وجب أن يقبل المرء على نفسه الكثير من السذاجة ليصدّق بعض من يعارض الانقلاب في تونس في هذه الأيام، وقد استفاقوا من نشوة الزغاريد التي أطلقوها ليلة 25 يوليو/ تموز على خيبة ماحقة.
لقد قطع الانقلاب الكثير من أرزاق سهلة كانوا يجدونها في لعن من يحكم، والتشنيع عليه بحقّ وبباطل. نرى ونسمع الكثير منهم يقيم مناحات طويلة على انتهاكات الحرية وعودة دولة البوليس، لكن لدينا يقين سنبيّنه أن هؤلاء وكثيرًا مثلهم لم يصلهم العقاب بعد، لا يدافعون عن حرية شاملة ومؤسسة، بل عن حرية رفاقهم في أن يتمتعوا بحرية ممارسة الاستئصال السياسي، فلا معنى أن يتباكى المرء على حرية البعض دون الآخرين والجميع مسجون بتهم معارضة الانقلاب.
إن هذه الحقيقة العارية تجعل من النباهة القول بأن ما نرى هو معارك مواقع في مسار غنيمة ثبت قديمه بعد هزة الثورة، وليس معارك مبدئية دفاعًا عن حرية وطن وحرية مواطن.
الانقلاب ثبّت أركانه
سأخالف هنا كل التحاليل المتفائلة التي ترى المنقلب إلى زوال وانقلابه سيُمحى من تاريخ تونس. هذا القراءة المتفائلة فقدَت أسبابها بعد عام من الانقلاب، ولذلك هي لا تملك الآن أسبابًا للتفاؤل، بل هي تحوّل أماني القائلين بها إلى استشرافات فيطمئنون إليها.
هكذا سمعتها في آخر زمن بورقيبة وفي زمن بن علي، وهي تنطلق من مكان خاطئ لتصل إلى سلسلة من الأخطاء. المنطلق الخطأ هو أن البلد مستقل وذو سيادة على قراره السياسي الداخلي، وعليه يمكن النضال من أجل إصلاحات سياسية في دولة مستقلة ولها إدارة ذات قرار.
الحقيقة تتعرى كل يوم أمام أطياف المعارضة التونسية الديمقراطي منها والاستئصالي، وآخر الأدلة عليها خضوع الانقلاب إلى إملاءات منع الهجرة غير القانونية انطلاقًا من تونس، والذي فرضته حكومة إيطاليا (بعلم كل أوروبا الرافضة للهجرة) بمقابل مادي، وغير مهم المبلغ هنا وما إذا كانت الصفقة مربحة، فنحن نتحدث عن قرار سياسي موجّه إلى الداخل اتُّخذ بمقابل مالي من جهة خارجية.
أما لماذا جرى ذلك فلحاجة النظام إلى المال في تصريف شؤون الناس، ومنهم قوافل رهيبة من الموظفين الواقفين على باب الفقر. وسبب الحاجة يغلق الدائرة، فليس للبلد سيادة على قراره الاقتصادي لأن ليس له سيادة على قراره السياسي. وما دام يؤدي مهمات من قبيل منع الهجرة فهو نظام صالح للبقاء بقوة الخارج، أما الداخل فعاجز عن تغييره بوسائل السلم.
أما إذا أضفنا إلى عمل معارضيه روحًا استئصالية تفرز بين حرية للأصدقاء دون البقية، فإن أمام النظام أيام سعيدة قادمة، ولا أقول بالوجه نفسه إنما أجزم بأن منظومة الحكم باقية بالأسلوب الذي تشتغل به الآن. والذين يعارضون الآن من الطيف الاستئصالي، يعارضون من أجل موقع في منظومة حكم مستقرة وليس من أجل الحرية.
طيف ديمقراطي معارض بلا خريطة
أعتبر المعارضة هي التي وقفت ضد الانقلاب منذ ساعاته الأولى، ولا أعتبر معارضًا من مهّد للانقلاب وبرره ورقص فرحًا، ثم خاب فارتدَّ فصار داعية حرية، دون أن يقدم أي اعتذار عن مساره الانقلابي. هذا الطيف المعارض لا يملك خارطة طريق، رغم أنه يتحرك منذ شهور تحت يافطة استعادة الديمقراطية.
لقد تحركت المعارضة في أول أيام الانقلاب تحت دستور 2014، وعملَت على استرداده بل إعادة فتح البرلمان الشرعي، لكنها لم تفلح في ذلك لأن الكثير منها كان يرى في ذلك خدمة لرئيس البرلمان المعزول ولحزبه.
ربح الانقلاب الكثير من الوقت في أثناء بحث المعارضة عن نقطة انطلاق أخرى، فلما اقترب الأجل القانوني لانتخابات رئاسية كشفت المعارضة عن مناورة قبول الانتخابات، لكن بإعلان عدم الترشيح لها مؤقتًا (ولا نظن قيادتها تصمد للإغراء). وبذلك تخلت بشكل كلّي عن دستور 2014، وقبلت ضمنًا العيش تحت دستور الانقلاب، وخسرت في الأثناء كل ما اكتسبته من مقاطعة الانقلاب وهو يصنع دستورًا غير شرعي.
تبدع المعارضة في متابعة قضايا الحريات الفردية وتنتج خطابًا رومانسيًّا، ومنظومات الحكم تعرف ذلك ولا يزعجها الخطاب، بل إنها تحرضه باعتقالات ومطاردات إضافية وبالتقسيط المريح، وهذه تجربة عمرها من عمر الدولة نفسها. لم تتوقف الدولة ولم تتعلم المعارضة، حتى ليظن المرء في ردهات كثيرة أنها عملية توزيع أدوار بينهما.
لماذا لم تذهب المعارضة في خطة مقاطعة الانقلاب حتى النهاية؟ يعود هذا في تقديرنا إلى طبيعة الشخصيات المعارضة نفسها، فهي شخصيات من منحدرات اجتماعية مرفّهة، وقد وقفت عند النضال الحقوقي السلمي وبوسائل السياسة.
لذلك لا يمكنها بناء خطة معارضة على عصيان مدني، فهذا لا يدخل في وسائلها وتصوراتها، وهي تقول إن مثل هذا العمل المعارض يحتاج قوة سياسية لها عمق شعبي، لكن هذه شخصيات المعارضة لا تسأل نفسها وهي تعارض منذ 60 عامًا لماذا لم تبنِ قوة شعبية تسير معها في الخيارات الجذرية.
تعرف هذه الشخصيات أن المعارضة الجذرية لها ثمن قاسٍ، لكنها ليست مستعدة له وهذا من طبيعتها وموقعها الاجتماعي، وهنا يصبح نضالها من أجل حرية معتقل، أو من أجل محاكمة قانونية بحثًا عن مكاسب بأخفّ الأضرار، وهو ما يجعلها تكتفي بالبقاء في مقعد المعارض الذي ينال شرف الحديث ضد السلطة ولا يصل إلى تغييرها، وهو موقع مريح بثمن مظاهرة صباح الأحد، فتكون مطالبتها بالحرية فئوية تخدم الزعامات ولا عجب، فبعض هذه الزعامات مطمئنّ إلى وضعه في المعارضة منذ 60 عامًا، وهو سعيد بلقب “أبو الديمقراطية”.
الوضع البائس سيستمر طويلًا
المعارضون الذين يطالبون بالحرية لأصدقائهم فقط لن يزعجوا منظومة الحكم، والمعارضون المكتفون بنضالات حقوقية رومانسية لن يسقطوا المنظومة الحاكمة بقطع النظر عن شخص الرئيس، والجميع في طريق القبول بمكاسب فئوية أقل ممّا تقتضيه المرحلة البائسة.
لا يوجد في هذا المشهد احتمال ولو ضئيل لتتفق أطياف المعارضة حول برنامج حريات يأخذ بعين الاعتبار أن الحرية تبدأ من استعادة البلد سيادته على قراره السياسي، ومن ثم قراره الاقتصادي، ونسمّي هذا استئناف الثورة واعتبارها حركة تحرر وطني، لا مجرد استعادة الديمقراطية بشروط الاحتلال.
أليست هذه رومانسية ثورجية تزايد على معارضة واقعية تتحرك بشروط الممكن؟ أي نعم هي كذلك، ولذلك لن يقبل بها أحد من الطيف المعارض. سيضمن النضال الواقعي مواقع للواقعيين بعلم قوى الاحتلال غير الظاهرة في المشهد، لكنها تملي قراراتها بلطف وببعض المساعدات التي تديم الوضع البائس. هكذا كان زمن بورقيبة وهكذا سار الأمر زمن بن علي، وهكذا عاد بعد الانقلاب على وعود الثورة عندما تم وصمها بثورة الياسمين، فطمس طموحها التحرري.
الوضع الذي يدفع فيه الفقرُ الفقراءَ إلى الثورة فتتلقّف نخب الصالونات ثورتهم لن يعود ثانية، فالجمهور الفقير ليس غبيًّا وإن ظنت به النخب ذلك.