تواجه إيران خيارات صعبة في سياق مخاوفها من العملية العسكرية التركية المرتقبة في شمال العراق، هذه المخاوف نابعة من طبيعة نفوذها في شمال العراق، وكذلك في الساحة السورية، باعتبار أن هذه العملية التركية ستستهدف أغلب المناطق حيوية لإيران في شمال العراق، لذلك ستعمل وفق استراتيجيتها الخاصة لاحتواء أو إفشال هذه العملية عن تحقيق أهدافها، في إطار استراتيجية طويلة الأمد للحفاظ على نفوذها في العراق.
مع زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، للعراق في نهاية شهر أبريل/نيسان الماضي، وإشارته لرغبة تركيا في القيام بعملية عسكرية في شمال العراق الصيف المقبل، من أجل ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني، وتشكيل منطقة عازلة تمتد على طول الشريط الحدودي بين العراق وتركيا، حتى بدأت إيران تنظر بخشية كبيرة لتداعيات هذه العملية، نظرًا لطبيعة العلاقات الجيدة التي تربطها بحزب العمال الكردستاني من جهة، ومن جهة أخرى إمكانية أن تفرز هذه العملية تداعيات كبيرة على الممر البري الآمن الذي يربطها بسوريا، عن طريق مدن شمال العراق، وهو ما دفعها للدخول على خطة التفاهمات مع المسؤولين العراقيين، للوقوف على آخر مستجدات الموقف العراقي من هذه العملية.
بعد زيارة أردوغان للعراق، التقى سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي أكبر أحمديان، مستشار الأمن القومي العراقي، قاسم الأعرجي، على هامش الاجتماع الثاني عشر لكبار المسؤولين عن قضايا الأمن، الذي عقد في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية 24 أبريل/نيسان الماضي، إذ عبّر الجانب الإيراني عن تحفظه على الجانب الأمني من زيارة أردوغان، خصوصًا عندما أشار إلى شكره لاعتراف العراق بحزب العمال الكردستاني كمنظمة محظورة، إلى جانب الجماعات الحليفة له، ما يشير بدوره إلى رفض إيران لأي عملية عسكرية وفق الصيغة التي تريدها أنقرة.
مخاوف إيرانية
تنظر إيران بخشية كبيرة للتداعيات المحتملة للعمليات العسكرية التركية المرتقبة، التي من المرجح أن تنطلق في شهر يوليو/تموز المقبل، ليس على نفوذها في شمال العراق فحسب، بل على نفوذها في الشرق السوري، فانتشار الجماعات المسلحة الكردية، وتحديدًا حزب العمال الكردستاني، على طرفي الحدود الشمالية العراقية – السورية، مثل هامشًا استراتيجيًا جيدًا تحركت من خلاله إيران خلال الفترة الماضية، وتحديدًا على طول الخط الاستراتيجي الممتد من سنجار وربيعة ثم دير الزور.
وما زال هناك حديث داخل الأوساط السياسية والعسكرية التركية، عن طبيعة العملية العسكرية المرتقبة، فيما يتعلق بمدى شمولية أو محدودية هذه العملية، وهي بالتأكيد تعتمد على مدى تعاون حكومتي بغداد وأربيل مع هذا المسعى التركي، إذ قدم وزير الدفاع التركي، يشار غولر، في أثناء زيارته لبغداد في مارس/آذار الماضي، عدة خيارات للعراق حول العملية العسكرية المرتقبة، منها أن تنفذ تركيا عملية برية بمفردها، أو بالاشتراك مع حكومتي بغداد وأربيل، أو أن تنفذ حكومتا بغداد وأربيل العملية، فيما تكتفي تركيا بتقديم الدعم الجوي والاستخباري، وهي خيارات لم يرد عليها الجانب العراقي حتى اللحظة.
في اجتماع مجلس الأمن القوي التركي الذي عقد مطلع الشهر الجاري، برئاسة أردوغان، تم تدارس العديد من الخيارات العسكرية التركية، في حال لو رفض العراق الاشتراك في هذه العملية، وهو ما يرجح فرضية ذهاب تركيا نحو العملية العسكرية المرتقبة بمفردها، مع الاكتفاء بأخذ موافقة ضمنية من الحكومة العراقية، ودعم سياسي من حكومة إقليم كردستان.
جهود لاحتواء العملية
سعت إيران إلى توسيع قواعد الحزب في شمال العراق، وتحديدًا منذ تحرير مدينة سنجار من سيطرة تنظيم “داعش” في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، حيث سمحت لعناصر الحزب بالتمركز داخل مدينة سنجار وأطرافها، كما سهلت له افتتاح العديد من القواعد العسكرية في كركوك، إلى جانب افتتاح قواعد أخرى في طوز خورماتو وأمرلي، وكل هذه التسهيلات الإيرانية كانت تقدم، إما عبر مقر رمضان التابع لقوة القدس في مدينة كرمنشاه على الحدود العراقية الإيرانية، وإما عبر مليشيات مسلحة منضوية ضمن الحشد الشعبي.
وبعد توقيع اتفاق تطبيع الأوضاع في سنجار بين حكومتي بغداد وأربيل في أكتوبر/تشرين الأول 2020، الذي نص على ضرورة إخراج عناصر حزب العمال الكردستاني من مركز مدينة سنجار وأطرافها، انضم ما يقرب من 1800 مقاتل من عناصر الحزب إلى “واحدات مقاومة سنجار – YBŞ” وهو فصيل إيزيدي مسلح منضوي ضمن الحشد الشعبي، ويستلم رواتبه من الحكومة العراقية.
كما دعمت إيران العديد من المليشيات الإيزيدية الأخرى في سنجار، مثل مليشيات “أحرار سنجار”، عبر ترسيخ وجودها الأمني والاقتصادي في المدينة، سواء عبر ضمها لهيئة الحشد الشعبي، أو تنسيق تحركاتها مع مليشيات الحشد الشعبي وحزب العمال الكردستاني على طول الحدود العراقية السورية.
وكان التطور الأبرز في هذا المجال هو زيارة مسؤول ملف المليشيات الإيزيدية في قوة القدس العميد ريبر آزدائي لمدينة سنجار، بعد توقيع الاتفاق بين حكومتي بغداد وأربيل، وبموجب هذه الزيارة تم الاتفاق على انسحاب عناصر حزب العمال الكردستاني من مركز سنجار، وغلق العديد من مقراته ومكاتبه الاقتصادية، مقابل السماح لعناصره بالاندماج ضمن المليشيات الإيزيدية المنضوية ضمن الحشد الشعبي.
في هذا السياق أيضًا، حظيت زيارة رئيس إقليم كردستان نيجرفان بارزاني إلى طهران مطلع الشهر الجاري، بنقاشات موسعة عن طبيعة الخلفيات الأمنية التي فرضت نفسها على أجندة زيارة الرئيس أردوغان إلى أربيل، إذ كانت إيران، وتحديدًا الحرس الثوري، مهتمة بمعرفة طبيعة موقف أربيل من العملية العسكرية التركية، وفيما إذا كان هناك تداعيات على إيران وحلفائها من هذه العملية.
هذه المساعي الإيرانية الحثيثة، تأتي في إطار خشية حقيقية على المنافع الأمنية والاقتصادية التي وفرها حزب العمال الكردستاني لإيران خلال الفترة الماضية، فعلى الصعيد الأمني وفر الحزب لإيران حركة أمنية سهلة على طول الحدود العراقية السورية، كما أنه أصبح أداة تأثير مهمة بيد إيران ضد إقليم كردستان، وتحديدًا الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يمتلك علاقات جيدة مع أنقرة.
أما على الصعيد الاقتصادي، فقد مثل قيام حزب العمال الكردستاني بعمليات التهريب وتجارة المخدرات وغسيل الأموال، عبر مناطق سنجار والإدارة الذاتية الكردية شمال سوريا، نحو تركيا وأوروبا، مدخلًا لحصول إيران على ملايين الدولارات، وهي مزايا تخشى إيران فقدانها.
باختصار تنظر إيران للانفتاح التركي الجديد على العراق، بأنه يأتي في إطار استغلال تركي للظروف الإقليمية الحالية، سواء في سياق انشغال إيران وحلفائها بتطورات الحرب على غزة، أو الضغوط الأمريكية والإسرائيلية التي تمارس ضدها، وهو ما خلق فرصة لتركيا لزيادة منافع السياسة الخارجية، ليس نحو العراق فحسب، بل عبر دمج أكثر من فاعل إقليمي ضمن هذا الإطار، وهو ما اتضح من مشاركة وزير المواصلات القطري ووزير البنية التحتية الإماراتي في حفل توقيع اتفاقية إطار استراتيجي بإطلاق مشروع “طريق التنمية”، على هامش زيارة أردوغان الأخيرة إلى بغداد.
ومن المتوقع أن تمارس إيران مزيدًا من الضغوط في الأيام المقبلة، إذ تشير بعض المعلومات بأن هناك زيارة مرتقبة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، للعراق، من أجل توقيع اتفاقيات أمنية واقتصادية مع بغداد، تقطع من خلالها الطريق على تركيا، فإيران ترى أن مخرجات زيارة الرئيس أردوغان للعراق لا بد من احتوائها، قبل أن تترجم على أرض الواقع، وتجعل النفوذ الإيراني يواجه تحديات صعبة في العراق خلال المرحلة المقبلة.