعتين متنافستين من المتظاهرين العنيفين. وفي العديد من الحالات، ألمحت التقارير، بما في ذلك التقارير الصادرة عن هيئة الإذاعة البريطانية، إلى أن الطلاب – الضحايا – هم من بدأوا “الاشتباكات”.
بفضل هذه “الأخبار الكاذبة” الملفقة، تمكن بايدن من وصف الاحتجاجات الطلابية بأنها فوضوية وخطيرة وتهديد “للنظام”. وبالاستناد إلى مجاز مبتذل استخدمه العنصريون لتشويه سمعة حركة الحقوق المدنية في الستينات، انضم عمدة نيويورك الأسود إلى سياسيين آخرين في الادعاء بأن “محرضين خارجيين” كانوا وراء الاحتجاجات في الحرم الجامعي.
وفي الوقت نفسه، استغلت دانا باش، مذيعة شبكة “سي إن إن”، السرد المفبرك لمقارنة الطلاب بشكل خاطئ بـ “النازيين”. وعندما عادت الشرطة إلى حرم جامعة كاليفورنيا، كان ذلك لزيادة حملة القمع، وتكثيف الاعتقالات وإطلاق الرصاص المطاطي على الطلاب.
رد فعل عنيف غاضب
إن النسخة الخاصة بالمملكة المتحدة من هذا التصنيع للذعر الأخلاقي بدأت تظهر أيضًا. ففي نهاية الأسبوع الماضي، ألقت شرطة العاصمة القبض على أربعة أشخاص لعرضهم ما زعمت الشرطة أنه لافتة “تدعم منظمة محظورة”. وكان الأربعة، ومن بينهم طبيب وأولياء أمور الطلاب، يحتجون خارج كلية لندن الجامعية تضامنًا مع معسكر الاحتجاج هناك.
أظهرت اللافتة حمامة بيضاء – رمز السلام – تحمل مفتاحًا وتطير عبر ثغرة في جدار الفصل العنصري الإسرائيلي حول الضفة الغربية. ووفقا للتقارير، زعمت الشرطة أن الأربعة كانوا من أنصار حماس استنادا إلى حقيقة أن السماء خلف الحمامة كانت “زرقاء صافية”، في إشارة إلى السماء الصافية في يوم هجوم حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. ويبدو أن الشرطة لم تكن على علم بأن السماء صافية بشكل منتظم في الشرق الأوسط. وحسب شهود عيان، فقد تشاور ضباط الشرطة مع المتظاهرين المضادين المؤيدين لـ”إسرائيل” قبل وقت قصير من القيام بالاعتقالات. والحقيقة التي تعمل الطبقة السياسية والإعلامية على طمسها هي أن بعض الجامعات سمحت للاحتجاجات في حرمها الجامعي بأن تسير بشكل سلمي، بدلاً من استدعاء الشرطة.
في ما يبدو أن الخوف الحقيقي هو بين الطبقة السياسية والإعلامية، إذ أصبح للمتظاهرين أيضاً بعض التأثير ببطء في عزل “إسرائيل” وكذلك في تحريك الرأي العام. وعلى نحو غير عادي، ونظراً للتغطية العدائية الموحدة للاحتجاجات، والتي تشير إلى أنها معادية للسامية، لا يزال أربعة من كل عشرة ناخبين أمريكيين يخلصون إلى أن “إسرائيل” ترتكب إبادة جماعية، وذلك وفقاً لاستطلاع نُشر هذا الأسبوع.
في ظل عدم الإبلاغ إلى حد كبير، قدمت العديد من الجامعات – في محاولة لإنهاء الاحتجاجات دون عنف – وعودًا للحد من تواطؤها في الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل”. وفي معظم الحالات، لم يتم بعد اختبار حسن نيتهم.
تحت ضغط موازن من 5000 خريج وقّعوا على خطاب يهددون فيه بوقف التبرعات، يبدو أن جامعة كاليفورنيا ريفرسايد وافقت على سحب استثماراتها من الشركات التي لها علاقات مع “إسرائيل”، وكذلك وقف برامج الدراسة المشتركة مع “إسرائيل”.
هذا الأسبوع، توصلت كلية ترينيتي الأيرلندية، في دبلن، إلى تسوية مع المتظاهرين ستشهد انفصالها بسرعة عن الشركات الإسرائيلية المتورطة في المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية. وجاء في بيان الكلية: “نحن نتضامن مع الطلاب في شعورنا بالرعب مما يحدث في غزة”.
وعدت كلية غولدسميث في لندن بتبني سياسة استثمار أخلاقية قد تؤدي إلى سحب استثماراتها من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية الذي دام عقودا. كما وافقت على تقديم منح دراسية للفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي الذي دمر التعليم العالي بالنسبة لهم. ومن المقرر أن تقوم جولدسميث بمراجعة اعتمادها للتعريف الجديد المثير للجدل للتحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة لمعاداة السامية والذي تم الترويج له بقوة من قبل اللوبي الإسرائيلي وتبنته المؤسسات العامة الغربية على نطاق واسع.
من عجيب المفارقات أن التعريف يطمس عمدا التمييز بين اليهود و”إسرائيل” ــ وهو التكتيك المفضل لدى معاداة السامية ــ وذلك كان أساسيا في مساعدة “إسرائيل” وحلفائها في تشويه الاحتجاجات المناهضة للإبادة الجماعية باعتبارها كراهية لليهود.
تضمنت التنازلات التي أنهت الاحتجاجات في روتجرز، جامعة ولاية نيوجيرسي، إجراء محادثات مع ممثلي الطلاب حول الاستثمارات في شركات الأسلحة التي تساعد “إسرائيل” في المذبحة في غزة، وإنشاء دورة دراسية للدراسات الفلسطينية تعكس برنامج الدراسات اليهودية الحالي، وإنشاء برنامج للدراسات اليهودية، وإقامة تعاون طويل الأمد مع جامعة فلسطينية في الضفة الغربية يشبه علاقة روتجرز مع جامعة تل أبيب في “إسرائيل”.
أثارت هذه التنازلات البسيطة بالفعل ردة فعل غاضبة من أكثر من 700 عضو من المجتمع اليهودي المحلي. واتهموا روتجرز بـ “الاستسلام للمطالب المتطرفة للجماهير الخارجة عن القانون”، والتي من المفترض أنها تحرض على “الكراهية والعنف ضد اليهود والدولة اليهودية”. هددت الجماعة بإجبار الجامعة على الركوع من خلال سحب “التبرعات والدعم المالي”. وفي الوقت نفسه، ورد أن أكبر أربعة اتحادات يهودية في نيوجيرسي تطالب بإجراء تحقيق حكومي في روتجرز.
قواعد اللعبة في غزة
في تقاريرها عن الاحتجاجات في الحرم الجامعي، قامت وسائل الإعلام الرسمية ببساطة بنشر نفس قواعد اللعبة التي استخدمتها للتستر على الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة: تجريد السياق، وتشويه التسلسل الزمني، وعكس أدوار المعتدي والضحية، وتقديم الرسائل التي تظل راسخة بقوة.
وعلى امتداد الأشهر السبعة الماضية، قامت وسائل الإعلام الغربية بمحو سياق عقود من العنف الهيكلي الإسرائيلي، الذي يشمل احتلالها العدواني للأراضي الفلسطينية والتطهير العرقي للمجتمعات الفلسطينية لإقامة مستوطنات غير قانونية للميليشيات اليهودية المسلحة مكانها. وبشكل أكثر تحديدا، فقد نجحوا في سجن والتجويع البطيء لنحو 2.3 مليون فلسطيني من خلال حصار غزة الذي دام 17 سنة على طراز العصور الوسطى.
بدلاً من ذلك، فإن هجوم حماس الذي استمر يوما واحدا في السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر تم تصويره على أنه جاء من السماء الزرقاء الصافية. لقد كان بمثابة تبرير للإبادة الجماعية المتواصلة التي ترتكبها “إسرائيل”. ويتم استغلال الاحتجاجات الطلابية لغرض مماثل. وقد تمكنت وسائل الإعلام من توسيع سردها الذي يخدم مصالحها الذاتية من الساحة الخارجية ــ حيث يمكن تصوير كل فلسطيني، حتى طفل، على أنه إرهابي محتمل ــ إلى الساحة المحلية، حيث يُعَد أي شخص يطالب بوقف الإبادة الجماعية الإسرائيلية معاديا للسامية على الأرجح.
تظهر تسريبات من صحيفة “نيويورك تايمز” أن الشركة فرضت فعليا حظرًا على استخدام موظفيها لمصطلحات مثل “الإبادة الجماعية” و”الفصل العنصري” فيما يتعلق بـ “إسرائيل”، مما يجعل من المستحيل تسمية الواقع الذي يواجهه الفلسطينيون أو أسباب تضامن الغربيين أو الجمهور معهم. ومن الواضح أن سياسة التايمز مشتركة بين وسائل الإعلام الرسمية.
والآن يستعد الكونغرس لتقويض نفس حرية التعبير وإغلاق الفكر الحر على المواطنين الأمريكيين. إن حقوقهم في التعديل الأول من الدستور في طور الانتهاك لحماية دولة أجنبية – “إسرائيل” – من الانتقاد. وتجدر الإشارة إلى أن مجلس النواب أقر هذا الشهر بأغلبية ساحقة مشروع قانون “التوعية بمعاداة السامية” الذي من شأنه مرة أخرى توسيع تعريف كراهية اليهود ليشمل تجريم الخطاب المنتقد لـ”إسرائيل”. وأشار الجمهوريون الذين قدموا التشريع على وجه التحديد إلى استخدام مشروع القانون ضد الاحتجاجات الطلابية، التي تدعو الجامعات إلى التوقف عن الاستثمار في الإبادة الجماعية.
والهدف من ذلك هو تهدئة الخطاب في الحرم الجامعي ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث لا يزال الإجماع المفروض على الطبقة السياسية والإعلامية موجودا. ولا يعتبر السياسيون ووسائل الإعلام غير مهتمين. إنهم عبيد لمصالح الأموال الطائلة، مثل صناعات الأسلحة والمراقبة والنفط، التي تعتبر إسرائيل عنصرًا حاسمًا فيها، سواء في إرساء القوة الغربية في الشرق الأوسط أو في بناء السرد الغربي للضحية الدائمة، حتى مع استمرار الغرب وحلفائه في تدمير المنطقة.
ومن حرمهم الجامعي، يصرخ الطلاب بأعلى صوتهم بأن المؤسسات الغربية متواطئة في تسليح الإبادة الجماعية، وهذا كما يبدو. لقد حان الوقت للتوقف عن الاستماع إلى أولئك الذين يتلاعبون بنا. وحان الوقت الآن لتصديق ما تراه أعيننا.
المصدر: ميد إيست آي