يشكّل استمرار الاحتجاجات الشعبية المناهضة لهيئة تحرير الشام منذ فبراير/ شباط الماضي، في محافظة إدلب وريفها شمالي غربي سوريا، نقطة مهمة في شرعية هيئة تحرير الشام، وذراعها المدنية حكومة الإنقاذ، بعد سنوات من السياسات الإدارية والأمنية القمعية التي تفرضها بقوة الأمر الواقع.
ونشطت الاحتجاجات المطالبة بإسقاط زعيم هيئة تحرير الشام ومنظومته الأمنية، مع تكشُّف “ملف العمالة” الذي أتاح الفرصة أمام فئات مجتمعية جديدة من الموظفين في القطاعات العامة لتنفيذ وقفات احتجاجية، منهم عمال النظافة والمعلمين وطلبة الجامعات، مع اختلاف في مضمون المطالب، إلا أن جميعها تندد بالسياسة الإدارية والأمنية التي تنتهجها تحرير الشام، متجاهلة الأولويات التي يحتاجها الشارع.
حراك متصاعد ومتنوع
يشهد الحراك الشعبي في محافظة إدلب شمال غربي سوريا تصاعدًا وزخمًا ضد سياسة هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ من مختلف الفئات المجتمعية، بطرق ومطالب متنوعة رافضة للأساليب القمعية والانتهاكات الإنسانية، والسياسات الإدارية والاقتصادية الاحتكارية التي باتت تعصف بالمنطقة.
وخرج مئات المتظاهرين عقب صلاة الجمعة في 10 مايو/ أيار الجاري بمدينة إدلب (مركز المحافظة)، ومدن وبلدات تفتناز وسرمين واحسم وحزانو وجسر الشغور وأرمناز وبنش وكفرلوسين ومعرة مصرين ومشهد روحين وأطمة ودير حسان التابعة لمحافظة إدلب، إضافة إلى تظاهرة شهدتها مدينة دارة عزة غربي حلب.
وطالب المتظاهرون بإسقاط ومحاكمة زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني، وحلّ المنظومة الأمنية ومحاسبتها على الانتهاكات الإنسانية، كما طالبوا بالإفراج عن جميع معتقلي الرأي من السجون، ونددوا بمحاولات تحرير الشام للالتفاف على مطالب المتظاهرين الأساسية وطرح ملفات ثانوية.
والخميس 9 مايو/ أيار الجاري، تظاهر عاملون في القطاع التعليمي العام أمام مبنى حكومة الإنقاذ في مدينة إدلب، رفعوا خلالها لافتات ومطالب تدعو إلى تحسين الرواتب وتنظيم العمل التعليمي ضمن القطاع العام، ومنحه الأولوية والاهتمام اللازم وسط محاولات خصخصة التعليم، إلا أنها لم تتلقَّ ردًّا من مسؤولي الحكومة.
وطالب المحتجون بحصانة المعلم وحفظ كرامته وتقديره، عبر تحسين رواتبهم التي تصل إلى 100 دولار أمريكي أثناء الدوام المدرسي فقط بما يتناسب مع الوضع المعيشي، لا سيما أنها تتوقف كليًّا خلال العطلة الصيفية (4 أشهر)، مطالبين وزارة التربية في إيجاد صيغة لاستمرارها.
كما تضمنت الوثيقة 16 مطلبًا، من بينها إعادة النظر بواقع المعلمين المتقاعدين لتأمين رواتب تقاعدية لهم، أو إعادتهم إلى المدارس، ووضع نظام داخلي لجميع دوائر وزارة التربية والتعليم، وإعادة هيكلة نقابة المعلمين بانتخابات نزيهة وجعلها نقابة مستقلة عن الحكومة، والعمل بنظام سلَّم الرواتب، وإيجاد حل لمعلمي اللغة الفرنسية ومعاهد الفنون والرسم والموسيقا والإرشاد النفسي والتربية الرياضية، وفتح نظام المسابقات للتعيين ردءًا للمحسوبيات.
ويواجه العاملون في القطاع التعليمي العام تحديات كبيرة وسط توجهات حكومة الإنقاذ نحو دعم القطاع التعليمي الخاص، الذي بات يستشري عبر فتح المجال أمام الاستثمارات الاقتصادية، بينما القطاع العام يفتقر لأدنى مقومات التعليم وحقوق المعلمين.
كما نفّذ عمال النظافة في مدينتَي إدلب والدانا وقفة احتجاجية وإضرابًا عن العمل منتصف الأسبوع الماضي، احتجاجًا على سياسة شركة E-Clean وقوانينها الجائرة بحقهم، وطالبوا بزيادة الرواتب وإعطائهم إجازات أسوة بباقي العمال ومنح أسرهم تأمينات صحية، بعدما تدهورت أوضاعهم مع بدء عمل شركة E-Clean، والتي خفضت رواتبهم من 150 دولارًا إلى 104 دولارات.
وبدأت شركة البيئة النظيفة E-Clean عملها للمرة الأولى في أغسطس/ آب 2022، بتنظيف الطرق وجمع النفايات وإعادة تدويرها في إدلب وريف حلب الغربي، وتعرّف عن نفسها بأنها شركة خاصة، وتجبي رسومًا شهرية وضرائب عن طريق مؤسسات حكومة الإنقاذ من جميع المنازل والمحال التجارية في مناطق عملها، حتى وإن كانت غير مستفيدة من الخدمات التي تقدمها، إذ يتم تحصيل تلك الرسوم بشكل تلقائي عن طريق شركة الكهرباء Green Energy أثناء عملية شحن العدادات، وتبلغ نحو 25 ليرة تركية شهريًّا.
وفي السياق، نظّم طلاب وطالبات جامعة إدلب وقفة احتجاجية في 4 مايو/ أيار الجاري أمام مبنى مجلس الوزراء في حكومة الإنقاذ، رفضًا لتعيين خريجي جامعات مناطق سيطرة نظام الأسد، حيث طالب المحتجون بتوقيف جميع الإجراءات المعادلة وتراخيص مزاولة المهنة المتعلقة بشهادات المتخرجين من جامعات نظام الأسد بعد عام 2016.
ورغم صدور قرار سابق من حكومة الإنقاذ، نصَّ حينها على منع خريجي الجامعات والمعاهد في مناطق نظام الأسد، بعد عام 2016، من العمل في مناطق نفوذها، لأنه يشكّل ضغطًا على خريجي الجامعات في الشمال السوري، في ظل قلّة فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة، إلا أن القانون كان شكليًّا دون تطبيق وسط محسوبيات لأشخاص نافذين في الحكومة.
استياء وسخط شعبيان
يكشف واقع الاحتجاجات الشعبية لمختلف الفئات المجتمعية حالة استياء شعبي تراكمي، نتيجة استحواذ هيئة تحرير الشام على الملفات السياسية وإدارتها بالقبضة الأمنية، وحكومة الإنقاذ على الملفات الإدارية والاقتصادية لمناطق نفوذها في محافظة إدلب، مشكّلة وحدة سلطوية تفرض قوانين وقرارات من شأنها التضييق على السكان.
ويرى الصحفي في محافظة إدلب، عز الدين زكور، أن الدافع الرئيسي لخروج المظاهرات يرتبط في الدرجة الأولى بحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير، بعد ارتكاب سلسلة من الانتهاكات بحقّ الأهالي، لكن المحتجين لم يغضّوا الطرف عن المسائل المعيشية والاقتصادية والاحتكارية التي تمارسها السلطة، من خلال تحويل الموارد الاقتصادية إلى تجارة تنتفع بها.
وقال زكور خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن تنوع الاحتجاجات وتشعُّبها إلى ملفات عديدة في إدلب يعكس حالة تردٍّ عامة مرتبطة بشكل أو بآخر بالسلطة، نتيجة ضعف أدائها وارتكابها أخطاء وصلت إلى الانتهاكات والفساد والمحسوبيات”.
وأضاف: “إن احتكار القرار المادي والاقتصادي والمعنوي والسياسي في المنطقة كان سببًا في تنوع الاحتجاجات، لتصل إلى مختلف فئات المجتمع، لأن تأثير السلطة عام وشامل على جميع القطاعات، وطالما هناك خلل في السلطة هناك خلل مصاحب في كافة القطاعات المتضررة”.
ضغوط وانتهاكات تسبّبت في انفجار الشارع في إدلب ضد تحرير الشام
وتبدو التظاهرات المناهضة لهيئة تحرير الشام التي بدأت في 25 فبراير/ شباط الماضي، جاءت نتيجة تراكمات وضغوط وممارسات وانتهاكات أمنية بحقّ الأهالي، آخرها مقتل شاب تحت التعذيب في سجون الأمن العام، حيث شكّلت فتيلًا لسماع أصوات مختلف الفئات المجتمعية في المحافظة التي تقبع تحت سيطرة تحرير الشام، وتواجه تضييقًا واحتكارًا وسوء إدارة وقرارات تعسفية.
وأكّد عبد الرحمن طالب، وهو ناشط في الحراك الثوري في إدلب، أن سياسة تحرير الشام تسبّبت في ضرر لمختلف فئات المجتمع، فيما شكّل الحراك العام سببًا رئيسيًّا أمام الناس لكسر حاجز الخوف، والانخراط في حراك محدود ضمن قطاع معيّن، أو ضمن الحراك العام المناهض للسياسة الكلية لهيئة تحرير الشام.
وقال الناشط خلال حديثه لـ”نون بوست”: “تحاول تحرير الشام احتواء الحراك بمختلف فئاته، من خلال الوقوف على المطالب وإصدار قرارات وبيانات دون المواجهة الأمنية، رغم وقوع مشاكل من قبل أفراد، لكنها لا تسجّل حالة واضحة ورسمية ضد الحراك”.
وأضاف: “تدّعي تحرير الشام الاستماع لمطالب المحتجين وتتجه نحو الإصلاح، لكن معظم قراراتها الإصلاحية تمرّ بحالة تخبُّط لأنها غير مدروسة، ومحاولة لإسكات الشارع المنتفض ضدها، لكن ذلك لم يثنِ المظاهر الاحتجاجية”. مشيرًا إلى أن “تحرير الشام استكبرت بالأرض واعتقدت أنها الوريث الوحيد للثورة، واتخذت إجراءات في سياق احتكار السلطة في مختلف المجالات دون إشراك الأهالي”.
كيف تفاعلت تحرير الشام مع الاحتجاجات؟
حاولت هيئة تحرير الشام منذ اندلاع الحراك بعد تفجُّر “ملف العمالة”، وكشف انتهاكات وممارسات لحقوق الإنسان في السجون، احتواء الحراك والالتفاف على المطالب دون استخدام القوة الأمنية القمعية، من خلال اتخاذ سلسلة من الإجراءات في إطار تهدئة الشارع المنتفض ضدها.
وعقدت تحرير الشام عددًا من الاجتماعات بين قادتها وزعيمها الجولاني، ومع شخصيات ونخب مجتمعية ووجهاء القرى والبلدات وأعضاء مجلس الشورى وحكومة الإنقاذ، حيث قدموا خلالها مطالب المتظاهرين، كما وُعدوا بتحقيقها، وقرروا تشكيل لجان لعقد اجتماعات مماثلة مع الفعاليات المدنية والشعبية للاستماع لمطالبهم، وتسهيل آلية التواصل بين الأهالي والجهات الرسمية.
وتمخّض عن الاجتماعات والوعود عدة إجراءات، تمثلت في إصدار عفو عام عن بعض المساجين وفق شروط، إلا أن هذه الخطوات لم ترقَ إلى مطالب المتظاهرين، لأنها شبه روتينية وتصدر كل عام تقريبًا، إضافة إلى حلّ جهاز الأمن العام ووضعه تحت سلطة وزارة الداخلية، وقرارات تتعلق في الجانب الاقتصادي من خلال إعفاء وتخفيض أسعار ترخيص البناء.
بينما اتخذت إجراءات مماثلة لاستيعاب الاحتجاجات بمختلف فئاتها من خلال إصدار قرارات وبيانات توضيحية، في سعيها المتواصل للابتعاد عن المواجهة القمعية، وهذا ما تبرهنه الفترة الزمنية لاستمرار الاحتجاجات، وهي أساليب وُصفت بأنها تهدف إلى الالتفاف على مطالب المتظاهرين، من خلال مناقشة ملفات ثانوية وتجاهُل المطالب الأساسية.
ويرى مدير وحدة تحليل الدراسات في مركز أبعاد، محمد سالم، أن الاحتجاجات نتجت عن ممارسات قمعية ظالمة ضد الأهالي في مناطق نفوذ تحرير الشام، فضلًا عن تفكيك وضرب عدد كبير من الفصائل بالقوة والإقصاء وسفك الدماء.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يؤكد توسع الاحتجاجات كثرة المظالم، مع وجود نوع من فقدان التماسك الداخلي داخل تحرير الشام بسبب “ملف العمالة”، وبالتالي صار هناك مصالح لعدد من المتنفذين داخلها بهدف الضغط على الجولاني، سواء لإقصائه أو لتحييده عن عدد من الملفات، وهذا أحد العوامل المهمة التي ساهمت في زيادة الحراك الشعبي”.
وأضاف: “إن تفاعل تحرير الشام مع الاحتجاجات كان مزيجًا من التعامل الأمني والسياسي والاجتماعي، من خلال محاولات الاحتواء عبر تغيير في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، من خلال التواصل مع الوجهاء ودفع ديات لذوي القتلى والإفراج عن بعض المعتقلين، دون المساس بالبنية الأمنية الأساسية للهيئة وسياساتها الجوهرية حتى الآن”.
واعتبر أن تحرير الشام ستواصل امتصاص النقمة وتخفيفها بالاعتماد على الزمن لانفضاض الاحتجاجات التي لا أفق كبير لإحداث نتيجة لها، ما لم يحدث تغيير داخل تحرير الشام نفسها، بينما يبدو ذلك صعبًا بعدما استطاع الجولاني التفرّد بإدارة المنطقة وحكمها.
ورغم محاولات تحرير الشام في لملمة ما أحدثه “ملف العمالة” من خلل في مناطق سيطرتها في محافظة إدلب شمالي غربي سوريا، إلن أنها تواجه خيارات أكثر صعوبة في ظل موجة الاستياء والسخط الشعبية والاحتجاجات المتواصلة، التي باتت تكشف ملفات تتعلق في الجوانب الإدارية والاقتصادية والسياسية، ما يجعلها سلطة أمر واقع مشكوكًا بأمرها.