منذ صدوره في دور العرض، صنع فيلم دارين أرونوفسكي الجديد “أم!” أو “Mother!” جدلًا واسعًا بين أوساط المشاهدين والنقّاد، فإمّا أن تعشقه وتراه واحدًا من أفضل الأفلام، أو تكرهه وتعتبره أسوأ فيلم في هذا القرن، كما قال عليه أحد نقّاد المجلات السينمائية.
تبدأ أحداث الفيلم بمشهد يظهر فيه منزل كبير وقد تآكل كليًا بفعل حريق كبير، بينما البطل خافيير بارديم يقف ممسكًا بما يشبه الجوهرة أو الكريستالة ثم يضعها على حامل، ثم ما يلبث البيت المتآكل بالتحول إلى بيتٍ عاديّ يظهر تدريجيًّا لنتعرف بعدها على بطلة الفيلم ورفيقة الكاميرا طوال ساعتين تقريبًا جينفر لوارنس، التي تلعب دور الزوجة وصاحبة المنزل ثمّ الأم لاحقًا.
إذن فيعيش الزوجان، جينيفر لورانس وخافيير في منزلٍ كبير ومعزول، لا نرى من محيطه سوى الحديقة الكبيرة التي أشبه ما تكون بجنة دنيوية، وهذا تصوير مناسب للرعب أو القلق الذي تبدأ به عادةً أفلام الرعب. وفي حين تقضي الزوجة وقتها في ترميم منزلهما الذي أكلته النيران سابقًا، يجلس الزوج في مكتبه محاولًا استجداء الإلهام والوحي الذي فقده منذ زمن في شعره وقصائده، الأمر الذي انعكس على علاقتهما العاطفية والجنسية وجعلها محفوفة بالجفاف والجمود.
يختل هدوء حياة الزوجين عندما يصل زائر غريب، سرعان ما نعرف أنه طبيب، فيستقبله الزوج بكلّ حفاوة ورحابة على الرغم من الغموض والغرابة التي تحيط به، الأمر الذي يدفع كلًا من الزوجة والجمهور للاستغراب والتساؤل عن السبب الذي قد يدفع بالزوج دعوة ذلك الغريب للبقاء في المنزل، الذي ما تفتأ زوجته بالانضمام إليه، دون أي تلميح لسبب أو كيفية مجيئهما.
يترك أرونوفسكي أسماء شخصيات فيلمه جميعها مجهولة تمامًا، الأمر الذي يعطي انطباعًا باتساع دلالتها وتحولها إلى رموزٍ ومعانٍ فلسفية أو دينية أكثر منها شخصيات سينمائية بحتة.
للحظاتٍ من الوقت يستمر الفيلم تصاعديًا بخلق التوتر والإثارة التي يجيد أرونوفسكي صناعتها، وينكشف خيط السرد شيئًا فشيئًا بمهارةٍ مطلقة، خاصة وأن الأحداث مصورة كليًا من وجهة نظر الأم “جينيفر لورانس”، فالكاميرا ملازمة لها وتدور حولها في محيط مساحتها الشخصية بغض النظر عن اختلاف زاوية التصوير، ما يعكس اضطرابها وحيرتها في جوّ من الاختناق والانتهاك النفسيّ والجسديّ.
لا يستمرّ جوّ الغموض واللافهم والذي يجعل المُشاهد يعتقد أنه يشاهد “مهزلة” ما لا معنى لها كثيرًا. فمع بدء النصف الثاني من الفيلم تبدأ الرموز والإشارات بالانكشاف شيئًا فشيئًا، ولا يحتاج المُشاهد وقتًا طويلًا بعدها ليدرك الاستعارات الدينية والمأخوذة من العهد القديم وتروي قصة الخلق من وجهة نظر الأم، أو الأرض.
لنربط الأحداث وتتضح الصورة أكثر، يرتكز النصف الأول من الفيلم على العهد القديم، حيث يمثّل فيه الزوج الإله، والزوجان الزائران هما آدم وحواء، وقد يكون المشهد الذي رأينا فيه ضلع الزائر المُصاب ما هو إلا كناية عن قصة خلق حواء من ضلع آدم، والتي تظهر بعد وقت قليل من ذلك المشهد، عاكسةً حالة من الإغواء والشهوانية خاصة بعدما أغوت زوجها بالدخول لغرفة الشاعر ولمس قطعته الكريستالية التي سرعان ما تسقط أرضًا من يديهما وتنكسر، ما يثير غضب الشاعر ويأمرهما بالخروج من الغرفة، في إشارةٍ واضحة للشجرة المحرّمة التي أكل منها كلٌّ من آدم وحواء في الجنة وانتهت بخروجهما منها.
لا تتوقف الاستعارات الدينية عند هذا الحد وحسب، فطفلا الزائرين اللذان يخرجان فجأة ما هما إلا إشارة لقابيل وهابيل، إذ يقتل أحدهما أخاه بعد شجارٍ كبير لم يستطع أيٌّ من الأب أو الأم أو الشاعر إنهاءه أو تخليص الأخوين من أيدي بعضهما البعض. و طبقًا للنص التوراتي لقصة قايين وهابيل، فإنّ الأرض فتحت فاها لتقبل دم هابيل، ولو عدنا إلى الفيلم لوجدنا بقعة الدماء التي بقيت ملتصقة بأرضية المنزل تشير لذلك تمامًا.
تصبح الاحتمالات مفتوحةً بعض الشيء بعد انكشاف كل تلك الرموز والاستعارات في النصف الأول من الفيلم، ويبدأ المُشاهد ملمًّا أكثر بماذا يريد الفيلم أو إلى أين سيمضي المخرج في فيلمه.
ثمّ يركز النصف الثاني على حمل الزوجة التي ستصبح أمًا أخيرًا في الوقت الذي يجد فيه الشاعر الإلهام ويكمل قصيدته الغائبة عنه منذ زمن طويل، فينهمر عليه محبّوه ومعجبوه بهوسٍ كبير يصل إلى حد الالتصاق والعبادة، لدرجة أن لا يجد الشاعر لاحقًا أية مشكلة في منح ابنه الوليد لأولئك المعجبين، الذين لم يتوانوا عن قتله، في إشارة لبعض المعتقدات المسيحية حول عيسى وقصة صلبه.
تستمر حالة الفوضى والفساد التي يعيث بها المعجبون دون أي قيود أو اتجاهات إلى أن تقرر الأم المسالمة أخيرًا الخروج عن صمتها وهدوئها السلبيّ فتحرق المنزل بكلّ ما فيه، ويخرج بعدها الشاعر سليمًا من وسط الحريق ليقرر البدء من جديد مع أرض أخرى. ولعلّ قصة البدء هذه هي إشارة لفكرة العود الأبديّ النيتشوية، التي تفترض أنّ الكون والإنسان والأشياء سيُعاد خلقها من جديد بعد موتها وفنائها، وأنّ أي دورة حياتية ما هي إلا بداية لدورات مشابهة لها، فكلّ دورة حياة تشبه التي سبقتها والإنسان وغيره من المخلوقات سيستمرّون بالظهور على مسرح الحياة وكأنه نسخ مكررة من الذين قبلهم دون أية زيادة أو نقصان.
ومع هذا القالب الرمزيّ الكثيف، اختلفت الآراء والقراءات للفيلم، فمن ناحية رآه البعض فيلمًا عبقريًا حتى وإن حمل كل ذلك الزخم من الرموز والاستعارات التي تكشّفت للمشاهد بوضوحٍ كبير شيئًا فشيئًا، ومن ناحيةٍ أخرى وجد آخرون أنّ كلّ تلك الرموز والاستعارات لم يكن لها أي داعٍ، وبالتالي فقد أفقدت الفيلم متعته وضاءلت من الاهتمام بعناصر الفيلم الأخرى.
حتى لو اختلف المشاهدون حول الفكرة والمضمون وطريقة السرد، إلا أنه يصعب عدم الاتفاق حول الرؤية الإخراجية أو المتعة البصرية للفيلم، بدءًا من طريقة دوران الكاميرا حول شخصية الأم في لقطات قريبة جدًا تكاد تلتصق بها، فهي محور الحدث دومًا ونحن نتابع ما يجري من وجهة نظرها هي، ما يخلق حالة حقيقية من التوتر وشعورًا متواصلًا بالانتهاك والاختناق يزداد شيئًا فشيئًا مع مشاهد الفيلم وأحداثه، الأمر الذي يجيده آرونوفسكي بقدرة فائقة سواء في فيلمه هذا أو في أفلامه السابقة.
يستطيع أرونوفسكي الإيحاء للمُشاهد من خلال مَشاهد بسيطة وتقليدية جدًا بأنّ شيئًا جَللًا سيحدث أو أنّ ذلك الحدث ما هو إلا مقدمة لحدثٍ أكبر وأشدّ خطورة، وذلك من خلال تركيزه على ردود الأفعال عن قرب، وطريقة التصوير الخانقة واستخدام الموسيقى التصويرية الحادة التي تنجح بمهارة في خلق أجواء محفوفة بالتوتر والقلق وتهيّئ المشاهد لأحداث كارثية.
يحاول أرونوفسكي دومًا الوصول بشخصياته إلى حدّ الاستهلاك، من خلال إخراج كلّ ما فيها من مشاعر وطاقة والدخول في تجربة سيكولوجية شديدة تخدم السيناريو وتخرج ما في القصة من ألم وانتهاك، تمامًا كما يريد هو. فجينيفر لورانس تقف دائمًا في موضع ردود الأفعال السلبية، متقمصةً دورًا مليئًا بالطيبة حدّ السذاجة، الأمر الذي يمكنكَ أن تستشفه من تعبيرات وجهها ونظراتها إضافة إلى حواراتها وكلامها.
أما مشاهد الصراعات والفساد التي قام بها “البشر”، واستمرّت حوالي العشرين دقيقة كاملة، فقد قدّم من خلالها أرونوفسكي تصويرًا مصغّرًا لمآسي البشر وشرورهم بشكلٍ رمزيّ مجازي، نجح من خلالها مجددًا في إثبات براعته في خلق الأحداث في إطارٍ من المتعة البصرية المؤلمة والمذهلة في آنٍ واحدٍ.