لم تكن النكبة الفلسطينية التي وقعت عام 1948 إعلانًا لحظيًّا للسيطرة على فلسطين وطرد سكانها منها، ففي اللحظة التي توّجت فيها “إسرائيل” انتصارها عبر إعلان إقامة دولتها في 14 مايو/ أيار 1948، كانت الحركة الصهيونية قد أسّست لوجود هذه الدولة عبر 3 مراحل مختلفة الأطر الزمنية والسياسات.
ويمكن تلخيصها أولًا بالتخطيط قبل عقود من النكبة، من خلال إنشاء مؤسسات كنواة للدولة الإسرائيلية التي سوف تتولى تنظيم الحياة اليومية للإسرائيليين بعد إعلان الدولة، وثانيُا بالتخطيط لكيفية إدارة حرب النكبة، بانتهاج سياسة إنتاج الخوف عبر تنفيذ المجزرة لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، ثم لتأتي المرحلة الثالثة من التخطيط، والتي مورست على الفلسطينيين الذي نجحوا في البقاء في أراضيهم، عبر إخضاعهم لحكم عسكري استند إلى مجموعة من القوانين العسكرية في الهيمنة على الحياة اليومية للفلسطينيين.
التمهيد للنكبة وإعلان الدولة
ناقش المؤرخ والمفكر السياسي الفلسطيني، عبد الوهاب الكيالي، مبكرًا سياقات تأسيس الحركة الصهيونية للمستعمرات الزراعية الجماعية “الكيبوتز”، كقاعدة تمهّد لإقامة الدولة الصهيونية وحمايتها بعد إنشائها، فيما تشكَّل “الموشاف” كمؤسسة تعاونية استعمارية استهدفت الاستحواذ على الأرض، عبر تعاونية ضمّت مجموعة من العمال اليهود القادمين إلى فلسطين.
في السياق ذاته، أنشأت الحركة الصهيونية مجموعة من المؤسسات المركزية لمشروعها، وأهمها المصرف اليهودي للمستعمرات عام 1889، ولجنة الاستعمار عام 1889، وبيت الكتاب القومي عام 1892، والصندوق القومي اليهودي عام 1901، والهاغاناه الذراع الأمنية لليشوف، والحركة الصهيونية عام 1920، وشركة الكهرباء عام 1923، والجامعة العبرية عام 1925، وشركة المواصلات “إيجد” عام 1933، وشركة المياه “مكوروت” عام 1937، وغيرها من المؤسسات والنقابات.
وفي عام 1935 تأسست شركة راسكو (مؤسسة الاستيطان في الريف والضواحي)، والتي كانت إحدى مهامها المساعدة على تأسيس قرى الطبقات الوسطى التعاونية، مثل مستعمرات كفار شمار ياهو، وسدى واربورغ، وبيت اسحق، وستيفي صهيون، والتي أقامتها في المرحلة الأولى.
كما أسّست الحركة الصهيونية عام 1918 مكتب المعلومات (مسراد هيديعوت)، كمؤسسة تخصّصت في التجسُّس ومراقبة الفلسطينيين والعرب، وجمع المعلومات عنهم وعن تحركاتهم وأنماط معيشتهم.
يطرح الباحث والمحاضر المتخصص في التخطيط المدني، يوسف جبارين، مفهوم “تخطيط الهيمنة” في دراسته “خيال الدولة: تخطيط الهيمنة وتهميش الناس واضطهادهم في إسرائيل وجنوب أفريقيا”، ويعني به ما تريد أن تكون الجماعة المهيمنة عليه، حيث يرتبط هذا الخيال بـ”انسجام” و”كلية” هذه المجموعة المهيمنة، بينما يتم استبعاد المجموعات المحرومة، “الآخرين”، من هذا الخيال الكلي، وبناءً على ذلك، تتم معاملتهم معاملة الغرباء داخل هياكل وطنهم، من خلال التهميش والقمع والاستبعاد ونزع الملكية.
ونجدُ معنى ذلك في هذه المأسسة التي سعت خلفها الحركة الصهيونية، عبر استخدام ممارسات التخطيط التي تنتهجها الدول لبناء نفسها، وهي العلاقة ذاتها بالشكل الأساسي بالبنية التحتية، وما يندرج بداخلها من تعليم ومياه وطاقة وأمن.
يحيلنا ذلك إلى القول إن النكبة الفلسطينية ليست حدثًا نتج بصورة فجائية، اقتحمت بناءً عليه العصابات الصهيونية القرى والمدن الفلسطينية واستعمرتها، إنما النكبة كانت تخطَّط قبل عقود من وقوعها، لبناء نواة لهذه الدولة عبر إنشاء مؤسسات تسهم في بناء الحياة الاجتماعية والاقتصادية لسكانها، وتقديم الخدمات العامة للناس من تعليم ونقل ورعاية اجتماعية وتنظيم الموارد المالية.
والتدقيق في المؤسسات التي أنشأتها الحركة الصهيونية، يعطينا لمحة عن كيفية تخطيط الحركة الصهيونية لمفهوم الدولة بالمعنى العملي وليس بالمعنى الإعلاني، ولئن كانت النكبة التي وقعت عام 1948 تتويجًا للإعلان، فإن عقود ما قبل النكبة كانت عملًا لتنظيم الحياة في داخل هذه الدولة.
الترهيب بدافع التهجير
كان حقًّا على “إسرائيل”، بمنطقها الاستعماري القائم على السيطرة على الأرض، طرد الفلسطينيين من أرضهم، فكان الإعلان عن لحظة الصفر لإقامة هذه الدولة بالنكبة الفلسطينية عام 1948، التي أدارتها الحركة الصهيونية عبر فعلَي القتل والتهجير، وكانت مجرزة دير ياسين اللحظة المفصلية في حرب النكبة التي شُكِّلت عبر فعل القتل بالتشويه والتقطيع.
وهذا من الأهمية بأن يدفعنا إلى القول إن القتل لم يكن هدفه التخلُّص من عشرات الأشخاص عبر قتلهم، لكن الهدف الأهم هو بشاعة القتل لإنتاج الخوف في نفوس الناس، ودفعهم إلى الهجرة من قراهم ومدنهم، وبهذا المعنى يغدو هدف التهجير أكثر جدوى من القتل، ففي الوقت الذي يسقط به آلاف القتلى في الحرب، تولد الحرب مئات الآلاف من المهجرين الذي يصبحون خارج مناطقهم معرضين للجوع والأوبئة والأوضاع الإنسانية السيئة، وهو ما يعني تحقيق الموت غير المباشر لهم دون كلفة عسكرية، ودون “فضائح” سياسية وقانونية حول ارتكاب مجازر.
لكن التهجير بحاجة إلى رافعة له، ومن هنا يمكن أن نفهم كيف أن المجازر شكّلت رافعة للتهجير، فبعد وقوع مجزرة دير ياسين عام 1948، تهاوت القرى الفلسطينية بسبب الخوف من أن يحدث لها ما حدث مع قرية دير ياسين.
وقعت مجزرة دير ياسين في 9 أبريل/ نيسان 1948، وكان ممثل الصليب الدولي، جاك دو رينييه، الشخص الوحيد الذي دخل إلى القرية في 11 أبريل/ نيسان 1948، وهناك وصف دو رينييه ما شاهده: “كان جُلّ أفراد العصابة، سواء الرجال منهم أو النساء، من الأحداث، وبعضهم في سن المراهقة، وكانوا جميعًا مدججين بالسلاح، يحملون المسدسات والرشاشات والقنابل اليدوية والسكاكين الطويلة، وكانت معظم السكاكين ملطخة بالدماء”.
فيما وصف مراسل حربي تفاصيل المذبحة بقوله إنه “شيء تعجز الوحوش نفسها عن ارتكابه، لقد أتى القتلة بفتاة فلسطينية واغتصبوها بحضور أهلها، ثم بدؤوا بتعذيبها وألقوا بها في النار، وشوهوا جثث الشهداء وبتروا أعضاءهم، وبقروا بطون الحوامل”.
لم تكن مثل هذه الأفعال لغرض التشويه والفظاعة، بقدر ما استهدفت إنتاج الخوف لدفع الناس إلى الهجرة من أراضيهم خوفًا على أنفسهم وعائلاتهم من القتل والاغتصاب، وبهذا يكون التخطيط الثاني لإدارة قيام “إسرائيل” بعد مأسسة هذا الوجود قبل الحرب، هو إنتاج الخوف من خلال ارتكاب المجازر، والتي أودت بحياة المئات من الفلسطينيين، لكن الأهم دفع مئات الفلسطينيين إلى الهجرة من أراضيهم، وتعريضهم للموت غير المباشر الأقل كلفة.
ناجون ولكن خاضعون لأحكام عسكرية
أعلنت “إسرائيل” في 14 مايو/ أيار قيام دولتها، وكان عدد الفلسطينيين العرب في المناطق التي احتلتها قرابة 300 ألف فلسطيني. وفي هذا السياق، اعتبر القادة والمخططون الإسرائيليون السكان الأصليين الفلسطينيين في الدولة ككيان ديموغرافي خطير، وقد تجلّى هذا النهج بشكل واضح في الخطط الوطنية التي تتعلق بالفلسطينيين بطريقة معادية وعدوانية، حيث تقوم بتصويرهم على أنهم “بناة غير شرعيين” و”غزاة غير شرعيين” لأراضي الدولة، و”مجموعة سكانية تنتشر وتتزايد” و”خطر ديموغرافي”.
بناءً على هذه النظرة، أخضعت الفلسطينيين عبر سلطة التخطيط في أراضي 1948 لحكم عسكري، وبحسب المفكر والمؤرخ الفلسطيني، صبري جريس، سيطر هذا الحكم العسكري على مساحات واسعة من أراضي الجليل والمثلث والنقب، مستعملًا صلاحيات إدارية واسعة جدًّا وشبكة خاصة من المحاكم العسكرية.
واستندت في إدارتها إلى قوانين الدفاع التي تكونت من 170 قانونًا، وبحثت هذه القوانين في شؤون الرقابة، وتحديد حرية الحركة والتنقل وحرية الكلام والصحافة، وكان أكثر هذه القوانين استخدامًا المادة 125، التي تمنح الحكام العسكريين صلاحية الإعلان عن مناطق واسعة بكونها مناطق مغلقة، وتحديد الدخول والخروج منها بتصاريح، وبهذا منعت الحركة وأعادت تشكيل الحركة الفلسطينية عبر التصاريح.
ومن بين العقوبات التي تدعي إلى السخرية، العقوبة التي تعرض لها السيد أحمد حسن في أغسطس/ آب 1958 على خلفية تنقله دون تصريح، إذ أصدر الحاكم العسكري أمرًا يقضي بأن يجلس تحت الشجرة كل يوم من طلوع الشمس حتى غروبها، وطوال 6 أشهر.
كما عملت تلك القوانين على استملاك الأراضي، ومن أبرز الحالات التي تمّ فيها استملاك الأراضي للصالح العام، مصادرة 1200 دونم من أفضل أراضي مدينة الناصرة، بحجّة أن هذه الأراضي مطلوبة لإقامة أبنية حكومية عليها، ورفضت محكمة العدل العليا شكوى قدّمها أصحاب الأرض ضد الحكومة، وذلك لأن المحكمة اقتنعت بأن امتلاك تلك الأراضي مطلوب لأغراض إقامة مكاتب حكومية للمنفعة العامة، غير أن تلك الأراضي التي صودرت بُنيت عليها بيوت للقادمين الجدد، وأُقيمت عليها مصانع للغزل والنسيج والشوكلاتة والبسكويت.
نجد تفسيرًا لذلك عند يوسف جبارين في دراسته “خيال الدولة: تخطيط الهيمنة وتهميش الناس واضطهادهم في إسرائيل وجنوب أفريقيا”، حين يتحدث عن جذور أيديولوجية التخطيط الإسرائيلي التي تتعامل مع الأرض بكونها فارغة، معتبرًا أن هذا الادّعاء هو ما يوفر الأساس السياسي والأيديولوجي لممارسات تخطيط الحكومة الإسرائيلية حتى اليوم.
فمن أول خطة وطنية إسرائيلية إلى أحدثها، كان الشاغل الرئيسي للدولة وللتخطيط المكاني معالجة نقص الوجود اليهودي في مختلف أنحاء البلاد، وسعيًا لسدّ هذا النقص شرعت سلطات الدولة الإسرائيلية في تنفيذ مشروع مكاني-ديموغرافي كبير للاستيطان اليهودي والاستعمار الداخلي الذي يستمر حتى الآن.
وهنا تكمن ازدواجية التعامل مع الأرض بكونها فارغة، حيث في الوقت ذاته تم تسهيل وتعميق عملية التصنيف العرقي، الذي يشير ضمنًا إلى وجود مجموعة أخرى أُخضعت للتضييق والملاحقة والعقاب، كما حدث مع السيد أحمد حسن.
يذهب السياسي والأكاديمي الفلسطيني، فايز الصايغ، في كتابه “الاستعمار الصهيوني في فلسطين”، إلى القول إن الهدف المستمر والملحّ للصهيونية هو بناء دولة في فلسطين كلها، يسميها الصهاينة “إسرائيل”، أرض خالية تمامًا من العرب، ولا يمكن تحقيق هذه الأمنية دون فعل التخطيط المستمر، وذلك لإنتاج ما يطلق عليه الصايغ المضمون النهائي لحلّ “المشكلة العربية” في فلسطين، والمتمثلة بمحو العنصر البشري.
قامت النكبة الفلسطينية على مخططات أعدتها الحركة الصهيونية قبل عقود، لتجسيد إعلان الدولة بشكل ينظم حياة المستوطنين بعد طرد الفلسطينيين منها، وإخضاع من بقوا لأحكام عسكرية تتحكم في تفاصيل حياتهم اليومية، بما يشمل الحركة والعلاج والتعليم، وذلك ما تسعى الحركات الاستيطانية إلى تحقيقه دومًا وهو تحقيق السيادة المطلقة على الأرض، والتي بدأت قبل الحرب وتجسّدت ذروة فعاليتها أثناء الحرب، لتستكمَل بعد الحرب.