كخطوة تالية بعد إرساله التعزيزات العسكرية المستمرة منذ أسبوعين إلى السويداء، يرفع نظام الأسد ورقة تنظيم “داعش” مجددًا في وجه حراك المحافظة الجنوبية، وهي ورقة ظهرت عبر إعلان حكومة دمشق في 10 مايو/ أيار الجاري تفكيك خلية من التنظيم حاولت تنفيذ عملية إرهابية ضد المدنيين في مدينة السويداء، حسب زعمها.
ووفق ما قالته وكالة “سانا” الرسمية، فإن الجهات المختصة قضت خلال عملية نوعية في الحي الغربي بالمدينة على إرهابي حاول تفجير نفسه بحزام ناسف كان يرتديه، وألقت القبض على إرهابي آخر بحوزته حزام ناسف آخر، فيما تمّت مصادرة عدد من البنادق الآلية والذخيرة التي كانت بحوزتهم.
ونشر حساب SAM، وهو راصد حرب موالٍ للنظام، صورًا قال إنها لـ”إرهابي” قتلته القوات الأمنية داخل مدينة السويداء خلال مداهمة فيما اعتقلت آخر، مشيرًا إلى أن عنصرَي التنظيم ينحدران من الغوطة الشرقية بريف دمشق.
“داعش” ودروز السويداء
دخل التنظيم منطقة القصر ببادية السويداء في ديسمبر/ كانون الأول 2014، ونشر حواجز في منطقة الأصفر البدوية الاستراتيجية الواقعة شرق طريق السويداء-دمشق، مبتعدًا أقل من 7 كيلومترات عن مطار خلخلة العسكري الخاضع لسيطرة النظام، ثم تمدد التنظيم إلى اللجاة وقرى حوش حماد وبيار الحمام وساكرة، بعد أن بايعته إحدى العشائر هناك.
كانت أول مواجهة مباشرة بين تنظيم “داعش” والسويداء (المعقل الرئيسي لدروز سوريا) في مايو/ أيار 2015، بعد هجوم شنّه التنظيم على قرية الحقف شمالي شرقي المحافظة، وحينها تصدى أهالي القرية وحركة “رجال الكرامة” وعدد من أبناء السويداء للهجوم، في الوقت الذي كانت فيه قوات النظام تطلق النار على “رجال الكرامة” من الخلف، وقد انتهت المعركة بمقتل 15 عنصرًا من التنظيم مقابل 6 أشخاص من مدنيين ومقاتلين دروز.
مع بداية العام 2018 انحسر وجود التنظيم في عدة نقاط في بادية السويداء نتيجة المعارك مع جيش الأسد والميليشيات التابعة لها، وبقي أقل من 100 عنصر من التنظيم في الرغيلية ومنطقة الكراع المتاخمة لقرى ريف السويداء الشرقي، وتلول الصفا التي تحدّها من الشمال بادية الشام ومن الجنوب بادية الحماد.
في مايو/ أيار من العام ذاته، نقل النظام أكثر من 800 عنصر يتبعون لتنظيم “داعش” في مخيم اليرموك والحجر الأسود جنوب العاصمة دمشق إلى بادية السويداء، بعد اتفاق مع التنظيم وبإشراف روسي تضمّن إخراج السلاح الخفيف والمتوسط معهم، وتأمين حراسة مشددة ترافقهم حتى وصولهم إلى البادية شرق السويداء، حيث نقاط سيطرة التنظيم هناك.
بعد 15 يومًا من وصول عناصر التنظيم الجدد إلى بادية السويداء، شنّت قوات النظام والميليشيات الموالية لها ضدهم معارك لمدة أسبوعين، حيث وصلت قوات النظام إلى آخر معاقل “داعش” في البادية على مشارف تلول الصفا قبل أن تنسحب إلى درعا، ما أدّى إلى عودة التنظيم إلى معظم المناطق التي فقدها في المعارك الأخيرة.
في يوليو/ تموز 2018 ومع ساعات الفجر الأولى، زحف مئات من عناصر تنظيم “داعش” باتجاه الريف الشرقي والشمالي للسويداء، وكذلك باتجاه مدينة السويداء، حيث قامت سيارات بنقلهم من نقاطهم في البادية ووضعهم على مسافة أقل من 5 كيلومترات من القرى الشرقية، وتابعوا سيرًا على الأقدام باتجاه قرى غيضة وحمايل ودوما وتيما ورامي والشريحي وشبكي.
وفي الوقت نفسه وصل عناصر آخرون من التنظيم مع سياراتهم إلى مدينه السويداء وقريتين من الريف الشمالي، المتوني والسويمرة، لقطع طريق دمشق-السويداء، وقد أدّى هجوم التنظيم إلى اختطاف عدد من المدنيين ووقوع مجزرة دموية سُجّل فيها مقتل أكثر من 260 شخصًا في السويداء التي عاشت منذ عام 2011 بمنأى عن الاشتباكات بين قوات النظام والمعارضة إلى حدّ كبير، فيما قام انتحاريون بتنفيذ عدة تفجيرات قبل أن يُقتل جميع عناصر التنظيم المتسللين إلى المدينة على يد الأهالي وبعض الفصائل المسلحة.
حسب تقرير موقع “ديلي بيست” الأمريكي، فإن مئات من مقاتلي التنظيم دخلوا قرى قريبة من السويداء، وانتقلوا من بيت إلى آخر، وذبحوا عائلاتها فردًا فردًا، وخلفوا شاهدًا واحدًا ليروي ما جرى لها، وقتل في المحصلة 273 درزيًّا فيما جُرح 220.
وتابع التقرير أن المذبحة بدأت في السويداء في الساعات الأولى من الصباح، وتم قطع خطوط الهاتف والكهرباء بطريقة تثير الريب، كما تم إلغاء نقاط التفتيش التابعة للنظام حول القرى التي حدثت فيها المذبحة ليلة الهجوم، إضافة إلى سحب النظام السلاح من ميليشيات الحماية المحلية، لافتًا -حسب حديث قادة دروز- إلى أن السويداء تمّت معاقبتها لأنها رفضت الانضمام إلى جيش النظام في حربه على المحافظات السورية.
“داعش” مسرحية النظام القديم
أشار موقع “السويداء 24” (المعني برصد أخبار السويداء) إلى أن اللافت والغريب في حادثة تفكيك خلية لـ”داعش” في الحي الغربي، أن مصادر إعلامية مقرّبة من الأجهزة الأمنية أعلنت بعد دقائق من انتهاء الحادثة أن ما حصل مداهمة “وكر تابع لتنظيم داعش”، وأن القتيل والشخص الذي تم القبض عليه كانا يخططان لتفجيرات في السويداء.
إعلان تلك المصادر بالسرعة القصوى عن مخطط التفجيرات جاء حتى قبل أن يصل الموقوف إلى الفرع، وهو ما يفتح الكثير من التساؤلات والشكوك لا سيما مع انتشار صور للقتيل، تارة يحمل قنبلتَين بيدَيه، وتارة أخرى يضع عناصر الأمن حزامًا على جسده.
والمثير في التفاصيل أكثر أن الوكر الذي داهمته قوى الأمن كما وصفه التلفزيون السوري، لا يبعد أكثر من 400 متر عن نقطة تفتيش تابعة للقوى الأمنية، وهي المنطقة المعروفة بحاجز النقل، هذا عدا عن أن سكان المدينة لم يتعرّفوا الشخصين المزعوم أنهما ينتميان إلى “داعش”.
ونشرت صفحة “الراصد” (المختصة برصد أخبار المحافظة) قولًا لأحد قادة الفصائل العاملة في السويداء، يشير إلى أن مجموعات عسكرية ضخمة تابعة للنظام دخلت إلى محيط مطار خلخلة، في حين ذهب قسم كبير من هذه المجموعات إلى البادية الشرقية، محذّرًا من سيناريو يخطط له النظام يتضمن ما وصفها بتمثيلية جديدة قد تحصل في السويداء.
وسبق هذا السيناريو نشر قناة “الميادين” الموالية، في سبتمبر/ أيلول الفائت، فيديوهات حصرية لأول مرة تتضمن هجوم تنظيم “داعش” ومجازره في قرى ريف السويداء الشرقي عام 2018، الأمر الذي أثار حفيظة ناشطين عن الهدف من عرض تلك المشاهد، وتوقيت نشرها وما يحمله من تهديد مبطن، لا سيما أنه يتزامن مع تصاعد انتفاضة أهالي السويداء ضد نظام دمشق، إضافة إلى كيفية حصول قناة “الميادين” على تلك المشاهد الخاصة، والتي لا يمكن الحصول عليها إلا من أفرع النظام الأمنية.
وكان الإعلامي الموالي، حسين مرتضى، قد هدّد أهالي السويداء في أغسطس/ آب الفائت بالانتحاريين والإرهابيين، زاعمًا أن الولايات المتحدة الأمريكية سترسلهم للقيام بعمليات في مناطقهم انطلاقًا من قاعدة التنف، وذلك بهدف اتهام النظام وتأجيج الشارع، حسب زعمه.
يرى الناشط جمال الشوفي، في حديثه لـ”نون بوست”، أنه ليست المرة الأولى التي يتم فيها الترويج لورقة “داعش”، سواء بالمنطقة الشرقية أو الغربية للسويداء، لكن ما يثير السخرية خلال إلقاء القبض المزعوم على الخلية هو ظهور عنصر يتبع لقوات النظام دون أن يرتدي الحذاء العسكري، فكيف يمكن لقوة مداهمة تداهم خلايا داعشية أن تتعامل بهذا التهاون واللامبالاة، فضلًا عن حمل عنصر “داعش” لقنابل كان بإمكانه تفجيرها، متسائلًا: “السؤال الأهم.. هل سيجرؤ النظام على استخدام ورقة “داعش” بعد أن أصبحت ورقة مهترئة ومكشوفة لدى القاصي والداني؟”.
ما رسائل النظام؟
على مدار الثورة السورية حاول النظام تصوير نفسه على أنه حامٍ للأقليات، ويعدّ ذلك السلوك بضاعة رائجة لسياسته، إلا أن تلك البضاعة تحتاج لآلية يسلكها النظام، ألا وهي خلق عدو جاهز لإخافة تلك الأقليات بإفلات توحُّش “داعش” التي تعدّ الأصلح لهذا الغرض، وقد يستخدم النظام ورقة “داعش” التي تعامل معها على أنها أزمة للغير أكثر من كونها أزمة له كمبرر لأي حملة عسكرية أو أمنية في المنطقة، كما استخدمها سابقًا في عام 2018.
يرى الباحث في الحركات الجهادية، عبد الرحمن الحاج، في حديثه لـ”نون بوست”، أن استراتيجية النظام هي خلق الفوضى ومنع الاستقرار النسبي في المناطق الخارجة عن سيطرته، ولقد حاول بالتعاون المباشر مع قادة للتنظيم خلق موطئ قدم في درعا، وحاول في إدلب ومناطق الجيش الوطني في الشمال الغربي، وهو الآن يحاول ذلك في السويداء.
وأشار إلى أن تخويف السويداء هو جزء من تكتيكات النظام لوضعها في حالة خوف وترقب دائم، كما أن التحركات العسكرية للنظام في السويداء أيضًا جزء منها، وقد سهّل للتنظيم عمليات وحشية في السويداء، وهو يحاول الآن استثمارها ويلوح بها لبثّ الذعر.
حسب دراسة نشرها مركز جسور للدراسات في سبتمبر/ أيلول الفائت، فإنّ التنظيم غالبًا لن يفوّت فرصة توسيع نشاطه في بادية السويداء إن أتاح النظام له المجال على غرار الحالات السابقة، خصوصًا أنه لا يملك أي فرصة للتفاوض مستقبلًا مع مشيخة عقل الطائفة الدرزية.
البدو السنّة.. استثمار مفضوح
ما يلفت النظر أن مسرحية النظام في اقتحام وكر الخلية الداعشية كان في منطقة المنصورة، وهي منطقة يقطنها البدو السنّة الذين يحاول النظام عبر بعض مشايخهم إثارة القلاقل وافتعال الأزمات ضد الدروز، متابعًا منهجيته التي بدأها عام 2000 في إدارة الفتنة بعد الصدامات الدامية بين الدروز والبدو السنّة.
حيث أطلق عليها آنذاك “أحداث البدو” للإمعان في تأجيج الصراع بين الطرفَين واستثارة العشائر السورية، قبل أن تسفر حينها عن سقوط عشرات القتلى والجرحى من الجانبَين، ومضى النظام بتلك المنهجية واستطاع تسخيرها بشكل فاعل خلال الثورة السورية، عبر دعم ارتباط العديد من العشائر البدوية بأجهزته الأمنية من جهة، وبـ”داعش” في هجماتها ضد القرى الدرزية من جهة أخرى.
يتوزع البدو من سكان محافظة السويداء في أطراف مدينة السويداء الشمالية والشرقية في أحياء المقوس والمشورب والحروبي ورجم الزيتون، وفي الدياثة والشقراوية، إضافة إلى وجود تجمعات للبدو في مدينة شهبا وقرى وبلدات الأصلحة والرحا والكفر وعريقة والمزرعة وولغا ووقم والخرسا وعرى وأم الزيتون والقريا وذيبين، كما يتوزعون في باقي قرى وبلدات ومدن محافظة السويداء كرعاة للمواشي من دون تجمعات لهم.
انتشارهم في بادية السويداء التي تلتصق ببادية دمشق الجنوبية وتصل إلى قاعدة التنف وإلى الحدود الأردنية وتتصل بمنطقة اللجاة وبادية الحماد، هو ما كسبه النظام الذي استمال شريحة كبيرة منهم ووظفها لصالح أجهزته ولصالح تنظيم “داعش”، لا سيما أن اتصال بادية السويداء بالبادية الشامية والحماد وامتدادها حتى الحدود العراقية واتصالها بقاعدة التنف، يجعل من وجود “داعش” في هذه المنطقة والتحكم بحركته ورقةَ ضغط تمكّن النظام والإيرانيين من فتح “بازار” فيها، وإعادة خلط أوراق ملف الجنوب السوري، والضغط على الدروز في السويداء.
يشير الناشط الشوفي إلى أنه تاريخيًّا كانت أجهزة الأمن تعمل على إثارة القلاقل ما بين السنّة البدو والدروز أو بين درعا والسويداء، وكان العقلاء من الطرفَين يعملون على استيعابها وإنهائها، ومن الطبيعي -حسب الشوفي- أن يمرر النظام سيناريو “داعش” بوجود بعض رجال المكون السنّي، فكأن تفكيك الخلية في منطقة المنصورة التي يقطنها البدو إشارة من النظام وتذكير لتعاون متعاملي البدو السنّة ومثلهم أيضًا بعض الدروز عام 2018 مع “داعش” شرق السويداء.
ويستدرك الشوفي حديثه بالقول: “النتيجة الآن يمكن تلخيصها بأن المكون العشائري في السويداء محافظ مع دروز المحافظة على السلم الأهلي والتظاهر السلمي، وأن الكل يد واحدة ضد المخططات التي تحاك ضمن المنطقة سواء عبر النظام أو “داعش” أو الميليشيات الإيرانية”.
ويشترك الباحث الحاج مع الشوفي في أن النظام يريد أن يعزز الانقسام في المجتمع بين البدو السنّة ودروز السويداء، عبر الربط بين “داعش” والمناطق البدوية المحاذية، ما يعني زيادة عزلة السويداء وإضعاف الروابط بين المناطق والخطاب الوطني الذي يرفعه الحراك المدني في السويداء.
وتكمن إرادة النظام أيضًا في تشييد الجدران بين الدروز ومحيطهم السنّي الذي يشترك معهم في الخطاب الوطني وتعزيز الخوف بينهم، وهذا جزء من استراتيجيته في حصار حراك السويداء وإحباط الناشطين فيه، حسب الباحث الحاج.
ويبدو أن ورقة التنظيم التي يستخدمها النظام ككبش فداء لإخفاء سلوكه الوحشي، ستبقى بمثابة مبرر للدخول في أي منطقة تزعج النظام القادر على خلق عدو في أعين المجتمع الدولي، ومن ثم الترويج لقدرته على محاربته والقضاء عليه بمفرده، ثم استخدام تلك المعركة لتحقيق أهداف أخرى.
حيث إن التقرير الأممي الأخير حول التنظيم كان قد أشار في فبراير/ شباط الفائت، إلى أن التنظيم ظل يواجه استنزافًا في القيادة ونكسات مالية، إلا أنه احتفظ بقدرته على شنّ هجمات إرهابية والتخطيط لتهديد خارج مناطق عملياته، وظل خطر عودة ظهور التنظيم قائمًا في سوريا والعراق.