معارك الفاشر.. الاقتتال الذي يحدد مستقبل إقليم دارفور

تدور منذ يوم الجمعة 10 مايو/ آيار الجاري، معارك عنيفة في الفاشر، العاصمة التاريخية لإقليم دارفور، بعد أشهر من الاشتباكات المتقطعة والقصف المدفعي المتبادل بين الجيش وقوات الدعم السريع، رغم الضغوط الدولية لتجنيب المدينة ويلات النزاع.

تختلف معارك الفاشر عن المواجهات التي وقعت بين الجيش والدعم السريع في العاصمة الخرطوم وغيرها من المناطق، نظرًا لحالة الاستقطاب الأهلي التي تفاقمت مع تعدد أطراف الصراع حتى وصلت إلى ما يمكن وصفه بـ”صراع وجودي أكثر من محاولة السيطرة أو الدفاع عن المدينة”.

تحذيرات قبل الكارثة.. ماذا بعد حدوثها؟

أدرك المجتمع الدولي، مبكرًا، أن الصراع في الفاشر إذا اندلع سيحوّل إقليم دارفور بأسره إلى حمام دم، لكنه خبأ تلك الحقيقة وراء العبارات الدبلوماسية بإبراز التكلفة الإنسانية في دعوته للجيش وقوات الدعم السريع بعدم شن هجمات على بعضهما في الفاشر.

قالت سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة ليندا توماس-غرينفيلد في 29 أبريل/نيسان الفائت، إن أيّ هجوم على الفاشر سيكون كارثة فوق كارثة، حيث سيضع 500 ألف نازح داخليًا في خطر، وهم أشخاص نزحوا من جميع أنحاء المنطقة بحثًا عن ملاذ آمن، يضاف لهم مليونا سوداني يعتبرون الفاشر موطنهم.

وقبل تصريح غرينفيلد بـ9 أيام، أفادت مديرة العمليات في مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (أوتشا)، إديم ووسورنو، بأن أعمال العنف في الفاشر تُشكل خطرًا فوريًا على حياة 800 ألف مدني يعيشون في المدينة، حيث يهدد ذلك بإثارة مزيد من العنف في أجزاء أخرى من دارفور.

تعدد أطراف النزاع واختلاف توجهاتهم ومصالحهم، متبوعًا بالاستقطاب الأهلي، سيجعل من الفاشر بركة دماء تطفو فوقها جثث الجنود والمقاتلين والمدنيين الذين لا تتوافر لهم مسارات هروب آمنة

وأكدت المديرة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة، كاثرين راسل، في 3 مايو/ أيار الجاري، أن الهجوم العسكري على الفاشر يعرض حياة 750 ألف طفل وربما ملايين آخرين للخطر.

أحكمت قوات الدعم السريع حصارها على الفاشر بعد سيطرتها على مدينة مليط في 14 أبريل/نيسان السابق، بحشدها آلاف الجنود ومقاتلي المليشيات المتعاونة معها على تخوم المدينة التي ظلت تتواجد في الأحياء الشرقية منها منذ اندلاع النزاع في 15 أبريل/نيسان 2023.

ومنع وجود الدعم السريع في الأحياء الشرقية التي يمر عبرها الطريق الرئيسي الذي يربط ولاية شمال دارفور بالعاصمة الخرطوم مرورًا بولاية شمال كردفان، الجيش من إرسال تعزيزات إلى قواته في الفاشر والتي بعد حصارها قُطع عنها إمداد السلع والأدوية والبترول، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها ونفاد بعضها.

ونتيجة لذلك، يفتقر مستشفى الفاشر الجنوبي، وهو المشفى الوحيد العامل في شمال دارفور، إلى المعدات الطبية والأدوية، كما تسببت غارة جوية على مقربة من مستشفى للأطفال في إغلاقه ومقتل طفلين وأحد مقدمي الرعاية الصحية.

أطراف النزاع في الفاشر

تبادل الجيش وقوات الدعم السريع الاتهامات بشأن من بادر بالهجوم الذي وقع صباح الجمعة وفجر الأوضاع، لتلافي مسؤولية ما سيحدث لاحقًا، وفي مقدمتها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتطهير عرقي.

وأسرع حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، الذي يرأس حركة تحرير السودان المسلحة وهي طرف رئيس في معارك الفاشر، إلى التهديد بنقل الحرب إلى قواعد الدعم السريع الاجتماعية، فقال في تغريدة: “تكرار الهجوم على الفاشر وإصرار إحراقها وتجويع المدنيين بمنع دخول الإغاثة والاحتياجات الإنسانية، سيولد ردود أفعال مضادة على مواقع التي يظنون أنها كواكب معزولة وآمنة”.

تكمن خطورة الأوضاع في الفاشر إلى تعدد أطراف النزاع، حيث تتحالف قوات الدعم السريع مع مليشيات قبلية عديدة غير معروف قادتها بينما يصطف إلى جانب الجيش القوة المشتركة للحركات المسلحة وهي تضم حركة مناوي والعدل والمساواة بقيادة وزير المالية جبريل إبراهيم والتحالف السوداني وفصائل انشقت من حركة تحرير السودان ـ المجلس الانتقالي وتجمع قوى تحرير السودان.

يتوقع أن تنفذ الأطراف المنتصرة في معارك الفاشر حملات تطهير عنيفة ضد من تعتقد أنهم حلفاء الأطراف المهزومة، فيما ستنفذ الأخرى حملات انتقامية ضد أعراق المنتصر في أماكن أخرى بدارفور

وتؤكد تسريبات، غير مؤكدة لكنها محتملة بنسبة كبيرة، مشاركة حركة تحرير السودان ـ المجلس الانتقالي بقيادة عضو مجلس السيادة المقال الهادي إدريس إلى جانب الدعم السريع وقوات مجلس الصحوة الثوري الذي يرأسه الزعيم الأهلي ذو الصيت الواسع موسى هلال مع الجيش.

وإضافة إلى هؤلاء، هناك جماعات مسلحة عديدة تشارك في معارك الفاشر من بينها مجموعة تكوشات التي تتمركز في مخيم زمزم الذي يأوي 450 ألف نازح، كما لا يستبعد انضمام قوات شوقارة إلى النزاع وهي جماعة قبيلة توجد في مدينة أم كدادة القريبة من الفاشر.

وتتواجد قوات من حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور في الفاشر، دون أن تُشارك في النزاع مع أي طرف، حيث يُرجح أنها تنتظر الطرف المنتصر لتنقض عليه بعد أن تكون قواه أُنهكت أو على الأقل تعقد معه تحالفًا لتأمين وتوسيع مصالحها.

إذًا، تعدد أطراف النزاع واختلاف توجهاتهم ومصالحهم، متبوعًا بالاستقطاب الأهلي، سيجعل من الفاشر بركة دماء تطفو فوقها جثث الجنود والمقاتلين والمدنيين الذين لا تتوافر لهم مسارات هروب آمنة في ظل الحصار الذي تفرضه الدعم السريع على المدينة.

نظرة فاحصة على المصالح

تحاول قوات الدعم السريع السيطرة على الفاشر لإحكام قبضتها على إقليم دارفور، بعد أن دانت جميع المدن الكبرى إليها بما في ذلك قواعد الجيش في ولايات شرق وشمال ووسط وغرب دارفور، من أجل التفرغ إلى بعض الجماعات المسلحة الصغيرة مثل شوقارة.

وفي حال وضعت قوات الدعم السريع يدها على الفاشر فإنها في البداية ستكون أوقعت أقسى هزيمة عسكرية ومعنوية للجيش، ولا شك أنها ستستغل ذلك لتعزيز وجودها في ولاية شمال كردفان، ومن ثم الانقضاض على حاضرتها “الأبيض”، كما أن الطريق سيكون مفتوحًا أمامها لاجتياح مدينة الدبة شمال السودان، وبذلك تكون حققت أكبر أمنياتها بنقل الحرب إلى الشمال.

أيضًا، سيطرة الدعم السريع تضمن لها هزيمة الحركات المسلحة التي تُدافع عن المدينة، وبالتالي تستطيع دولتها في إقليم دارفور والتي بدأت تطبيقها فعلًا بتكوين إدارات حكم في المدن وفرض الضرائب والجمارك.

أما الجيش، فقد استمال الحركات المسلحة إلى جانبه لضمان تواجده في دارفور، فقاعدته في الفاشر وحدها المتبقية التي لم تسيطر عليها الدعم السريع في الإقليم، لذلك سيُدافع عن المدينة بضراوة شديدة باعتبارها خط الدفاع الأول عن شمال كردفان والولاية الشمالية.

أيضًا، سيفقد الجيش إذا هُزم في الفاشر شرعية الحديث عن دارفور، ما يعزز حظوظ الدعم السريع في أي تفاوض ويشمل ذلك ترتيبات الحكم، فضلًا عن فقدانه مواردها الاقتصادية المتمثلة في الذهب والمحاصيل وعوائد الضرائب والجمارك والرسوم على البضائع الواردة من ليبيا.

وبالنسبة إلى الحركات المسلحة، خاصة العدل والمساواة وتحرير السودان، فهي تُقاتل مع الجيش لضمان وجود قادتها في السُّلطة التي حصلوا عليها بعد سنوات من قتال النظام السابق بدواعي تهميش إقليم دارفور، حيث إن سيطرة الدعم السريع على الفاشر تعني نهاية مشروعهم السلطوي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.

ولهذا، فإن معارك الفاشر صراع بقاء بالنسبة للجيش والحركات والجماعات المتحالفة معه، وبما أنها تدور في أحياء سكنية فإن عدد الضحايا سيكون أكثر مما يتخيل.

مخاوف قد تكون واقعًا قريبًا

تحاذي ولاية شمال دارفور وعاصمتها الفاشر دولتي تشاد وليبيا وتشترك في حدود مع ولايات شرق ووسط وغرب وجنوب دارفور وشمال وغرب كردفان والولاية الشمالية، ومن هنا تأتي أهميتها العسكرية باعتبارها الرابط الرئيس بين هذه الولايات.

وبالنظر إلى أن أراضي دارفور موزعة على القبائل كملكية تاريخية، فإن الفاشر تتبع لقبيلة الفور، حيث كانت مركز السلطنة القديمة ولا يزال البعض يطلق عليها فاشر السلطان، لكن تسكنها قبائل عديدة تعايشت طوال سنوات قبل أن يفرقهم النزاع القائم وربما إلى غير رجعة.

دفع النزاع إلى تقسيم السكان على أساس عرقي، فإن كنت منحدرًا من القبائل العربية فأنت مقاتل مع الدعم السريع أو متعاطف معها على أقل تقدير، ما يستوجب عقابك من الطرف الآخر، والعكس يحدث إذا كنت من القبائل الإفريقية، فأنت جندي في الجيش أو مقاتل مع الحركات المسلحة أو داعم لهم، ما يتطلب محاسبتك.

وتتمثل المحاسبة والعقاب عند جميع الأطراف إذا وقعت في أيديهم بالتعذيب وربما الإعدام دون أن ترتكبت جُرمًا، وهذا ما حد من تحركات السكان في المدينة خلال الأشهر الماضية، وهذا أيضًا يغلق الباب أمام فرار المدنيين من الفاشر حال استمرت المعارك وهذا مرجح، ما يعني في النهاية قتلهم بالاستهداف أو القصف العشوائي.

ويتوقع أن تنفذ الأطراف المنتصرة في معارك الفاشر حملات تطهير عنيفة ضد من تعتقد أنهم حلفاء الأطراف المهزومة، فيما ستنفذ الأخرى حملات انتقامية ضد أعراق المنتصر في أماكن أخرى بدارفور.

وإذا كان من الصعوبة التكهن بمن ينتصر في معارك الفاشر التي قد تستمر لأشهر طوال، فمن المؤكد أن العنف سينتقل إلى مناطق أخرى من دارفور وسيكون عبارة عن تطهير عرقي وإبادة جماعية على غرار ما حدث في غرب دارفور.