الاحتلال يعاود استهداف شمال غزة.. ماذا تعني تلك الانتكاسة؟

خرج وزير دفاع الاحتلال، يوآف غالانت، قبل 4 أشهر من الآن، معلنًا انتهاء العملية العسكرية البرية في شمال قطاع غزة، بعد أن حققت قواته أهدافها كاملة بالقضاء على كل قدرات حركة المقاومة حماس، وعليه تم سحب بعض لواءات الجيش من تلك المناطق، حينها توهم الجميع أن الشمال بات خارج المعادلة بشكل رسمي، لتبدأ المرحلة التالية من الحرب.

لكن في مارس/آذار الماضي عاود جيش الاحتلال الهجوم على مجمع الشفاء الطبي في الشمال، للمرة الثانية بعد هجوم أكتوبر/تشرين الأول، ثم انسحب بداية أبريل/نيسان، عقب زعم الانتهاء من مهمته والقضاء على ما تبقى من المقاومة، بعد أن قتل مئات الفلسطينيين، تاركًا خلفه مقابر جماعية، وآثار دمار وحشي طال المجمع ومحيطه السكني.

واليوم يعلن الاحتلال معاودة شن عملية برية جديدة في المنطقة الشمالية، تحديدًا في مخيم جباليا، كذلك في حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة، بزعم إعادة حركة حماس تنظيم صفوفها، كما جاء على لسان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الأميرال دانيال هاغاري في مؤتمر صحفي له السبت 11 مايو/أيار الحاليّ.

عودة العمليات العسكرية الإسرائيلية في الشمال مرة تلو الأخرى، بعد الحديث عن إحكام السيطرة الكاملة على تلك المناطق والانتهاء من العمليات الميدانية، والانتشاء بالانتصارات المحققة هناك، تلاها سحب بعض الألوية، والانتقال إلى ساحات أخرى للمعارك في الوسط والجنوب، تحول متناقض أثار الكثير من التساؤلات بشأن ما تعكسه تلك الانتكاسة من دلائل ومؤشرات وما تبعث به من رسائل.

تخبط جيش الاحتلال

في العلوم العسكرية يكون الانتقال من ساحة قتال لأخرى مرهونًا بما تحقق من أهداف في الساحة الأولى، وعليه من الصعب أن ينتقل جيش من مكان لآخر دون أن يقضي على قدرات خصمه كافة، حتى لا تتحول المناطق المنسحب منها إلى “فخ” أو “كماشة” يمكن أن تُسقط الجيش في شباكها إذا ما عاد إليها الخصم مرة أخرى.

وهو ما لم يتحقق في معركة الشمال، فبعد ادعاء جيش الاحتلال غلق ملف تلك الساحة بعد القضاء على قدرات المقاومة هناك، وتصدير صورة للشارع الإسرائيلي أن الشمال والوسط وشمال الجنوب بات في قبضة الجيش، وأنه لم يتبق سوى معركة رفح جنوبًا لحسم الحرب بشكل كامل، ها هي المؤسسة العسكرية تصدر أوامر إخلاء للسكان في جباليا وأحياء السلام والنور وتل الزعتر ومشروع بيت لاهيا وعزبة ملين والروضة والنزهة والجرن والنهضة والزهور، تمهيدًا لشن عملية ثالثة في المنطقة التي ادعت سابقًا أنها سيطرت عليها بالكامل.

يعكس هذا التناقض وتلك الانتكاسة العسكرية حالة تخبط وارتباك واضحة لدى جيش الاحتلال، وفقدان بوصلة الحرب بشكل كبير، وهي العدوى التي أصابت مجلس الحرب وكبار جنرالات الجيش، فبحسب الإذاعة الإسرائيلية فقد أعلن المسؤول عن رسم الشؤون الإستراتيجية بمجلس الأمن القومي الإسرائيلي يورام حامو، استقالته بشكل رسمي، بسبب حالة الارتباك التي تعاني منها المؤسسة العسكرية وعدم اتخاذ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قرارات بشأن اليوم التالي للحرب وعودة العمليات شمال غزة.

وفي سياق الارتباك والتخبط ذاته كشفت صحيفة “جيروزاليم بوست” العبرية عن اندلاع مشاجرة كبيرة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي وقادة الأجهزة الأمنية، وعلى رأسهم رئيس الشاباك رونين بار، خلال اجتماع موسع للحكومة مؤخرًا، لمناقشة اليوم التالي للحرب على غزة.

ثبات المقاومة

توهم الإسرائيليون أن آلة التدمير والتنكيل التي جرفت مناطق الشمال وحولتها بقاذفاتها وراجماتها إلى جحيم مميت سيردع المقاومة ويقضي على قدراتها وإمكانياتها بشكل كامل، ما منحهم نشوة الانتصار بالهيمنة على تلك المناطق، إلى الحد الذي دفعهم لسحب بعض ألويتهم في رسالة مفادها أننا انتصرنا وما عاد لدينا أي قلق بشأن بقاء المقاومة في شمال القطاع.

لكن وبينما تدخل الحرب شهرها الثامن إذ برشقات المقاومة وصواريخها المطلقة من شمال القطاع تضيء سماء عسقلان وتل أبيب ومدن غلاف غزة، وصافرات الإنذار تدفع عشرات الآلاف من المستوطنين للاختباء في الملاجئ تحت الأرض، في مشهد يعيد الأجواء إلى الأيام الأولى للحرب.

ولقنت المقاومة الاحتلال دروسًا قاسية في نتساريم وفي محيط مجمع الشفاء، هذا بخلاف الكمائن التي نصبتها للقوات المحتلة في جباليا وخان يونس، التي أوقعت العشرات في صفوف الإسرائيليين بين قتيل وجريح، إضافة إلى الاشتباكات الضارية التي تخوضها عناصر المقاومة في مواجهة جيش الاحتلال في الشمال والوسط.

لم يدر بمخيلة الكيان المحتل ولا أنصاره وداعميه، أن تتعامل المقاومة مع الحرب بتلك الطريقة الاحترافية، حيث التعاطي مع كل السيناريوهات بشكل لم يعهده الإسرائيليون من قبل، الأمر الذي دفع كبار جنرالات جيش الاحتلال إلى التأكيد على أن هزيمة حماس باتت دربًا من الخيال، وأن المقاومة شهدت تطورات تقنية وعسكرية خلال الآونة الأخيرة تؤهلها للوقوف على أرضية صلبة في الصمود والمواجهة مهما طال أمد الحرب.

صمود الغزيين

لم يختلف صمود الغزيين عن ثبات المقاومة، فكل يناضل بطريقته، ويقاتل بما لديه من أوراق وإمكانيات، فبينما يكبد رجال المقاومة جيش الاحتلال الخسائر تلو الأخرى، يتصدى سكان القطاع لمخططات التهجير القسري، عبر التشبث بالأرض والسكن مهما كلفهم الأمر، ويساعدون بخطوات متسارعة في إجهاض مؤامرات الاحتلال في تفريغ المقاومة من حاضنتها الشعبية.

ورغم تحويل جيش الاحتلال مناطق الشمال والوسط إلى بيئات طاردة للسكان بعدما قضى على كل مقومات الحياة فيها، فإن ذلك لم يثنِ أهلها عن العودة ريثما سمحت الظروف، حتى لو استحالت بيوتهم رمادًا وركامًا وأطلالًا، ولو ضحوا بحياتهم وأرواحهم فداء لهذا الأمر، وهو ما يغيظ المحتل ويعزز من مشاعر الخذلان والإحباط لديه.

وبحسب رئيس بلدية مدينة غزة فهناك نحو 700 ألف شخص ما زالوا يعيشون شمالي القطاع، رغم توقف المساعدات بشكل تام على مدار أيام كاملة، حيث ارتأى العائدون الاكتفاء بأقل القليل من العيش في سبيل البقاء في منازلهم وتفويت الفرصة على الاحتلال وإجهاض مخطط التهجير الذي ينفذه المحتل عبر أسلحة التجويع والرصاص والتدمير.

ويلعب سكان القطاع، شماله ووسطه وجنوبه، مع الاحتلال لعبة “شد الحبل” أو بالأحرى “القط والفأر” فكلما اشتد الخناق والقتل والتنكيل نزحوا مؤقتًا من منازلهم، فاطمأن الكيان وأعوانه، حتى إذا ما هدأت الأمور نسبيًا عادوا مرة أخرى، وهكذا يتكرر الأمر بما يستنزف قدرات جيش الاحتلال ويصيبه بحالة من التخبط والارتباك لها ارتداداتها السلبية على غرفة القيادة والشارع الإسرائيلي.

حرب إبادة للتغطية على الفشل

أمام الارتباك والتخبط الناجم عن ثبات المقاومة وصمود الغزيين، مع الفشل في تحقيق أهداف الحرب الثلاث (القضاء على حماس – تحرير الأسرى المحتجزين – ضمان ألا يشكل القطاع تهديدًا للداخل الإسرائيلي) لم يجد جيش الاحتلال سوى سياسة “الأرض المحروقة” للتغطية على هذا العجز الفاضح بعدما شُوهت صورته بشكل كبير في الداخل والخارج.

وباتت أرقام الضحايا من المدنيين والاستئساد على النساء والأطفال، وتدمير ما يمكن تدميره من مستشفيات ومدارس ومراكز إيواء ومنازل العزل، هي أقصى ما يمكن أن يتغنى به الجيش المأزوم، محاولًا تصدير أي انتصار وهمي، يبرر من خلاله للداخل الكلفة الباهظة الذي دفعها في تلك الحرب الطويلة.

في تعليقها على معاودة استهداف مناطق الشمال مرة أخرى من جيش الاحتلال، قالت حماس إن هناك إصرارًا واضحًا من المحتل على المضي قدمًا في حرب الإبادة ضد أبناء غزة، عبر القصف والمجازر والتهجير والاستمرار في تدمير البنى المدنية، محملة الإدارة الأمريكية المسؤولية الكاملة عن تصاعد جرائم الاحتلال بحق المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ، “عبر مواصلتها توفير الغطاء للفاشية الصهيونية، للاستمرار في جرائمها” وفق البيان الصادر عنها.

وهكذا يبرهن الاحتلال منذ اليوم الأول للحرب على فشل إستراتيجياته العسكرية التي كان يتغنى بها لسنوات، وأوهم بقوتها وعبقريتها الشارع الإسرائيلي والعربي والدولي بصفة عامة، ليأتي طوفان الأقصى – ومن بعده حرب غزة – ويسقط كل الأقنعة المزيفة ويُظهر وجه الاحتلال القبيح، حيث الكيان القائم على القتل والتدمير والعنصرية، الفاقد للرؤية، المتورم بالدعاية الكاذبة، المستأسد على النساء والأطفال.