عمل الباحثون منذ سنين طويلة على دراسة ما تقيسه اختبارات الذكاء فعليًا، باحثين عن إجابة ما إذا كان متوسط الفروق في درجات الذكاء أو نسبه، مثل تلك التي تظهر بين المجموعات الإثنية المختلفة، يعكس الاختلافات في الذكاء حقًا أو هو مجرد نتيجة للعديد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية أو خليطٍ من كليهما.
وكما أشرنا في التقرير السابق، فإنّ اختبارات الذكاء لا تزال تستخدم على نطاق واسع في أيامنا هذه لقياس القدرات والخفة الذهنية للفرد، لكنّ بداية نشوئها واستخدامها في بدايات القرن الماضي كانت دومًا محفوفةً بجوانب سوداء بعيدة كلّ البعد عن العلم المجرّد، وإنما كانت جزءًا من سياسات واسعة هدفها ترسيخ التفرقة العنصرية ونشر التحيّز بين أفراد المجتمع الأمريكي، وبالتالي سعت المؤسسات الحكومية والاقتصادية من خلالها إلى فرض سيطرتها على الأفراد والتحكم بهم.
يعتقد الباحثون أن نسبة الذكاء تستطيع التنبؤ بالنجاح المستقبلي في الحياة، فإذا حصل الفرد على درجة عالية في الاختبار، فمن المعتقد أنّ هذه النسبة ترتبط بمستويات عالية من التحصيل الدراسي أو الأداء المدرسي
تُعرّف نسبة الذكاء “Intelligence Quotient أو IQ ” بأنها النتيجة التي يحصل عليها الفرد من مجموعة اختبارات لقياس درجة الذكاء، والتي من خلالها تُعرف نسبة الذكاء بشكل تقريبي. وبكلماتٍ أخرى، فهي عبارة عن عدد يمثّل قدرة الشخص على التفكير، ويتم قياسه باستخدام اختبارات لحل مشكلاتٍ أو مسائل مختلفة، يتم اختيارها بناءً على المعيار الإحصائي أو المتوسط العمري لذلك الشخص.
وبشكلٍ عام، فيبلغ متوسط معدل الذكاء وفقًا للاختبار المعترف به حوالي 100، أما الذين يحصّلون نسبة أعلى من 140 فيتم تصنيفهم تحت بند “عباقرة”، مثل عالم الفيزياء ستيفن هوكينج على سبيل المثال. أما حين يكون معدل الذكاء أقل من 70 فيُصنف محصّل النسبة ضمن فئة المعاقين ذهنيًا، أو ذوي القدرات المعرفية الضعيفة.
بالإضافة لذلك ووفقًا للعديد من الدراسات، يًعتقد أنّ نسبة اختبارات الذكاء تستطيع التنبؤ بالنجاح المستقبلي في الحياة، فإذا حصل الفرد على درجة عالية في الاختبار، فمن المعتقد أنّ هذه النسبة ترتبط بمستويات عالية من التحصيل الدراسي أو الأداء المدرسي، وبدخل وظيفي أكبر، وبمعدل أقل للجريمة، وبصحة أفضل، علاوة على الذكاء الاجتماعي أو العاطفي.
تتداخل العوامل الجينية والوراثية جنبًا إلى جنب مع العوامل الاجتماعية والاقتصادية وتؤثر على نسب الذكاء
الوراثة أم التنشئة؟
لا يزال العديد من الباحثين يجادلون بأن القدرات المعرفية التي يتم قياسها عبر اختبارات الذكاء لها أساس وراثي في الغالب، وهناك مئات الملايين من الدولارات التي يتم إنفاقها على البحوث التي تعمل على تحديد الجينات المسؤولة عن الذكاء والقدرات المعرفية، إلا أن هناك بالتأكيد من يرفض هذه الفرضية وينقدها، معتبرًا أنّ البيئة والتنشئة وعوامل أخرى اجتماعية أو اقتصادية تلعب دورًا كبيرًا في نتيجة اخبارات الذكاء.
وقد تحولت الفرضية مع مرور الوقت من أمل لتحديد مجموعة الجينات المرتبطة بالذكاء إلى قبول فرضية أنه في حال كان هناك أي أثر للجينات والوراثة في درجات الذكاء، فإنها لا تعمل بشكلٍ مستقل عن البيئة، وإنما تتأثر بها وتؤثر بها، أي أنّ محددات الذكاء ونسبته لا يمكن حصرها أبدًا في دور الجينات لوحدها أو دور البيئة والتنشئة، وإنما هي خليط من تفاعل العوامل المرتبطة بهما.
يُعتبر مقياس شسلر لذكاء البالغين الأكثر استخدامًا بين اختبارات الذكاء جميعها، لكلٍ من البالغين والمراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 إلى 90 عامًا.
تطويرات عديدة وتحديثات مستمرة لكن هل يُقاس الذكاء فعلًا؟
صُمّمت اختبارات الذكاء بشكلها الحالي المحدّث لتقيس كلًا من الذكاء الثابت الذي يتضمن المعرفة والخبرة التي يكتسبها الشخص خلال حياته، والذكاء المتحرك الذي يتضمن القدرة على التفكير وحل المشاكل وخلق معنًى للمعلومات المجردة. وفي حين يكون الذكاء المتحرك مستقلًا عن التعلم ويقل تدريجيًا في أواخر بلوغ الفرد، يرتبط الذكاء الثابت بالتعلم والخبرة، ويميل إلى الازدياد مع تقدم العمر وزيادة الخبرات والتجارب.
مرت تلك الاختبارات بتغييرات عديدة على مدى السنين، إلا أنّ أشهر التحديثات التي دخلت عليه كانت على يد عام النفس الأمريكي ديفيد شسلر، الذي طوّر مقياس ذكاء شسلر للأطفال ” Wechsler Intelligence Scale for Children (WISC) ” في عام 1949، فيما تمّ تحديثه لاحقًا في عام 1974، وعام 1991، ومرة أخرى في عام 2014.
أما مقياس شسلر لذكاء البالغين، أو كما يُعرف بالإنجليزية ” The Wechsler Adult Intelligence Scale (WAIS)“، فهو أحد الاختبارات التي صُممت لقياس الذكاء والقدرة المعرفية للمراهقين والبالغين الأكبر سنًا، وتم تطويره للمرة الأولى عام 1955 على يد شسلر نفسه، أما طبعته الأحدث فهي النسخة الرابعة منه والتي صدرت عام 2008، وتُعتبر الأكثر استخدامًا على نطاق واسع بين اختبارات الذكاء جميعها، لكلٍ من البالغين والمراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 إلى 90 عامًا.
ينقسم اختبار شسلر إلى أربعة أقسام رئيسية؛ وهي الفهم اللفظي والمنطق الإدراكي والذاكرة الفورية أو الذاكرة طويلة الأجل وسرعة المعالجة، وينطوي تحتها 10 اختبارات فرعية مختلفة، فمثلًا يضم اختبار الفهم اللفظي على اختبارات لغوية تختص بالمفردات والكلمات والقواعد اللغوية، أما الاختبارات الحسابية فتنطوي تحت بند سرعة المعالجة، وتضمّ العديد من العمليات الحسابية المختلفة.
اختبارات الذكاء هي طريقة غير فعالة أبدًا لقياس الذكاء، حيث يتكون من جوانب ومواضيع ومواهب مختلفة، ولا يمكن حصره ضمن إطار أو أطر معينة.
ويعتبر اختبار شسلر مصدرًا هامًّا في تحديد القدرات الفكرية والمعرفية ووسيلة أساسية لتحديد صعوبات التعلم ونقاط الضعف في المدارس والقدرات الإدراكية، الأمر الذي يقدّم فائدة في تحديد استراتيجيات العلاج أو احتياجات إعادة التأهيل المطلوبة لمعالجة صعوبات التعلم المحددة مسبقًا وفقًا لنتائج الاختبار.
إلا أنّ هذا لا يعني أنّ الاختبار القائم أساسًا على حصر الذكاء في مواضيع مثل القراءة والرياضيات والفهم المنطقي، يعجز عن رؤية جوانب أخرى للذكاء أكثر شمولًا لنواحي الحياة مثل الإبداع والمهارات الاجتماعية والذكاء العاطفي، والتي برمّتها لا تقل أهمية عن الجوانب التي يتم التركيز عليها ضمن اختبارات الذكاء. وبالتالي، وبكل بساطة يمكن الجزم أنّ اختبارات الذكاء هي طريقة غير فعالة أبدًا لقياس الذكاء، حيث يتكون من جوانب ومواضيع ومواهب مختلفة، ولا يمكن حصره ضمن إطار أو أطر معينة.