لم تكن عبارة “إسرائيل مرت من هنا” عبارة كتبها الفلسطينيون والمؤرخون -الإسرائيليون قبل العرب- مجرد حشو لتعبئة النص، بل كانت توصيف حال لما قاله الشاهد عن التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون، بدءًا بالنكبة عام 1948 وشنتها العصابات الصهيونية، وليس انتهاء بحرب الإبادة الجماعية عام 2023 والمستمرة حتى لحظة كتابة المقال.
والشاهد في فلسطين كان كل شيء، الدار وقد تغيرت معالمها، والمسجد أصبح إسطبلًا، ومركز القيادة العربي أصبح فندقًا يهوديًا، وبيت الفلسطيني صار مروسًا بعلم “إسرائيل”، والطفل وقد نجى بعد أن خبأته أمه في قنّ دجاج وقت دخول العصابات الصهيونية القرى، ورائحة حرق أجساد الفلسطينيين وقد شمّها ضابط بلجيكي حين مرّ بقرية مهجرة، والمدرسة وقد أصبحت معسكرًا لجيش الاحتلال.
وفيما أسفرت النكبة عن تهجير الاحتلال 800 ألف فلسطيني إلى المناطق والدول المجاورة، وتدمير نحو 531 قرية من أصل 774 قرية ومدينة فلسطينية، وإعلان إقامة دولة “إسرائيل” على أكثر من 85% من مساحة فلسطين التاريخية البالغة قرابة 27 ألف كيلومتر، تغيرت معالم الأراضي الفلسطينية المحتلة والمهجرة، وتضاعفت مع مأساة العودة مأساة اغتراب لأرض يحاول الاحتلال طمس كل أثر فلسطيني فيها.
كيف يتتبّع الفلسطينيون أماكنهم المهجرة؟
حرص اللاجئون الفلسطينيون الذين أنتجتهم النكبة على نقل توصيف دقيق لمنازلهم إلى أبنائهم وأحفادهم، باب الدار، كم شباك في البيت، ما المعالم التي تحيط به، أين يوجد بئر الماء، وكم شجرة زيتون في الحقل، تمنيًا منهم بعودة أبنائهم إلى الدار، إن لم يستطيعوا هم.
لكنّ الصدمة الكبرى، كان برؤية الفلسطينيين لحاراتهم بعد التهجير، حين دخلوا سرًا واجتازوا الحدود بعيدًا عن أعين القناصة الإسرائيليين، وحين وجدوا معالم القرية قد تغيرت وأصبحت إسرائيلية، أو لم يبقَ منها سوى بعض الحجارة القديمة المدمرة، وحين وجدوا مستوطنين قدموا من أنحاء العالم يعملون في بيارة البرتقال على شاطئ حيفا بعد أن كانت مصدر رزقهم وكل حياتهم.
وحديثًا، نشطت مبادرات في الداخل المحتل لإعادة ربط اللاجئ مع موطنه، مثل مبادرة “كنا وما زلنا” التي تتبع البيوت والقرى العربية بعد تهجيرها وتهويدها، والتي يقول مؤسسها طارق البكري في مقابلة صحفية، إنه يتواصل بشكل مستمر مع العديد من اللاجئين في الشتات، فيقولون على سبيل المثال إنهم من قرية لوبيا قضاء طبريا، فيجمع المعلومات عن القرية ويقرأ عنها قبل الذهاب إليها، فيصوّرها، ومن ثم يتواصل معهم ويرسل لهم صور قريتهم.
حوّل الاحتلال 71 قرية مهجّرة إلى مواقع سياحية، وأكثر من نصف هذه القرى غُطيت بغابات وحملات تشجير كثيفة، في محاولة لتغيير ملامحها وبالتالي منع عودة اللاجئين إليها.
ويتابع البكري: “أركز على فكرة الأسماء العربية، فعند مروري من منطقة قرية تكون مسجلة ومعروفة بأسماء عبرية مثل شورش وبيت مائير، لكننا نقرأها بأسمائها الفلسطينية الأصلية وهي سريس وبيت محسير، ونستذكر أهلها الذين ينتمون إليها وأسماء عائلاتهم الذين هُجّروا غصبًا”.
ويحاول البكري إيجاد البيوت القديمة لأصحابها اللاجئين، من خلال صور قديمة للبيوت استطاع اللاجئ أن يحملها معه قبل تهجيره في النكبة، وتستغرق عملية البحث على شكلها الجديد أحيانًا أسبوعًا أو أكثر، مبينًا: “مثلًا إذا طلب مني لاجئ البحث عن بيته في قرية الطالبية، الذي بدوره لا يعلم أين موقع بيته بالتحديد، فأقوم في البحث عنه من خلال الصور القديمة”.
كيف غيّر الاحتلال ملامح القرى المهجرة؟
بعد النكبة بعامين، سنَّ كنيست الاحتلال “قانون أملاك الغائبين”، وشرعن بموجبه الاستيلاء على الأراضي والممتلكات التي تعود للفلسطينيين الذين هُجّروا منها ونزحوا عنها إلى مناطق أخرى عام 1948، وبموجبه غيّر الاحتلال ملكية ما يزيد على 25 ألف بناء تحوي أكثر من 57 ألف مسكن و10 آلاف محل تجاري أو صناعي، وحُوّلت هذه الأبنية إلى شركة عميدار لإسكان المستجلبين اليهود فيها.
اتبع الاحتلال عدة استراتيجيات في تخريب القرى ومعالم الوجود الفلسطيني فيها، مثل طمس معالم القرية بشكل كامل، وتشجير القرى، وتدمير المعالم الدينية والمساجد وتغيير وظيفتها إلى مؤسسات إسرائيلية، وتحويل المؤسسات العربية إلى أخرى إسرائيلية، والبيوت العربية إلى بيوت لمستوطنين إسرائيليين.
وحُوّلت القرى المهجرة إلى أحراش ومتنزهات وحدائق عامة تتبع لما يُسمّى “دائرة أراضي إسرائيل”، ودُمّر أكثر من 1200 معلم أثري ومبنى وموقع مقدس، بسبب الاعتداءات والانتهاكات الممنهجة أو بفعل العصابات.
ورغم أن الاحتلال الإسرائيلي دمّر معظم القرى الفلسطينية التي هجّر سكانها في النكبة، فإنه سنّ قانونًا لاحقًا يجرّم من يدمر الآثار، فقد أسّست ما تسمّى “سلطة الآثار الإسرائيلية” في عام 1985 وحدة خاصة لمحاربة ظاهرة السرقة ومراقبة التجارة بالآثار، لكن هذه الوحدة، كما يقول الباحثون، لا تحرك ساكنًا عندما يدور الحديث عن المعالم في القرى الفلسطينية المهجرة.
وتغاضت سلطات الاحتلال عن عصابات الآثار التي تطلق العنان للسارقين والباحثين عن الكنوز لمواصلة نبش المقابر وتدمير المقامات وحفر المساجد، بغية وضع اليد عليها ومصادرتها لأغراض تهويدية استيطانية، وبذريعة أن هذه المواقع آيلة إلى السقوط وتشكّل خطرًا على المتنزهين، مثل تدمير وسرقة ما تبقى من حجارة المسجد العمري ومقام الصحابي تميم بن أوس الداري في بيت جبرين بقضاء الخليل، وهي البلدة التي دمرها الاحتلال في النكبة عام 1948.
وفي التشجير، حوّل الاحتلال 71 قرية مهجّرة إلى مواقع سياحية، وأكثر من نصف هذه القرى غُطيت بغابات وحملات تشجير كثيفة، في محاولة لتغيير ملامحها وبالتالي منع عودة اللاجئين إليها.
أحد أبرز الأمثلة على هذا الطمس للمعالم “غابات القدس”، التي أُقيمت على قرى القبو وعلار وصوبا وعين كارم وغيرها. ويمكن ملاحظة البيوت الفلسطينية المهدمة بين أشجار الصنوبر، كما في قرية عجّور قضاء القدس المقامة على أراضيها حديقة بريطانيا، وقرية لوبيا قضاء طبريا المقامة على أراضيها حديقة جنوب أفريقيا. كذلك أُنشئت حدائق عامة وغابات على قرى هُجّرت بعد النكسة، مثل قرى عمواس ويالو قضاء الرملة.
قرية عراق المنشية – قضاء غزة
كانت القرية قائمة في منطقة ذات تلال متدرّجة، حيث يلتقي السهل الساحلي سفوح جبال الخليل، وكانت تقع جنوبي الطريق العام بين الفالوجة إلى الشمال الغربي.
في أواخر القرن التاسع عشر كانت قرية عراق المنشية مبنية بالطوب، وتحيط بها الأراضي الزراعية، وكان سكان القرية البالغ عددهم 2332 نسمة عام 1948 يتزودون مياه الاستعمال المنزلي من 3 آبار، وفي القرية 517 بيتًا، وفق إحصاء الانتداب البريطاني.
وفي القرية مسجد قديم وآخر حديث كان يعتبر من أجمل مساجد القرى، وكان فيه عدة غرف ورواق وفناء، وكان فيها مدرسة ابتدائية كانت تضم 201 من التلامذة في الأربعينيات، وعمل أغلب سكانها في الزراعة فزرعوا الحبوب والعنب والكثير من أصناف الأشجار المثمرة (مثل الزيتون واللوز)، وكان الماعز والضأن يوفران لسكانها المواد اللازمة (الصوف والغزل) لحياكة البُسط، وكان سكان القرية يصبغون بسطهم في الفالوجة التي كانوا يقصدونها أيضًا للحصول على العلاج الطبي وسواه من الخدمات.
حاول لواء جفعاتي احتلال القرية في أواخر تموز/ يوليو 1948 خلال الهدنة الثانية في الحرب، غير أنه أخفق، وجاء في تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” في 28 تموز/ يوليو، أن القوات الإسرائيلية كانت تهاجم المواقع التي تتركز فيها الاتصالات والعربات المصرية في عراق المنشية، وبعد ذلك بيومَين أورد تقرير للصحيفة ذاتها حدوث “اشتباكات عنيفة نوعًا ما بين حتّا وعراق المنشية”، ويقول المؤرخ الفلسطيني عارف العارف إن القرية كانت هدفًا “لهجمات متواصلة” خلال الهدنة الثانية، لا سيما في 22 أغسطس/ آب.
شُنّ الهجوم الأخير في 27-28 ديسمبر/ كانون الأول من جانب وحدات تابعة للواء ألكسندروني نجحت في دخول القرية، غير أنها طُردت منها مجددًا لدى وصول إمدادات مصرية، وعند نهاية الحرب كانت القرية تقع في جيب الفالوجة، وهو جيب حوصر فيه 3 آلاف مدني فلسطيني ولواء مصري خدم فيه الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي كان آنئذ ضابطًا في الجيش.
يقول المؤرخ الإسرائيلي بني موريس إنه بعد أيام من توقيع اتفاقية الهدنة بين مصر و”إسرائيل” في 24 فبراير/ شباط 1949، خرقت “إسرائيل” شروط الاتفاقية مستخدمة الرعب والإرهاب لحمل ما يقارب 2000-3000 من سكان عراق المنشية والفالوجة على الفرار وتهجّروا نحو الخليل، وقد ذكر وسيط الأمم المتحدة أن الجنود الإسرائيليين ضربوا المدنيين في ذاك الجيب وسلبوا ممتلكاتهم، كما أُفيد عن وقوع محاولات اغتصاب عديدة.
أُقيم كيبوتس يدعى “جات” في سنة 1941 على أراضٍ كانت تابعة تقليديًا للقرية، كما استولى هذا الكيبوتس في سنة 1949 على مزيد من الأراضي بعد طرد السكان، وبعد ذلك التاريخ بـ 5 سنوات، أي في سنة 1954، أُنشئت مستوطنة كريات جات على أراضي القرية، وأُقيمت أيضًا مستعمرة سدي موشيه سنة 1956 على أراضي القرية، إلى الشرق من موقعها.
وغُرست غابة من شجر الكينا في الموقع، وثمة إشارتان بالعبرية والإنجليزية تعرّف هذه الغابة بأنها “غابة مرغولين للسلام”، ولم يبقَ من القرية سوى آثار شوارعها، مع بعض نبات الصبّار المبعثر، فيما يستغل المزارعون الإسرائيليون قسمًا من الأراضي المجاورة.
القدس
بدأ الهجوم على مدينة القدس في 26 إبريل/ نيسان 1948، بعد أن غادرها عدد من سكانها قبل أسابيع بفعل الهجمات المتتالية على القرى في قضاء المدينة، وأبرزها قرية لفتا في منطقة القدس التي كان يقطن فيها 2500 نسمة، وطردت القوات الصهيونية عددًا من سكانها.
استكملت الهجمات في 11 يناير/ كانون الثاني 1948 بطرد من بقي منهم في القرية، واحتلال قرية القسطل ودخول قرية دير ياسين في أبريل/ نيسان 1948، وارتكاب مجزرة وحشية فيها ذهب ضحيتها أكثر من 100 رجل وامرأة وطفل، واحتلال 4 قرى مجاورة أخرى وطرد سكانها. وقد عملت الدعاية الصهيونية على نشر أخبار مجزرة دير ياسين في كافة أنحاء فلسطين، من أجل خلق جو من الرعب لدى الفلسطينيين بقصد دفعهم إلى الهروب.
نجح المهاجمون في احتلال 8 أحياء في منطقة القدس الكبرى و39 قرية فلسطينية وطرد سكانها إلى الجزء الشرقي من المدينة، واحتلت العصابات الصهيونية الشق الغربي من القدس، بما فيه من الأحياء العربية مثل الطالبية والقطمون والبقعة، وهجّرت 30 ألفًا من سكانها، إلى جانب احتلال وتهجير كل القرى الغربية بدءًا من باب الواد حتى قرى دير ياسين وعين كارم وغيرها.
في المقابل، ظل الشقّ الشرقي من المدينة، المتمثل بالبلدة القديمة والأحياء الشمالية والشرقية مثل وادي الجوز والشيخ جراح، صامدًا وتأخّر احتلاله 19 عامًا، حتى النكسة عام 1967.
وخط سكة حديد يافا-القدس أول خط سكة حديد يتم إنشاؤه في فلسطين، ومن أوائل خطوط سكك الحديد في الشرق الأوسط، بدأت أعمال إنشاء السكة خلال فترة الحكم العثماني عام 1890 وانتهى العمل بها عام 1892، وبعد نكبة 1948 استولت “خطوط السكك الحديدية الإسرائيلية المحدودة” على سكة يافا-القدس وأسمتها خط تل أبيب-القدس.
عام 1929 شيّد المجلس الاسلامي الأعلى برئاسة الحاج أمين الحسيني في فلسطين فندق البالاس (Palace) بالقرب من مقبرة مأمن الله غرب مدينة القدس، وشيّد مبنى على الطراز المعماري الأندلسي، تميّز الفندق بفخامته، والذي شبّهه البعض بقصر الحمراء في غرناطة.
وضمّ فندق البالاس الذي أشرف عليه المهندس التركي النحاس بك، 200 غرفة، 45 منها تشبه الأجنحة مع حمّامات، وخُصّصت 3 مصاعد لاستخدام النزلاء، تمتّعت بتدفئة الفندق المركزية في أيام الشتاء، وبالمطعم الفخم، وكلّ هذه المزايا اُعتبرت في حينها نوعًا من الرفاهية الفائقة التي ميّزت هذا الفندق الفلسطيني الذي لفت الانتباه.
وفي عام 1936 استولى الانتداب البريطاني على المبنى وحوّله إلى مقر حكومي، وخلال نكبة فلسطين عام 1948 استولت دولة الاحتلال على المبنى بحكم القانون الجائر “حارس أملاك الغائبين”.
واستعمل الاحتلال الفندق الفلسطيني العريق كمقرّ لوزارة التجارة والصناعة الإسرائيلية حتى عام 2003، أما الآن فقد تم تجديد الفندق من قبل شركة الفنادق العالمية Waldorf-Astoria، وما زال منقوشًا على واجهته الأمامية بحروف بارزة: “مثلما بنى آباؤنا وفعلوا نبني ونفعل – بنى هذا النزل المجلس الإسلامي الأعلى بفلسطين سنة 1929”.
حي المصرارة
حي المصرارة واحد من 7 أحياء مقدسية تقع خارج أسوار البلدة القديمة من القدس، بني بعد عام 1860 وعلى 3 مراحل: عام 1860 وعام 1880 وفي عام 1920 تم بناء نحو 70% من المنازل البالغ عددها 131 منزلًا، وفيه مدارس ابتدائية وثانوية أهمها المدرسة الدستورية التي أسّسها خليل السكاكيني عام 1909.
في 27 مارس/ آذار 1948 حاولت العصابات الصهيونية التخفيف عن المحاصرين في “معركة الدهيشة” من خلال فتح جبهة أخرى، فبدأت بهجوم كثيف على حي المصرارة وباب العامود في القدس، فاستشهد عدد من الفلسطينيين، لكن الثوار كانوا جاهزين، فتحركت قوات بهجت أبو غربية في حي باب الساهرة، وفتحت نيران رشاشاتها بكثافة على حي مستوطنة ميئة شعاريم.
بدأ أهل الحي اليهودي بالنزوح عنه، فاندفع المقاومون العرب لدخول الحي، لكن تدخل القوات الإنجليزية منعهم من ذلك، فعاودت القوات الصهيونية قصف حي المصرارة، الأمر الذي جعل سكانه يرحلون عنه.
وفي 17 مايو/ أيار 1948 هاجم الصهاينة الحي هجومًا واسعًا، ونسفوا كثيرًا من منازله، وبقي الحي عربيًا بالكامل حتى 8 يونيو/ حزيران 1948، حين اشتبك الاحتلال مع الجيش الأردني واحتل قسمًا من الحي.
وطّنت سلطات الاحتلال اليهود القادمين من المغرب العربي في الجزء المحتل من المصرارة بعد النكبة، وكانوا يُسكِنون عشرات الأفراد في البيت الواحد، فالمنزل الفلسطيني المكوّن من 4 غرف مثلًا كان يسكنه 40 يهوديًا شرقيًا بواقع 10 أفراد في الغرفة الواحدة.
استمر الأمر على هذا الشكل حتى أخرجتهم السلطات من هذه المنازل ووضعتهم في إسكانات قريبة مكتظة تم بناؤها لاستيعابهم، وأسكنت بدلًا منهم يهودًا غربيين (أشكناز) في المنازل الفلسطينية المهجرة، ما سبب حنقًا وغضبًا من الشرقيين أدّى في نهاية المطاف إلى تأسيس حركة “الفهود السود” التي انطلقت من المصرارة عام 1971 بهدف إحداث ثورة اجتماعية في المجتمع الإسرائيلي، لشعور الشرقيين باضطهاد الغربيين لهم، وبسبب التمييز والعنصرية في التوظيف والخدمات، لكن هذه الحركة وهذا التمرد تم قمعهما وانتهيا عام 1973.
قرية صرعة – قضاء القدس
تبتعد قرية صرعة عن القدس 25 كيلومترًا، وتقع على تل ناتئ في السفح الغربي لأحد الجبال، وكان طريق جانبي قصير يصلها بطريق عام يمرّ شمالي شرقي بيت جبرين أكبر قرى قضاء الخليل، ويتصل بطريق القدس-يافا العام، وكانت موقعًا أثريًا فيه كهوف وقبور، وصهاريج منقورة في الصخر، ومعصرة.
وكانت تقع جنوب شرق الموقع خربة الطاحونة، تضم أطلال بناء مبني بحجارة مربعة منحوتة، وأُسُس أبنية تدل على عراقة الموقع في القدم.
بلغ عدد سكانها عام النكبة حوالي 400 نسمة، ولهم 94 بيتًا، بمساحة أراضي تبلغ 4 آلاف و967 دونمًا، وفق إحصائيات عام 1944-1945 التابعة للانتداب البريطاني، وكان ما مجموعه 2979 دونمًا مخصصًا للحبوب، و194 دونمًا مرويًا أو مستخدمًا للبساتين، وكانت بساتين الزيتون تغطي 115 دونمًا وتتركز في الأراضي الشرقية، بينما تركزت أشجار الفاكهة في الجهة الشمالية، ونمت الغابات والأعشاب البرية على المنحدرات الغربية والشرقية.
كانت صرعة مقسمة إلى 3 أحياء، وفي كل حي كانت المنازل المبنية بالطين والحجارة متراصفة بعضها قرب بعض، وتفصل بينها أزقة ضيقة متعرجة، وفي الحي الجنوبي امتد البناء صعودًا على سفح التل، بينما توسع في الحي الشمالي على طول السفح الشمالي الشرقي للتل، وكانت بضعة دكاكين تتوسط كل حي من الأحياء الثلاثة.
في 13-14 يوليو/ تموز 1948، تمّ احتلال بضع قرى تقع على مشارف القدس، وذلك في إطار “عملية داني”، ووقعت صرعة، التي كانت القوات المصرية تدافع عنها، تحت الاحتلال أثناء اجتياح سهل اللد-الرملة الواقع إلى الغرب منها، تمهيدًا للهجوم على قرية عرتوف المجاورة التي كان يدافع عنها مقاومون لا يتبعون لجيش الإنقاذ العربي وبضع عشرات من الجنود المصريين.
وبعد احتلالها، أقام المستوطنون كيبوتس تسورعه الاستيطاني (يحمل اسم صرعة التاريخي) في ذات عام النكبة، على بُعد كيلومترَين إلى الجنوب الغربي من الموقع، على أراضٍ تابعة لقرية دير آبان.
لكن النواة الأولى لهذا الكيبوتس، قبل انتقاله إلى موقعه الحالي، كانت في صرعة، حيث صعد عدد من المستوطنين إلى موقع القرية في ديسمبر/ كانون الأول 1948، واتخذوا منزل المختار عبد الله محمود أبو لطيفة، الذي كان مبنيًا على تلّة منفصلة مقابلة للقرية، مركزًا للكيبوتس وغرفة للطعام وسكنوا حوله عدة شهور قبل انتقالهم إلى الموقع الجديد، وأقاموا سنة 1950 مستوطنة تروم في الجانب الشمالي الشرقي من الموقع على أراضي القرية.
يبدو موقع القرية اليوم كمنطقة جرداء حولها أحراش خضراء، حوّل الإسرائيليون المنطقة إلى منتزه وغابة أطلقوا عليها اسم “غابة تسورعه (هَنَسيء)” تابعَين للصندوق القومي اليهودي، وتُسمّى الطريق المؤدية إلى القرية من الشارع الرئيسي “طريق التماثيل”، إذ نُصبت على طولها تماثيل ومجسّمات عديدة، وظل منزل المختار قائمًا لسنوات حتى قامت إدارة المنتزه بهدمه -كما يبدو خلال سبعينيات القرن الماضي-، وأنشأت مكانه منصة خشبية مشرفة على المنطقة.
وجاء في كتاب “كي لا ننسى” للباحث وليد الخالدي، أن في الموقع صخرة مسطحة تحيط الأنقاض بها، عليها بعض الآيات القرآنية المنقوشة على صفحتها، كما كُتب عليها عام 1936، وهدم الإسرائيليون المسجد وحوّلوا مقام الشيخ صامت إلى مزار فيه قبران، نسبوا أحدهما إلى شمشون الجبار والثاني إلى أبيه تنوح، ومقبرة القرية تقع مقابل المقام من الجهة الغربية لكنها فقدت معالمها وتبعثرت حجارة قبورها.
قرية هونين – صفد
تبعد قرية هونين 28 كيلومترًا شمال مدينة صفد، وإلى الغرب منها على مسافة نصف كيلومتر تأتي الحدود اللبنانية الفلسطينية، وكانت هونين تتبع للبنان حتى عام 1923، وضُمّت إلى فلسطين إثر تعيين خط الحدود السياسية بين لبنان وفلسطين.
عام 1948 كان تعداد سكان هونين 1879 نسمة، ممتدين على مساحة 14 ألفًا و224 دونمًا، وضمّت القرية مدرسة ابتدائية للبنين، كما كان فيها مئذنة شُيّدت عام 1087م لمسجد بُني عام 1166م، تهدم الجامع وبقيت مئذنته وبعض جدرانه، وتضم قلعة صليبية، واعتمد اقتصاد القرية على الزراعة وتربية المواشي.
وفيها مستعمرة مسغاف اليهودية التي أُقيمت في الشطر الشمالي من أراضي القرية قبل النكبة، ولم تتعدَّ المساحة التي كانت مع اليهود 3.4% من مجمل مساحة القرية عام 1945.
اُحتلت هونين كمعظم قرى تلك الناحية من الجليل الشرقي، في سياق “عملية يفتاح” التي نُفّدت في أبريل/ نيسان-مايو/ أيار 1948، وذكر تقرير أعدّته الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية لاحقًا أن سكان هونين غادروها في 3 مايو/ أيار.
في ذلك الوقت، لم تكن القوات الصهيونية وصلت إلى القرية، وقد زعم تقرير آخر أن القوات العربية أمرت سكان هونين بالرحيل عنها في 14 مايو/ أيار.
لكن هذين التقريرَين لا يتفقان وذكريات شهود عيان أُجريت مقابلات معهم بعد 25 عامًا، فقد ذكر بعض سكان قرية الخالصة المجاورة أنهم قرروا إجلاء النساء والأطفال إلى هونين صبيحة سقوط مدينة صفد (11 مايو/ أيار)، ولما اُحتلت الخالصة بعد بضعة أيام انسحب المقاومون من سكانها إلى هونين مؤقتًا، والمرجّح أن يكونوا انتقلوا إلى لبنان بعد أيام مع مَن اجتاز إلى لبنان من سكان هونين نفسها.
لاحقًا، كتب قائد “عملية يفتاح”، يغال ألون، يقول: “كنا نعتبر من الضرورات القصوى تطهير المنطقة الداخلية من الجليل الأعلى كله”، وقد تحقق بعض ذلك بالهجمات المباشرة، وبعضه الآخر باللجوء إلى الحرب النفسية.
لا تزال المقبرة والمدرسة الابتدائية والقلعة الصليبية ماثلة للعيان، حيث باتت القلعة موقعًا أثريًا يجتذب السياح، أما المدرسة فيستعملها المستوطنون مستودعًا زراعيًا، والأراضي المجاورة للقرية يستغلها المزارعون الإسرائيليون، وفي عام 1951 أنشأ المهاجرون اليهود من العراق واليمن مستوطنة مرجليوت على أراضي القرية في جنوبي موقع القرية مباشرة.
قرية إقرت – عكا
تبتعد القرية بضعة كيلومترات عن الحدود اللبنانية، وكانت تدفع الضرائب على الماعز وخلايا النحل وعلى معصرتها التي كانت تستعمَل للزيتون أو للعنب، في أواخر القرن التاسع عشر كان عدد سكانها 100 نسمة تقريبًا، وكانت أبنيتها مشيّدة الحجارة وفيها كنيسة حديثة، وكانت تقع على تل تحيط به الأراضي الزراعية التي غرس سكان القرية فيها أشجار التين والزيتون.
عندما رسم البريطانيون والفرنسيون الحدود بين لبنان وفلسطين سنة 1923 ضمّوا إقرت إلى فلسطين، وكان سكان القرية يتألفون من 460 مسيحيًّا و30 مسلمًا.
وبنت مطرانية الروم الكاثوليك مدرسة ابتدائية في القرية بإدارتها، وكان الكثير من المزروعات يزرع في أراضيها كالقمح والشعير والزيتون والتين والعنب والتبغ.
والتل الذي بُنيت أقرت عليه يضمّ بعض الأرضيات من الفسيفساء وبقايا معصرة للعنب وقبورًا محفورة في الصخر وصهاريج للمياه وأدوات من حجر الصوان، وكان ثمة مواقع أثرية أخرى بالقرب من القرية.
كانت إقرت إحدى القرى التي سقطت في نهاية “عملية حيرام”، بعد سقوط معظم الجليل الشمالي، وقد واصل لواء عوديد في جيش الاحتلال، خلال اندفاعه للاستيلاء على ما تبقى من المنطقة، تقدُّمه على طول الطريق الموازي للحدود مع لبنان، فاحتل إقرت وتربيخا في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 1948، وتضيف الرواية أن القريتَين استسلمتا لجيش الاحتلال، وأن سكانهما ظلوا -على ما يبدو- في منازلهم.
غير أن هؤلاء السكان لم يبقوا هناك طويلًا، فبعد 10 أيام تقريبًا من انتهاء المعارك على الجبهة الشمالية طُردوا في غير إبطاء، واستنادًا إلى المؤرخ الإسرائيلي بني موريس، ذهبت إقرت مع غيرها من القرى ضحية مبدأ “الشريط الحدودي الخالي من العرب”، وهو ما وافقت عليه هيئة الأركان العامة في جيش الاحتلال في الأسبوع الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 1948، حيث هُجّر بعضهم إلى لبنان وبعضهم الآخر نُقلوا بالشاحنات الإسرائيلية إلى قرية الرامة التي تقع على بُعد نحو 20 كيلومترًا إلى الجنوب.
وفي عام 1948 أقيمت مستوطنة شومرا، ثم مستوطنة ايفن مناحم عام 1960، على الحدود بين أراضي القرية وأراضي تربيخا إلى الشرق والشمال الشرقي من موقع القرية، وفي سنة 1950 أُنشئت مستوطنة غورن على أراضي القرية غربي الموقع، وفي سنة 1980 أُنشئت مستوطنة غورنوث هجليل على أراضي القرية.
لم يبقَ من معالمها اليوم سوى كنيسة الروم الكاثوليك، والكنيسة مهجورة وقد تغيّر لونها، أما عدا ذلك فليس في الموقع سوى ركام الحجارة المبعثرة المغطاة بأشجار التين والرمان وغيرها من الأشجار، وثمة زريبة للبقر في موقع القرية.
قرية الخنيزر – بيسان
كانت القرية تقع في رقعة مستوية من الأرض، في الجانب الغربي من قرية الزراعة التي تقلص حجمها بعد إقامة مستعمرة طيرات تسفي اليهودية سنة 1937، وكان هناك طريق آخر يربطها بطريق بيسان-أريحا العام، كما كانت هناك طرق فرعية أخرى تربطها بالقرى المجاورة.
وكانت الخنيزر مضربًا موسميًا للبدو الرحّل، الذين استوطنوا المكان فيما بعد على مدار السنة، وكانت منازلهم 70 منزلًا، سواء المبنية بالطوب أو الخيام، وممتدة على مساحة واسعة. وكان سكانها جميعهم من المسلمين، وتعدادهم سنة النكبة 302 نسمة، ويتزودون المياه من ينابيع تقع إلى الشمال والجنوب الشرقي من الموقع للاستخدام المنزلي ولريّ المزروعات، وكانوا يزرعون الفاكهة والخضروات والحبوب.
واُحتلت بلدة الخنيزر من قبل الاحتلال في 20 مايو/ أيار 1948، حيث قامت عملية عسكرية ضد أهالي تلك القرية في إطار عملية جديون، وكانت الكتيبة المنفذة للعملية العسكرية جولاني، ووصل التدمير إلى التطهير العرقي الكامل.
ولم يبقَ من معالمها سوى مقبرة على تل أبو الفرج إلى الشمال منها، وثمة شمال الموقع وغربه ينابيع عيون أم الفرج ونبع الخنيزر، وتغطي أشجار النخيل معظم موقع القرية والأراضي المحيطة به.
قرية هوشة وخربة الكساير – حيفا
كانت القرية تنهض على التلال القليلة الارتفاع الفاصلة بين سهل حيفا ومرج ابن عامر، ويمتد إلى الغرب منها واد واسع يشكّل الحدود بينها وبين خربة الكساير، ومنازلها تتجمع على شكل العنقود حول مركز القرية الذي كان فيه صهريج مياه، وفي سنة 1937 أُنشئت مستعمرة يوشا على بُعد كيلومترَين غربي موقع القرية.
في عام 1945 كان في هوشة وحدها 400 نسمة يرجعون في أصولهم إلى الجزائر، ولم يكن في القرية أي نوع من الخدمات، واعتمد سكانها في معيشتهم على الزراعة وتربية المواشي، وأهم المزروعات الحبوب، وقد زُرعت الأشجار المثمرة ومنها الزيتون في مساحات قليلة.
تركزت بساتين الزيتون في جنوب غرب القرية، في حين تركزت بساتين الأشجار المثمرة الأخرى في شمالها، كما خُصّصت مساحة صغيرة لبعض الخرائب القديمة العهد، منها أُسُس أبنية دارسة ومقام لنبي يدعى هوشان، وبئر وقبور منقورة في الصخر وأرضيات من الفسيفساء.
اتخذت هوشة وخربة الكساير قاعدة للمجاهدين العرب في معارك عام 1948 بعد أن أُخليت من الشيوخ والأطفال والنساء، وفي يناير/ كانون الثاني 1948 هاجم اليهود هوشة وخربة الكساير، لكن هجومهم فشل.
وفي صباح 15 أبريل/ نيسان، هاجمت العصابات الصهيونية هوشة والكساير مرة ثانية، واستمر القتال من السادسة صباحًا حتى الخامسة مساء، وأُجبرت العصابات على الانسحاب ليلًا إلى الكساير بعد أن نسفوا معظم منازل القرية، وقُتل في هذه المعركة عدد كبير من أفراد الوحدات الصهيونية المحاربة، واستشهد 35 عربيًا.
دُمّرت القرية بالكامل وسُيّجت المنطقة وأُعلنت موقعًا أثريًا، ولم يسلم منزل واحد في القرية من الهدم، مع أن حيطان 20 منزلًا تقريبًا بقيت قائمة، وما زالت أطر النوافذ والأبواب في الأبنية الحجرية بادية للعيان، وتنتصب شجرة نخيل وحيدة في الموقع الذي غلب عليه شجر التين ونبات الصبار.
قرية عاقر – الرملة
كانت القرية تقع في السهل الساحلي الأوسط، يربطها طريق فرعية بالطريق العام المؤدي إلى الرملة وغيرها من المدن، وقد عدّت عاقر في موقع بلدة أكارون الرومانية.
وفي القرن العاشر للميلاد وصفها الرحالة شمس الدين المقدسي بأنها قرية كبيرة فيها مسجد كبير، وذكر أن سكانها يخبزون نوعًا خاصًا من الخبز، وأنهم كرام محبّون للضيف.
في أواخر القرن التاسع عشر كانت قرية عاقر قائمة على أرض مستوية، ومبنية بالطوب، وكان عالم الكتاب المقدس الأمريكي، إدوارد روبنسون، قد زار عاقر في سنة 1838، ووصفها بأنها قرية كبيرة الحجم، وأن منازلها مبنية بالطين والأسمنت والحجارة، ومتراصفة بعضها قرب بعض.
ومع تزايد حركة البناء في أواخر عهد الانتداب توسعت القرية، وشملت حتى النكبة 2877 نسمة يعيشون في 682 بيتًا، وكان سكان القرية في معظمهم من المسلمين، لهم فيها مدرستان ابتدائيتان: واحدة للبنين أُسست سنة 1921 وأخرى للبنات، وفي سنة 1947 كان عدد التلامذة 391 صبيًا و 46 بنتًا في المدرستَين، وكان في القرية مسجدان ومقامان.
كانت القرية غنية بالمياه الجوفية، وقد حُفرت في الأربعينيات عدة آبار ارتوازية في أرض القرية، وكانت المياه تستمد من هذه الآبار لريّ بساتين الحمضيات، وكان سكان القرية يزرعون أصنافًا أخرى من الفاكهة أيضًا كالعنب والتين والمشمش، كما كانوا يزرعون الحبوب التي تعتمد على مياه الأمطار.
كانت عاقر أولى القرى التي استولى لواء جفعاتي عليها، عندما شرع في تنفيذ الجزء المكلف به من “خطة دالت”، ففي 4 مايو/ أيار 1948 تمكن اللواء من تطويق القرية، في اليوم التالي احتلت الهاغاناه القرية بعد أن هُجّر معظم سكانها إلى قريتَي يبنة والمغار المجاورتَين.
بقيت اليوم بضعة منازل صغيرة، وتقيم عائلات استيطانية في بعضها، ولأحد هذه المنازل سقف على شكل الجملون، وهو مبني بالأسمنت، وله أبواب ونوافذ مستطيلة الشكل. ويتسم منزل آخر بسمات مشابهة، لكن سقفه مسطح. وينبت هناك شجر السرو والجميز ونبات الصبار.
وفي سنة 1948 أُنشئت مستعمرة كريات عكرون على أراضي القرية، كما بُنيت مستعمرة غني يوحنان على أراضي عاقر في سنة 1950.
قرية لوبيا – طبريا
كانت القرية تنهض على قمة تل صخري مستطيل الشكل يمتد من الشرق إلى الغرب، وصفها الرحالة البريطاني بكنغهام لوبيا بأنها قرية كبيرة قائمة على رأس تل، وقد أشار الرحالة السويسري بوركهارت إلى نبات الخرشوف (الأرضي شوكي) البرّي الكثير، والذي يغطي السهل الذي كانت القرية تقع فيه.
في وقت لاحق من القرن التاسع عشر وُصفت لوبيا بأنها قرية مبنية بالحجارة على حرف من الصخر الكلسي الأبيض، وكان سكانها الذين تراوح تقدير عددهم بين 400 و700 نسمة يعنون بزراعة التين والزيتون، وكانت المنازل القديمة العهد متجمهرة في القسم الشرقي من القرية، ولعلّ ذلك يعزى إلى كون هذا القسم مشرفًا على أراضي القرية الزراعية.
وفي سنة 1895، أيام العثمانيين، أُنشئت مدرسة ابتدائية في القرية وظلت تعمل في عهد الانتداب البريطاني، وخلال هذه الفترة أيضًا كانت لوبيا تعتبر ثانيةً كبرى القرى في قضاء طبريا من حيث المساحة.
كان اقتصاد القرية يعتمد على الزراعة، بأرضها الخصبة وقمحها ذائع الصيت في المنطقة، وكان القمح يزرع في حقول منخفضة، بينما كان شجر الزيتون يستنبت على المنحدرات الجبلية شمالي القرية، وعلى بُعد كيلومترَين إلى الشرق من القرية كانت أطلال بناء يعرف بخان لوبيا يحتوي على بقايا حوض وصهاريج وحجارة بناء كبيرة الحجم، حيث من الأرجح أن هذا الموقع كان خانًا أيام العثمانيين.
خلال النكبة كان تعدادها السكاني 2726 نسمة، يتوزعون على 596 بيتًا في القرية، ونشرت الصحافة الفلسطينية نبأ هجوم قامت به القوات الصهيونية على لوبيا ليل 20 يناير/ كانون الثاني 1948، وحدث اشتباك آخر عند مشارف لوبيا صبيحة 24 فبراير/ شباط، إذ جرت مناوشة مع قافلة يهودية دامت 4 ساعات، كما وقع هجوم آخر في الأسبوع الأول من مارس/ آذار 1948.
ويذكر المؤرخ الفلسطيني عارف العارف أن جنود الهاغاناه حاولوا أن يشقوا طريقهم عنوة عبر الطريق الممتد بين طبريا والشجرة، وأغاروا على لوبيا عند الفجر وقد بلغوا المشارف الغربية للقرية، لكن سكانها تصدوا لهم فقتلوا 7 منهم في حين فقدوا 6 كذلك.
بعد سقوط طبريا في أواسط أبريل/ نيسان 1948، شعر سكان لوبيا أنهم باتوا معزولين فالتفوا إلى الناصرة طلبًا للمعونة والإرشاد، وهو ما ذكره سكان القرية أنفسهم، ثم لحقه هجوم آخر في 10-11 يونيو/ حزيران، قبيل ابتداء الهدنة الأولى في الحرب.
وبعد الهدنة شنّت القوات الإسرائيلية “عملية ديكل”، وفي يوليو/ تموز جاء بعض السكان بنبأ سقوط الناصرة، وقد ذعر سكان القرية وطلبوا المعونة العسكرية من فرق الإنقاذ العربي المرابطة في الجوار، لكن طلبهم لم يستجب، وفي ليل 16 يوليو/ تموز نزحوا في معظمهم متجهين نهاية المطاف إلى لبنان، وقال شهود عيان إن جيش الاحتلال قصف القرية قبل دخوله ثم دمّر بعض المنازل وصادر بعضها الآخر.
وبعد احتلالها وتهجير سكانها، غرس الصندوق القومي اليهودي، وهو الذراع المختصة باستملاك الأراضي وإدارتها في المنطقة الصهيونية العالمية، غابة صنوبر في الجهة الغربية من الموقع، كما غرست غابة أخرى في الجوار باسم جمهورية جنوب أفريقيا.
وقد غاب حطام منازل لوبيا وسط الغابة، وبنيت هناك أشجار الرومان والتين وقليل من نبات الصبار، أما الأراضي المحيطة بالموقع فحرثها سكان المستوطنة المجاورة، وقد أنشئ متحف عسكري تكريمًا للواء جولاني أحد ألوية الجيش الإسرائيلية، ولا يزال في الإمكان رؤية معالم الطريق الفرعية التي كانت ذات مرة تصل القرية بطريق طبرية-الناصرة العام. وأنشأ الاحتلال مستوطنة لافي سنة 1949، على القسم الشمالي الشرقي من أراضي القرية.
ختامًا، أطلق الاحتلال الإسرائيلي على النكبة الفلسطينية اسم “حرب الاستقلال“، وعزت المراجع الإسرائيلية عمليات تدمير القرى الـ 531 وتطهيرها العرقي إلى “أن سكانها تركوها قبل الحرب، ودخلها الجنود وهي خاوية على عروشها، فأدخلوا لها الحضارة وأعادوا بناءها من جديد“، بيد أن “حرب الاستقلال” في العرف الإسرائيلي لم تنتهِ عند حدود النكبة، بل استمرت على امتداد 76 عامًا تمارس فيها “إسرائيل” تهجيرًا صامتًا وتطهيرًا عرقيًا، أملًا في إثبات وجودها والقضاء على كل الملامح العربية في ما تبقى من القرى والمدن الفلسطينية.
ومع بدء حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة تكرر الأمر ذاته، ليس فقط في جرائم التطهير والإبادة والتهجير، بل أيضًا في منحها وصف “حرب الاستقلال الثانية” كما جاء على لسان رئيس وزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي يخوض الحرب هذه المرة من بيت فلسطيني في حي القدس سرقته العصابات في النكبة، وهجّرت أصحابه عائلة الطبيب الفلسطيني توفيق كنعان.