ينظر السودانيون بإعجاب إلى النتائج المذهلة التي حققها رجب طيب أردوغان بعد توليه رئاسة الحكومة التركية في 2003، فقد ارتفع الناتج القومي الإجمالي في 10 سنوات لأكثر من ترليون مليون دولار وهو ما يفوق الناتج الإجمالي لثلاث دول مصدرة للنفط وهي السعودية والإمارات وإيران.
الخطوط التركية بدورها أصبحت الأفضل على مستوى قارة أوروبا لثلاث سنوات متتالية، كما تضاعف مستوى دخل الفرد بنسبة 300% وفي الوقت نفسه انخفضت البطالة من 38% إلى هامش 2% فقط.
زيادة على ذلك، فإنّ التقارب الأيديولوجي بين حزب العدالة والتنمية التركي ونظيره السوداني “المؤتمر الوطني”، ساعد على احتفاظ الخرطوم وأنقرة بعلاقات قوية رغم قلة الزيارات المتبادلة بين البلدين خاصة من الجانب التركي، فقد كانت آخر زيارة لأروغان إلى السودان قبل ما يزيد على 11 عامًا عندما زار إقليم دارفور المضطرب في العام 2006 وقد كان يشغل منصب رئيس الوزراء آنذاك.
زيارة مؤجلة
أخيرًا، حطّت طائرة رجب طيب أردوغان في الخرطوم ضمن جولة إفريقية تشمل تشاد وتونس بعد أن تأجّلت الزيارة عدة مرات، إذ كان وزير الخارجية السوداني أعلن في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وعد بزيارة السودان نهاية يناير “2017” بصحبة وفد كبير من الشركات ورجال الأعمال الأتراك للاستثمار في البلاد.
وفي الشهر الموعود “يناير/كانون الثاني” من العام الحاليّ، كشفت وزارة التجارة السودانية عن زيارة مرتقبة للرئيس التركي إلى الخرطوم في شهر مارس/آذار المقبل، وذكرت الوزارة في بيان صحفى، أن اللجنة الاقتصادية والتجارية المشتركة بين السودان وتركيا، “عقدت اجتماعها الأول في الفترة من 27-30 من ديسمبر 2016، بالعاصمة التركية أنقرة”، مضيفة أن المباحثات تطرقت إلى ضرورة إكمال اتفاق الشركة الاقتصادية والتجارية بين البلدين بالسرعة المطلوبة.
كلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام البرلمان السوداني
كان للزيارة التي تمت قبل يومين وقعٌ خاص بالنظر إلى الاحتفاء الكبير الذي أظهرته الحكومة السودانية على شرف ضيفها التركي، حيث منحت المؤسسات الحكومية منسوبيها فرصة للخروج واستقبال أردوغان الذي كرّمته جامعة الخرطوم (كبرى الجامعات السودانية وأعرقها) بمنحه درجة الدكتوراة الفخرية، ثم ألقى الرجل كلمة مشهودة في البرلمان احتفى بها الإسلاميين أيما احتفاء.
وعلى ذكر الإسلاميين، نشير إلى أن رموز الإخوان في السودان اتفقوا على الترحيب بأردوغان رغم اختلافهم وتشرذمهم إلى طوائف عديدة أبرزهم الحزب الحاكم “المؤتمر الوطني”، وحزب المؤتمر الشعبي، وحركة الإصلاح الآن، ومنبر السلام العادل، بالإضافة إلى جماعة الإخوان المسلمين الأم.
قاعدة عسكرية في سواكن
أشرتُ في مقال سابق بتاريخ 29 من أكتوبر/تشرين الأول حمل عنوان أهداف ودلالات الوجود التركي في الصومال إلى أن وزير الدفاع التركي نور الدين جانيكلي سيبحث في زيارة مرتقبة للسودان التعاون العسكري مع الخرطوم والتخطيط لإقامة قاعدة تركية في السودان، وذكّرت بأن وزيري الدفاع في البلدين وقعا اتفاقية تعاون عسكري في مايو/أيار الماضي.
الآن أصبحت القاعدة العسكرية أمرًا واقعًا بعد أن طلب الرئيس رجب طيب أردوغان من نظيره السوداني عمر البشير تخصيص مدينة سواكن “شبه جزيرة” الواقعة شمال شرق الخرطوم على ساحل البحر الأحمر لتركيا من أجل أن تقوم بإدارتها وإعادة تأهيل الآثار العثمانية التي تزخر بها، وذكر أردوغان الإثنين “طلبنا تخصيص جزيرة سواكن لوقتٍ معين لنعيد إنشاءها وإعادتها إلى أصلها القديم والرئيس البشير قال نعم”، وأضاف “هناك ملحق لن أتحدث عنه الآن”.
صحيح أن أردوغان اصطحب معه نحو 200 من رجال الأعمال وتم التوقيع على 22 اتفاقية اقتصادية واستثمارية بين البلدين، من ضمنها صفقة لإنشاء مطار جديد في السودان، لكن في تقديري العنوان الأبرز للزيارة هو القاعدة العسكرية التي تنبع أهميتها من موقع سواكن المتميز
بطبيعة الحال، لسنا في حاجة إلى كثير من الذكاء لنستنتج أن تركيا تسعى لإقامة قاعدة عسكرية ضخمة في المدينة التي هجرها أهلها وباتت عبارة عن أكوام وخرابات إلا من ميناءٍ قديم تستخدمه بواخر محدودة تربط بين السودان ومدينة جدة السعودية، فقد سحبت مدينة بورتسودان البساط من سواكن التي كانت في يوم من الأيام مركزًا تجاريًا ضخمًا إلى جانب مدينة مصوع التي تتبع لدولة إريتريا حاليًّا.
صحيح أن أردوغان اصطحب معه نحو 200 من رجال الأعمال وتم التوقيع على 22 اتفاقية اقتصادية واستثمارية بين البلدين، من ضمنها صفقة لإنشاء مطار جديد في السودان، لكن في تقديري العنوان الأبرز للزيارة هو القاعدة العسكرية التي تنبع أهميتها من موقع سواكن المتميز، فهي تقع على خط عرض 19.5 درجة شمال خط الاستواء وخط طول 37.5 درجة شرق، ولسواكن أهمية إستراتيجية أخرى تكمن في كونها أقرب المواني السودانية إلى ميناء جدة السعودي على البحر الأحمر، حيث تستغرق رحلة السفن بين الميناءين ساعات قليلة.
تنافس إقليمي على البحر الأحمر
فوز أنقرة بصفقة سواكن يشير إلى استمرار السعي التركي لتعزيز حضورها في البحر الأحمر، ففي العام الحاليّ، أنشأت تركيا قاعدة ومطارًا عسكريًا في مقديشو عاصمة الصومال، وخلال الأعوام القليلة الماضية بات السباق محمومًا على البحر الأحمر الذي يعتبر ممرًا حيويًا لعبور نحو 3.3 مليون برميل من النفط يوميًا، كما أنه يشكل المعبر الرئيس للتجارة بين دول شرق آسيا لا سيما الصين والهند واليابان مع أوروبا.
ولا ننسى أن الإمارات دخلت بشكل لافت على خط النفوذ في البحر الأحمر، حيث أنشأت قاعدة عسكرية في “بربرة” عاصمة ما يعرف بجمهورية أرض الصومال “غير معترف بها”، وتمتلك أبو ظبي أيضًا قاعدة عسكرية في إريتريا على ميناء عصب، كما تتهمها قوى يمنية بالسعي للسيطرة على مواني في البحر الأحمر تحت غطاء التحالف العربي.
مباحثات عسكرية سودانية قطرية تركية
حراك عسكري مكثف شهدته العاصمة السودانية الخرطوم خلال الـ24 ساعة الماضية، فقد استقبلت رئيس الأركان العامة القطري غانم بن شاهين، بالإضافة إلى وصول نائب رئيس الأركان الروسي ألكسندر إلكسي فيتش كلًا على حدة.
كما شهدت القيادة العامة للقوات المسلحة في السودان، ظهر الثلاثاء 26 من ديسمبر/كانون الأول لقاءً جمع الرئيس السوداني عمر البشير، مع رئيس الأركان العامة للجيش القطري غانم بن شاهين الذي وصل إلى الخرطوم لإجراء مباحثات مشتركة مع المسؤولين في وزارة الدفاع السودانية ورئاسة الأركان المشتركة.
من الواضح أن هناك تنسيقًا عسكريًا بين الدول الثلاثة “قطر والسودان وتركيا”، خصوصًا أن للأخيرة قاعدة عسكرية في العاصمة القطرية الدوحة
وفي السياق ذاته، عقد رئيس أركان الجيش السوداني عماد الدين مصطفى عدوي اجتماعًا آخر مع نظيريه التركي خلوصي أكار والقطري غانم بن شاهين الغانم بحسب ما ذكرت وكالة الأناضول.
من الواضح أن هناك تنسيقًا عسكريًا بين الدول الثلاثة “قطر والسودان وتركيا”، خصوصًا أن للأخيرة قاعدة عسكرية في العاصمة القطرية الدوحة، كما لمّح وزير النقل السوداني مكاوي عوض في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى وجود منافسة بين دول عديدة على تطوير ميناء بورتسودان “50 كيلومترًا عن سواكن”، لكنه كشف أن قطر قدمت عرضًا من شقين أولهما تأهيل وتطوير ميناء بورتسودان ليصبح أكبر ميناء يستقبل الحاويات في المنطقة، والثاني إقامة ميناء جديد كليًا في سواكن.
ميناء جديد وقاعدة عسكرية
هنا تتضح الرؤية، إعادة إحياء مدينة سواكن المهجورة بصفقتين: إنشاء ميناء جديد تموله وتديره قطر، فضلًا عن إقامة قاعدة عسكرية لتركيا، وربما تشترك روسيا بشكل ما مع أنقرة في إنشاء القاعدة أو تنسق معها، نسبة لوصول رئيس الأركان الروسي ألكسندر ألكسي إلى الخرطوم في التوقيت نفسه وفي زيارة غير محددة المدة، ربما استجابة لدعوة البشير نظيره الروسي بوتين إلى التعاون العسكري.
فقد نقلت وكالة الأنباء السودانية، عن رئيس الأركان السوداني عماد الدين عدوي، تقدير بلاده للأدوار التي تلعبها روسيا في تحقيق الأمن والسلم الدوليين، ذلك خلال استقباله الثلاثاء للجنرال الروسي في مكتبه بالخرطوم.
هل فارق السودان المحور السعودي ـ الإماراتي؟
الإجابة نعم.. يبدو ذلك جليًّا لعدة عوامل أبرزها: توقف جولات البشير المكوكية التي كان يقوم بها بين الرياض وأبو ظبي بمناسبة ومن دون مناسبة، بالإضافة إلى شعوره بالإحباط من إحجام السعودية عن مساعدة حكومته في الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
فقد رمي عمر البشير بكل ثقله في محور المملكة عندما قطع العلاقات مع إيران بصورة مفاجئة وشارك في عاصفة الحزم بـ6000 جندي، وهي المشاركة التي لم يجنِ شيئًا من ورائها فقد ظلّ “الرز” السعودي والإماراتي يذهب إلى غريمه السيسي رغم أن الأخير لم يشارك في الحرب إلا بصورة رمزية، بالإضافة إلى الضغوط الداخلية التي يواجهها الرئيس السوداني داخل البلاد من دعوات متصاعدة لسحب القوات من اليمن بعد تفاقم الخسائر البشرية وسط الجنود السودانيين.
كذلك، واجه الرئيس عمر البشير ضغوطًا شديدة من الحزب الحاكم تنادي بالوقوف الصريح مع قطر وعدم التنكُّر لمواقفها المشرفة مع السودان حكومةً وشعبًا.
حاول وزير الخارجية التركي مولود أوغلو نفي وجود محور تركي إيراني قطري في مؤتمر صحفي بالسودان، غير أننا نراها تصريحات دبلوماسية يمليها عليها منصبه خصوصًا أن أنقرة تترأس الدورة الحاليّة من منظمة المؤتمر الإسلامي، ولذلك فإن الاعتراف بوجود مثل هذه التحالفات يشكك في قدرة تركيا على الحياد بين الدول الأعضاء في المنظمة الإسلامية الكبيرة.
نلاحظ أن الصحف السعودية بدأت في مهاجمة السودان تدريجيًا، بسبب زيارة أردوغان ثم تصاعدت بعد إعلان الرئيس التركي أن البشير وافق على تخصيص سواكن لحكومة بلاده كي تقوم بتطويرها وإدارتها لفترة محددة.
بإمكان ولاية البحر الأحمر أن تتحول إلى مناطق صناعية وسياحية ضخمة ومركزًا تجاريًا فريدًا من نوعه إذا التفتت حكومة السودان وهيأت البيئة المناسبة لذلك بالتعاون مع شركائها القطريين والأتراك
كما نشطت الخلايا الإلكترونية المحسوبة على الرياض وأبو ظبي في مهاجمة السودان والرئيس عمر البشير شخصيًا عبر موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، بل نادى البعض منهم باتخاذ إجراءات عاجلة لمعاقبة الخرطوم من بينها التضييق على العمالة السودانية الموجودة داخل المملكة، وطالب آخرون بالسعي لإعادة العقوبات الأمريكية على السودان! وكان لتركيا نصيب الأسد من الهجوم، فقد دعا هؤلاء إلى إيقاف رحلات السياحة السعودية إلى المدن التركية ووقف استيراد المنتجات التركية.
عليه، ينبغي على وزارة الخارجية السودانية ومؤسسات الحكومة الأخرى التحسُّب جيدًا للخطوات التي قد يتخذها المحور السعودي الإماراتي، فقد يلجأ إلى التصعيد بشتّى السبل، خصوصًا أن الرئيس التركي انطلق من السودان في زيارة غير مسبوقة إلى الجارة الغربية “تشاد” التي انضمت في وقتٍ سابق إلى محور الرياض، وتتردد أنباء عن سعي السودان وتركيا إلى تغيير موقف إنجامينا لتأثيرها في المعادلة الإفريقية باعتبارها معبرًا مهمًا نحو غرب القارة السمراء الذي زاره أمير قطر الأسبوع الماضي، ولتداخل تشاد القوي مع إقليم دارفور السوداني.
أخيرًا، للقاعدة العسكرية التركية المرتقبة والميناء القطري في سواكن أهمية كبرى في كل النواحي سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، لأن ولاية البحر الأحمر السودانية واعدة وزاخرة بالثروات والمقومات الطبيعية من حدود بورتسودان شمالًا إلى سواكن جنوبًا، وسنكات وجبيت غربًا، إلى جانب طوكر وعقيق في أقصى الجنوب، فبإمكان ولاية البحر الأحمر أن تتحول إلى مناطق صناعية وسياحية ضخمة ومركزًا تجاريًا فريدًا من نوعه إذا التفتت حكومة السودان وهيأت البيئة المناسبة لذلك بالتعاون مع شركائها القطريين والأتراك.