نعي الآن القول الشهير للملك الراحل محمد إدريس السنوسي: “المحافظة على الاستقلال أصعب من نيله”، فتاريخ ليبيا يروي في سطوره بأن نيل استقلال هذه البلاد لم يكن يسيرًا، وحاضرنا ينذرنا بأن المحافظة عليه سيكون عسيرًا.
وسط صحراء قاحلة، يسكنها مليون إنسان معظمهم من الأميين، أمراض وأوبئة، فقر وتخلف ودمار، خلفه تطاحن قوى عسكرية كبرى على الأرض الليبية، لتكوَن معظمها جملة التركة التي خلفها الجيش الإيطالي بحروبه التي خاضها في ليبيا قبل هزيمته في الحرب العالمية الثانية على يد الحلفاء عام 1943.
“كان من الصعب أن نتخيل مملكة تنطلق بتحديات جسام مثل التي تواجه ليبيا في ميلادها، لكونها كانت أكثر مناطق شمال أفريقيا تخلفا بسبب الأعمال القمعية التي مارستها الإمبريالية الإيطالية، فقد بلغت نسبة الأمية فيها نحو 90% من شرائح الشعب الليبي الذي لا يتجاوز عدده مليون وربع المليون نسمة، ولم يكن سوى ستة عشر ليبيا يحملون شهادات جامعية، ولا توجد ثروات طبيعية تمكن هذا الشعب من الحياة، وهذا لا يمكن أن يشكل أساسًا جيدًا يمكن أن نبني عليه هيئة إدارية” – (مذكرات أول سفير أميركي في ليبيا هنري سيرانو فيلار).
رهان على قدرتهم على إنشاء الدولة، وصراع طويل استمر لسنوات خاضته القوى الوطنية من أبناء الشعب الليبي من مختلف المناطق والمكونات الليبية، الذين رفضوا الوصاية البريطانية والفرنسية على أرضهم، مطالبين باستقلالها وتوحيد أراضيها دون تجزئة، عندما بدت الدول الكبرى تمهد لاقتسامها من خلال مشروع سري (بيفن سفورزا) الذي بموجبه تصبح ليبيا بمناطقها الثلاث برقة وفزان وطرابلس، تحت وصاية بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
يثبت لنا التاريخ بأن الوضع القائم يمكن قلبه بحكمة ودأب الشخصيات الاستثنائية، فمن صاغ الأحداث في ليبيا ليست الظروف، وإنما القيادات الوطنية التي حملت على عاتقها عبء قيام الدولة الليبية بشكلها الحديث
سعت هذه القوى جاهدة لنيل الاستقلال وتوحيد البلاد، وتحدت أخرى عملت على تشتيت هذه الجهود، مستندة على ميولها الجهوية والمناطقية، ومنطلقاتها الايدلوجية، ووسط هذا الصراع والاختلاف في المصالح حاول الجميع إيصال صوته للمنظمة العالمية (الأمم المتحدة) لتبدأ هذه الأخيرة مناقشة القضية الليبية في أبريل من عام 1949.
اختارت القوى الوطنية الليبية ممثليها لحضور الدورة الرابعة للأمم المتحدة، وبدأت المداولات داخل قاعاتها، وتقدمت الدول بمشاريعها، وتباينت وجهات النظر بين مؤيد لوضع هذه الرقعة الجغرافية تحت الوصاية الدولية، وبين رافض لها، وداعم لوحدتها واستقلالها عهدت الأمم المتحدة إلى لجنة فرعية لدراسة المقترحات المقدمة، وتقديم مشروع للتصويت عليه ، حيث اجتمعت اللجنة الفرعية وتقدمت بمشروعها للجمعية العامة للأمم المتحدة فأقرته، وخرج القرار القاضي باستقلال ليبيا في موعد أقصاه يناير 1952 تكون فيه ليبيا التي تشمل برقة وطرابلس وفزان مستقلة ذات سيادة، ويوضع دستور للدولة الوليدة بواسطة ممثلي السكان في كل من برقة وطرابلس وفزان الذين يجتمعون ويتشاورون في هيئة جمعية وطنية.
واجتمعت الجمعية الوطنية التأسيسية لإقرار الدستور في 27 يوليو 1950، وبدأت النقاشات حول كيفية بناء الدولة، ففيما طالبت ولاية برقة بالشكل الفيدرالي، طالبت ولاية طرابلس بدولة موحدة، وتم اتخاذ القرار بغالبية الأصوات بأن تكون ليبيا دولة مستقلة ذات سيادة على أساس اتحاد فيدرالي، وتم مبايعة محمد إدريس السنوسي ملكًا على ليبيا، وتم إقرار دستور المملكة الليبية المتحدة في أكتوبر عام 1951، وتشكلت حكومات محلية في مناطق ليبيا الثلاث، تلاها تشكيل أول حكومة اتحادية في ليبيا.
وبتاريخ 24 ديسمبر1951، أعلن الملك إدريس السنوسي استقلال ليبيا، دولة ذات سيادة ونظام ملكي دستوري ليثبت لنا التاريخ بأن الوضع القائم يمكن قلبه بحكمة ودأب الشخصيات الاستثنائية، فمن صاغ الأحداث في ليبيا ليست الظروف، وإنما القيادات الوطنية التي حملت على عاتقها عبء قيام الدولة الليبية بشكلها الحديث.
رهان الحاضر سيكون على نظام القيم والأخلاق لعموم المجتمع (ساسة ومسوسين) في جميع ممارسته السياسية والاجتماعية
واليوم، وبعد مرور 66 عاما على الاستقلال نسأل أنفسنا، هل نستطيع الحفاظ على استقلالنا إزاء هذا الوضع السياسي الذي تشهده البلاد الذي ينبئ ليس فقط بفقد الاستقلال وإنما بفقد الدولة كلية؟ أم ندخل رهان الحفاظ على الدولة، ونتحدى مصالحنا الضيقة، ونقدم مصلحة هذا الوطن الذي اقترب من المنحدر وبات يوشك على الانهيار.
من الانصاف التاريخي القول بأن ما تشهده ليبيا من صراعات سياسية وانقسام مؤسسات الدولة بين شرق البلاد وغربها هي نفسها الصراعات التي كانت حاضرة قبل نيل ليبيا لاستقلالها، صراعات تغذيها تيارات جهوية مناطقية تحاول جاهدة إفشال أي مسعى لإنقاذ الدولة من براثن الفوضى التي تعيشها، مقدمة مصالحها على مصلحة الوطن، وهي لا تعي بأن سقوطه سيؤدي إلى سقوط الجميع، فإما الوطن للجميع أو الجميع بلا وطن.
رهان الحاضر سيكون على نظام القيم والأخلاق لعموم المجتمع (ساسة ومسوسين) في جميع ممارسته السياسية والاجتماعية، في تاريخ أي جماعة من البشر هناك المراحل المظلمة والمراحل المضيئة، ولا يمكن أن تظل أمة متخلفة إلى الأبد، كما أنه لا توجد أمة متقدمة على الدوام، وأن دورة الضعف والقوة لها علاقة وطيدة بنظام القيم في المجتمع، فعندما يكون هناك إعلاء من شأن الصدق والأمانة والإخلاص والنظام والانضباط وغيرها من القيم الجيدة شريطة أن تكون هذه القيم ممارسة من قبل أفراد المجتمع.
فلا بد من أن يتحقق التقدم، وفي المقابل عندما نقلل من شأن تلك القيم أو حتى تكون محل تقدير فقط دون ممارسة لها فلا بد للمجتمع من أن يتأخر، إن الله لن يغير مصير أمة إلا إذا حاولت الأمة نفسها أن تتحسن ولكي تتحسن فإن الشيء المهم ليس استعراض المهارة في الجدال، وإنما تقبل ما يمكن أن يكون مقبولا ونضعه موضوع التنفيذ.