تصاب القصص التاريخية بالكثير من التشكيك والتزوير، لأن الأيادي السياسية تلعب دورًا كبيرًا في إعادة كتابة أحداثها وقد تتلاعب في حقائقها أو تغير من معلوماتها بعض الأحيان بحسب مصالحها، ولتجنب المعلومات المزورة والخاطئة يفضل دائمًا اللجوء إلى مصادر متنوعة يكتبها شهود عيان أو مؤرخون محترفون.
ففي الأيام الأخيرة، انشغلت منصات التواصل الاجتماعي بحادثة التغريدة التي أعاد نشرها وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد، التي تحتوي إساءة لقائد عثماني كان مسؤولًا عن حماية المدينة المنورة قبل 100 عام، وتنتهي التغريدة بعبارة تقول “هؤلاء أجداد أردوغان وتاريخهم مع المسلمين العرب”.
هذه العبارة بالتحديد كانت سبب في حدوث تلاسن بين الدولتين، وهذا بعد أشهر من كلمة الرئيس التركي رجب طيب أروغان التي قال فيها: ” قيل لنا لسنوات طويلة إن العرب طعنوا ظهورنا من الخلف وخانوا أجدادنا العثمانيين، عبروا عن هذه الحادثة بأقبح الأوصاف التي يمكن استخدامها، وبالمقابل تعلم العرب أن الدولة العثمانية استعمرتهم لمئات السنين، كما أنه تم تفريق الشعبين بالحدود الجغرافية المصطنعة وتم تدريسهم وتدريسنا حوادث تاريخية خاطئة لنصبح أعداءً وفي خصام دائم بسبب هذه الأكاذيب التي تحاول أن تقطع الأواصر بين تركيا والعالم العربي من خلال إثارة بعض الاضطرابات التاريخية”.
محاولًا أن يردم الهوة بين المجتمعين الذين وقعا ضحية المغالطات التاريخية التي نتج عنها توترات سياسية واجتماعية، ولحسم هذه الخلافات، نقدم مجموعة من المصادر التاريخية العربية والتركية الموثوقة، يمكن الاعتماد عليها في دراسة تاريخ علاقات العرب والأتراك، وخاصة لمعرفة شخصية فخر الدين باشا، وأهمها:
قدير مصر أوغلو
كاتب مؤرخ وحقوقي، تركي الجنسي، من أكبر المدافعين عن الإسلام ويقدم برنامجًا عبر موقعه الشخصي وله لقاءات مع الفضائيات المختلفة التركية يتناول فيها التاريخ العثماني، ومن أشهر مؤلفاته أتراك العراق وقضية الموصل، وقضية فلسطين ومناهضته لـ”إسرائيل”، ويشتهر برأيه عن خيانة العرب في الحرب العالمية الأولى الذي يقول فيه إن الإنجليز استغلوا الحسين شريف وحاولوا إغراءه بالمناصب وتهديده بقصف المدينة المنورة، وأي شيء آخر فهي ادعاءات خالية من الصحة.
وبالنسبة إلى الجدال بشأن شخصية فخر الدين باشا، أوصى مصر أوغلو بقراءة كتاب “المدافع عن المدينة” الذي يروي رواية الضابط ناجي كاشف كيجمان المرافق لفخر الدين التي يظهر فيها المعاناة التي مر بها جميع المدافعين عن المدينة في ذاك الوقت، حفاظًا على العالم العربي الإسلامي من خداع البريطانيين.
وسلط الضوء بالتحديد على فخر الدين باشا الذي عاش تحت الحصار وعانى من الجوع والعطش وحر الصحراء، وكيف أجبرت تلك الظروف أهالي المدينة والجيش على أكل الجراد لسد جوعهم.
كما أنه نشر وثائق من الأرشيف العثماني الذي يظهر فيه حماية فخر الدين باشا للمدينة المنورة وشعبها من الحصار ومساعدته للمحتاجين بالمال والطعام، وإقامته احتفالات دينية في شهر رمضان، هذا ويوثق بعضًا من خطاباته الحماسية التي يقدم فيها وعودًا بعدم التخلي عن المدينة حتى الرصاصة الأخيرة، وولائه للمدينة وإخلاصه في المقاومة والقتال ضد تمرد الإنجليز في الحرب العالمية الأولى.
إلبير أورتايلي
من أشهر أساتذة التاريخ الذين وثقوا التاريخ العثماني، ولديه مؤلفات عديدة تسلط الضوء على جميع حقب حكم الدولة العثمانية، وفيما يخص حادثة القائد فخر الدين باشا، وصف أورتايلي أفعاله بالبطولة التي تنبع من الإيمان، وبشكل أكثر تفصيلي أوضح أورتايلي أن فخر الدين باشا وجنوده استمروا في الدفاع عن المدينة المنورة ومقدساتها، رغم قلة العتاد والغذاء، وبقائهم وحدهم دون إمدادات تصلهم من أي جهة.
كذلك قال: “عندما كان فخر الدين وجيشه داخل المدينة المنورة، كانت الجيوش الأخرى أعلنت الهدنة فيما بينها، وكان هو وجنوده منعزلين عن الجميع، ولم يتركوا المدينة، وسطروا هناك ملامح بطولية لا مثيل لها”.
وفي نفس السياق، يقول “هناك أتراك يجهلون حقيقة ما كان يفعله هذا القائد ويقومون بانتقاده بسبب جهلهم، مثل مسألة إرساله لبعض المقدسات والمخطوطات إلى إسطنبول واتهامه بالسرقة، إلا أن قصر توب قابي كان المكان الأكثر أمانًا للحفاظ عليها، ولولا هذا التصرف لكانت هذه الآثار موجودة في المتحف البريطاني في لندن“.
للمؤرخ أورتايلي مجموعة من الكتب التي يمكن الاستفادة منها مثل إعادة استكشاف العثمانيين وأطول مائة عام.
إرهان أفيونجو
مؤرخ تركي وأكاديمي، له مجموعة كبيرة من المؤلفات التاريخية التي تسرد أهم المنعطفات التي مرت بها الدولة العثمانية ويسلط الضوء في كتاباته على شخصيات لمع اسمها في ذاك الوقت، ومن أهم ما وثقه سيرة فخر الدين باشا الذي قال عنه إنه “من أهم الأسماء في التاريخ“، وأضاف “ناضل من أجل عدم سقوط العلم الإسلامي في أي مكان، في الوقت الذي كان فيه بعض الملوك يتعاونون مع البريطانيين”.
وأشار إلى أن صفحات التاريخ الإسلامي تحتفي بمجد وشرف فخر الدين باشا الذي أظهر حنكته عندما أرسل الآثار المقدسة إلى إسطنبول خوفًا من وقوعها بين أيدي البريطانيين ومنعًا لأعمال النهب.
وفي نفس السياق، يذكر أن الدولة العثمانية أمرت فخر الدين بنقل هذه المقدسات إلى إسطنبول، ووصل عددها إلى 745 قطعة على هيئة ثريات ومصابيح وشمعدانات والمجوهرات والألماس وبعض الكتب المخطوطات التي احتوت بمجملها على مواضيع دينية، فقد كان عددها 560 ومنها 95 قرآن وتم إصلاح 83 منها، هذا ووضعت جميعها في صناديق مختومة باسم الرسول الكريم، وعين أكثر من جندي لحماية هذه الصناديق التي نقلت إلى دمشق ثم إلى إسطنبول في 25 من مايو 1917.
مذكرات ضابط عراقي في الحرب العالمية الأولى
يحكي المؤرخ والمفكر العراقي عماد عبد السلام رؤوف قصة الضابط مهدي بن صالح بن سليم الذي انضم إلى الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى، وكان أحد العراقيين الذين لم يعودوا إلى وطنهم أحياءً ولا أمواتًا.
استمرت خدمته العسكرية طويلًا تحت لواء الجيش العثماني الذي كرمه فيما بعد لشجاعته وبسالته، وبعدها خدم في الجيش العراقي حتى إحالته إلى التقاعد بسبب رفضه الانصياع لأمر عسكري يأمر بقمع حركة شعبية في بلدته
وتمثل هذه المذكرات أهمية كبيرة في عرض شجاعة مهدي بن صالح الذي حارب على جبهات مختلفة وبعيدًا عن وطنه، فلقد حارب في فلسطين وقناة السويس وغزة وأدرنة وأوروبا وجناق قلعة، واستمرت خدمته العسكرية طويلًا تحت لواء الجيش العثماني الذي كرمه فيما بعد لشجاعته وبسالته، وبعدها خدم في الجيش العراقي حتى إحالته إلى التقاعد بسبب رفضه الانصياع لأمر عسكري يأمر بقمع حركة شعبية في بلدته.
وتعد هذه المذكرات نموذجًا مثاليًا للأبطال الذين قدموا سنين من حياتهم للدفاع عن قضايا وطنية مختلفة، وتدلل على الدور المشترك بين العرب والأتراك في الحياة العسكرية والسياسية، إذ لا تنته المصادر التاريخية عند هذا الحد فقط، فهناك مذكرات ضابط عثماني في نجد، ومذكرات جمال باشا وطلعت أيضمير وموسى السوداني الذين يحفظون التاريخ بتفاصيله وتواريخه في صفحات كتبهم.