ما إن تهدأ منطقة، حتى تثور أخرى في المملكة المغربية، تعدّدت الأسباب واختلفت، لكنّ الهدف كان واحد، احتجاجا على الواقع السائد وطلبا لتنمية منشودة، فمن مدن الريف إلى زاكورة وبني ملال واليوم مدينة جرادة، كلّها تحرّكات في أمام ما يُعرف بـ “الاستثناء المغربي” الذي يسوّق له.
احتجاجات متواصلة
لليوم الخامس على التوالي، تتواصل الاحتجاجات في مدينة جرادة شمال المغرب، عقب مصرع اثنين من العاملين في المناجم غير القانونية إثر حادث أثناء عملهم، إذ خرج الآلاف إلى الشوارع في مظاهرات تندد بما وصفوه بـ “التهميش” الذي تعاني منه منطقتهم.
تعرف “جرادة” يوميا تجمعات لآلاف من المواطنين في مسيرات حاشدة تجوب شوارع المدينة، للتنديد بـظروف العيش والتهميش الذي تعيشه المنطقة
ولم تخرج مطالب ساكن المدينة عما هو اقتصادي واجتماعي بالأساس، حيث ردد المتظاهرون، هتافات تطالب بالتنمية الاقتصادية لمنطقتهم وبتحقيق مطالب “العدالة الاجتماعية”، ومنها “الشعب يريد بديلا اقتصاديا” “لا للتهميش”، كما طالبوا بضرورة توفير تغطية اجتماعية لعائلة الضحيتين، إضافة إلى توفير بدائل حقيقية تمكّن ساكِنة المنطقة من مناصب شغل تضمن لهم الحد الأدنى من الكرامة، وأيضًا معالجة مشكل الماء والكهرباء وتحسين ظروف التعليم والصحة بمدينة جرادة والقرى المجاورة لها.
وتعرف “جرادة” يوميا تجمعات لآلاف من المواطنين في مسيرات حاشدة تجوب شوارع المدينة، للتنديد بـظروف العيش والتهميش الذي تعيشه المنطقة، وتتزامن هذه الاحتجاجات، مع حملة مقاطعة أداء فواتير الكهرباء التي انطلقت منذ ثلاثة أشهر، حيث أعلن العديد من سكان المدينة مقاطعتهم لأداء فواتير الكهرباء احتجاجا على غلائها وعلى التلوث الذي تتسبب فيه محطة انتاج الكهرباء. وزاد من حدة احتجاجات السكان قيام المكتب الوطني للماء والكهرباء بإزالة عدادات عدد من المنازل التي قاطع أصحابها أداء الفواتير، واعتقال السلطات ثلاثة شبان من المدينة ومن ثم أطلق سراحهم.
“حسين وجدان” ضحايا الفحم الحجري
من إن انتهت مسيرة، الخميس، التي خرجت احتجاجا على غلاء فواتير الماء والكهرباء في مدينة “جرادة”، حتى سمع ساكنة المدينة خبر غرق شابين في أحد مناجم التنقيب عن الفحم الحجري غير القانونية، عُرف فيما بعد أنهما أخوين يبلغ عمر الأول 30 سنة وهو متزوج وله 3 أبناء، ويبلغ الثاني 23 سنة متزوج له بنت واحدة.
أبار استخراج الفحم
استغرقت عملية البحث عن الفقيدين واستخراجهما من المنجم من يومين، فقد تم انتشال الجثتين مساء السبت، نتيجة تأخر وصول رجال الانقاذ المدني، ليتمّ نقلهما مباشرة إلى مقر العمالة (البلدية) ثم إلى مستودع الأموات، بالمستشفى قبل أن يتمّ دفنهما الاثنين بعد رفض ساكنة المدينة دفنهما الأحد.
وفي تصريح لوكالة فرانس برس، قال عبد الرزاق الديوي (22 عاما)، الذي كان مع الشقيقين حين وقع الحادث، “نزلنا إلى عمق 85 مترا تحت سطح الأرض، كان حسين وجدوان تحتي مباشرة، وكان أحدهما يحفر أفقيا فأصاب بئرا للماء التي غمرتنا، تمكنت من الإمساك بالحبل للصعود مجددا.
لا تعتبر حادثة وفاة الأخوين الأولى من نوعها، فمنذ إغلاق المنجم الرئيسي في المدينة، وقعت عديد الحوادث المماثلة
ويمتهن الأخوان حسين وجدوان منذ سنوات، استخراج الفحم الحجري من المناجم العشوائية، إلا أنهما صبيحة الجمعة فوجئا بتسرب المياه بكميات كبيرة، الشيء الذي تسبب في غرقهما ووفاتها، ويخاطر المئات من عمال المناجم بحياتهم في بلدة جرادة الفقيرة في شمال المغرب لاستخراج الفحم الحجري في الخفاء.
ولا تعتبر حادثة وفاة الأخوين الأولى من نوعها، فمنذ إغلاق المنجم الرئيسي في المدينة، وقعت عديد الحوادث المماثلة والتي راح ضحيتها عديد الشبان الذين اضطروا إلى اللجوء إلى التنقيب من خلال الآبار بطرق بدائية، في ظل غياب بدائل تنموية حقيقية في المنطقة.
“جرادة” من الازدهار إلى البؤس
قبل ثلاث عقود من الآن، كانت مدينة “جرادة” مدينة منجمية، وعرفت في تلك الفترة قمة ازدهارها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فقد كانت أغنى مدن المملكة في الجهة الشرقية، وباعتبارها آنذاك المنتج الاول لمادة الفحم الحجري، وهو ما جعلها تساهم في إنعاش الاقتصاد المغربي بنسبة كبيرة، قبل أن يتراجع دورها.
غلق منجم الفحم أدى إلى تدهور الوضع في المدينة
وتمّ اكتشاف العلامات الأولى لوجود الفحم الحجري بهذه المنطقة سنة 1908 من قبل جيولوجي فرنسي يدعى ” لويس جونتيل”، وفي سنة 1927 تمّ تحديد مكان حوض الفحم بالمدينة عقب دراسة علمية أعدّت في الغرض، وفي سنة 1936 بدأ استغلال المنجم بعد الانتهاء من الحفر، وبدأت المدينة عصرها الذهبي.
إلا أن هذا الأمر لم يدم طويلا، ففي سنة 1998، عادت المدينة إلى ما كانت عليه قبل اكتشاف الفحم، من تهميش وفقر، بعد قرار الحكومة آنذاك، وباتفاق مع النقابات العمالية الكبرى في المملكة، إغلاق المنجم الرئيسي للفحم التابع لشركة مفاحم المغرب، وهو الإغلاق الذي تم بشكل نهائي سنة 2000 بعد تسريح آخر دفعة من عمال المنجم.
منطقة جرادة تتذيل الترتيب على مستوى جهة الشرق وأيضا على المستوى الوطني في كل المجالات
ومنذ ذلك الوقت يتم التنقيب عن الفحم بشكل غير قانوني، لكن بعلم من السلطات، إذ منحت تراخيصا لبعض الأشخاص بشكل اختياري لدخول المناجم العشوائية، بمعية بعض أشخاص أخرين يختارهم، حتى تمتصّ غضب الأهالي نتيجة غلق موارد رزقهم التي كانت تشغل قرابة عشرة الاف شخص. وتعيش مدينة “جرادة” التي كانت إلى وقت قريب مركزا حضاريا مهما، أزمة اقتصادية واجتماعية حادة، شملت جميع القطاعات الخدماتية، سواء على مستوى التعليم أو الماء والكهرباء والصحة، ويعيش الناس وسط ظروف لا تخلو من البؤس والخصاصة، إذ لا موارد رزق لديهم.
وحسب إحصاءات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، فإن منطقة جرادة تتذيل الترتيب على مستوى جهة الشرق وأيضا على المستوى الوطني في كل المجالات، من ذلك أن أفقر جماعة في المغرب موجودة بإقليم جرادة وهي جماعة الدغمانية، وبها أكبر عدد من الأرامل، وذلك يعود بالأساس إلى كون عمال المناجم يموتون في سن مبكرة بين الـ 40 والـ 45 سنة؛ بسبب الأمراض الناتجة عن الاشتغال داخل المناجم.
سنة من الاحتجاجات
هذه الاحتجاجات، تأتي لتختم سنة كاملة من التحركات في مختلف مدن المملكة المغربية، بداية من حراك الريف حيث تشهد مدن الشمال، احتجاجات متواصلة، للمطالبة بالتنمية ورفع التهميش ومحاربة الفساد، وذلك إثر وفاة تاجر السمك محسن فكري المنحدر من أمزورن، الذي قتل طحنًا داخل شاحنة لجمع النفايات، خلال محاولته الاعتصام بها، لمنع مصادرة أسماكه.
إلى جانب ذلك، عرفت المملكة “حراك العطش”، في مدينة زاكورة التي تقع على مشارف الصحراء على بعد 700 كيلومتر من العاصمة، للمطالبة بتوفير الماء الصالح للشرب في المنطقة، التي تعاني منذ فصل الصيف نقصًا شديدًا في المياه، فضًلا عن الانقطاعات المتكررة، وانطلقت شرارة الاحتجاجات منذ أشهر الصيف. ولم يقتصر هذا الحراك على “زاكورة” بل وصل كل من مدن بني ملال وأزيلال ووزان وصفرو الذين يعانون نفس المعاناة.
هذه الاحتجاجات المتواصلة في مدن وقرى المغرب، من شأنها أن تعمّق أجواء الاحتقان الاجتماعي الذي تعيش على وقعه المملكة المغربية، وأن تفضح زيف الادعاءات التي تروّج لها السلطات واعلامها في خصوص “الاستثناء المغربي”.