ترجمة وتحرير: نون بوست
في موفي السنة الحالية، شبه الكثيرون بشكل ساخر مجال الاكتشافات والبحوث العلمية بعالم السياسة القذر، لما قام به بعض العلماء هذه السنة من مراوغات ومبالغات وحتى أفعال إجرامية. وفي الحقيقة، تم سحب مئات البحوث العلمية المنشورة في العديد من المجلات البحثية لهذه السنة، وذلك لاحتوائها على مغالطات كانت مقصودة في أغلب الحالات.
في العديد من المناسبات، ثبت أن مؤلفي هذه المنشورات قد تعمدوا تعديل بعض البيانات لتتماشى مع سياق البحث، أو حتى التزييف الكامل للمحتويات المنهجية والعلمية. وقد بلغت مدونة “ريتراكشن واتش” خلال سنة 2017 عن أهم خمس عمليات سحب مؤلفات ثبت احتيال أصحابها.
تضارب المصالح والمنشورات الوهمية
خلال سنة 2017، حاول الكثير من العلماء إثبات وجود صلة بين اللقاحات والإصابة بمرض التوحد. ومن ضمن المؤلفات التي تم نشرها حول هذا الموضوع بحث تحت عنوان “التقييم المنهجي للبحوث حول اضطراب التوحد يكشف تضارب المصالح والحاجة إلى الشفافية فيما يخص بحوث التوحد”. والغريب في الأمر أن منتجي الدراسة لم يكلفوا أنفسهم عناء التصريح بارتباطهم بمنظمات تبحث في نفس المجال، وهو ما دمر مصداقية الدراسة بعد افتضاح أمرهم والكشف عن هذا التضارب الواضح في المصالح.
كتب ديفيد لويس على لسان “لو كات” مقالا نقديا ساخرا تحدث فيه عن رؤيته للعالم من منظور قطة وخاطب جوهر فلسفة “الواقعية الشكلية” ليقول ضمنيا بإمكانية وجود عالم خاص بالقطط أيضا.
من ناحية أخرى، تمكن المدون الملقب “بنوروسكيبتيك” من نشر مقال وهمي باسمين مستعارين، لوكاس ماك جورج وأنيت كين، في أربع مجلات علمية. وقد تحدث المقال الخيالي عن الكيانات الذكية التي تسمى بميدي كلوريانز التي أعطت قوة خارقة لشخصية “الجيداي” في فيلم “حرب النجوم”. وبالإضافة إلى هذه الدراسة الوهمية، عمل هذا المدون على نشر مقال زائف تحت عنوان “فن كتابة المقال العلمي”، في مجلة علوم الاتصالات، علما بأنه استشهد به ما يقارب 400 باحث.
“أنا أهرهر، إذن أنا موجود”
استغرق الأمر 35 عاما للكشف عن الحيلة التي قام بها الفيلسوف ديفيد لويس حين اخترع شخصية الناقد “بروس لو كات” ليتمكن عبر هذه الشخصية الوهمية من نقد مؤلفاته الفلسفية ونشر مقالاته في المجلة الفلسفية “أوستراليجيان”. ويعرف هذا الفيلسوف الأمريكي، الذي توفي سنة 2001، بنظرية “الواقعية الشكلية” التي تفيد بوجود عوالم ملموسة مختلفة وأن كل عالم هو بمعزل عن أي عالم آخر سببيًا ومكانيًا وزمانيًا.
في الواقع، لقد تبين بعد عدة سنوات أن “بروس لو كات” كان شخصا خياليا حمل اسم قطة الفيلسوف المدللة. وقد كتب ديفيد لويس على لسان “لو كات” مقالا نقديا ساخرا تحدث فيه عن رؤيته للعالم من منظور قطة وخاطب جوهر فلسفة “الواقعية الشكلية” ليقول ضمنيا بإمكانية وجود عالم خاص بالقطط أيضا.
خلافا للمتوقع، لم تخفَ هذه الحيلة الهزلية عن معاصري ديفيد لويس في الوسط الفلسفي بمن فيهم مايكل دوغيرتي، الأستاذ في جامعة أوهايو دومينيكان حاليا، الذي هو بصدد تأليف كتاب عن المصداقية العلمية. وقد طلب دوغيرتي من المجلة الفلسفية “أوستراليجيان”، التي نشرت أعمال ديفيد لويس، الكشف عن حقيقة الخدعة لتعلم الأجيال الشابة أن ذلك الفيلسوف المعروف قد استخدم اسما مستعارا وكان في حقيقة الأمر يؤدي دورا مزدوجا باعتباره كاتبا وناقدا.
سحبت شركة النشر الألمانية الشهيرة “سبرينغر”، التي تتعامل مع مجلة “نيورو ساينس” وقرابة ثلاثة آلاف مجلة علمية أخرى، وأكثر من 100 مقالة بعد التحقيق في مدى مصداقيتها سنة 2017
تزوير على ثلاث مستويات
حيال هذا الشأن لسائل أن يسأل، إذا نشرت ورقة بحثية وتبين فيما بعد أنها منسوبة إلى مؤلفين وهميين، وكان ممولوها وهميين، ناهيك عن أن مرورها عبر مرحلة مراجعة النظراء كان وهميا أيضا؛ فهل يعتبر البحث بموجب هذه المعطيات مزيفا وبذلك تلغى مصداقية الورقة البحثية؟ أم أن الغاية تبرر الوسيلة؟
خلال شهر حزيران/ يونيو من سنة 2017، سحبت “نيورو ساينس” مقال نُشر سنة 2015 منسوب لمجموعة من الباحثين الصينيين، بعنوان “بروتين النكليولين يعزز عامل النمو المحول- بيتا عن طريق المستقبلات الحيوية لعامل النمو المحول- بيتا على مستوى الورم الأرومي الدبقي متعدد الأشكال”، نظرا لأن مصدر التمويل المذكور في الدراسة كان وهميا. كما نفى الكاتب الرئيسي وأحد المؤلفين المشاركين اللذين نسبا إلى الدراسة مشاركتهما في البحث. وقد صرح المراجعون المرتبطون بالمجلة أن هذا العمل مشكوك في صحته على ثلاثة أصعدة مختلفة ما يجعله غير قابل للنشر.
من هذا المنطلق، سحبت شركة النشر الألمانية الشهيرة “سبرينغر”، التي تتعامل مع مجلة “نيورو ساينس” وقرابة ثلاثة آلاف مجلة علمية أخرى، أكثر من 100 مقالة بعد التحقيق في مدى مصداقيتها سنة 2017. وقد أجرت شركة سبرينغر تحقيقات حول تزوير عملية مراجعة النظراء، حيث ثبت أن المؤلفين وحتى الاستشاريين الذين دُفع لهم مقابل مالي لمراجعة العمل، قد قاموا بتلميع صورة هذه الدراسات بشكل مبالغ فيه وزائف.
منذ سنة 2012، تم سحب أكثر من 500 مائة ورقة بحثية كانت صينية المصدر في الأغلب، نظرا لأنه تبين إثر التحقيقات أنها زورت مرحلة مراجعة النظراء، وذلك حسب ما أفادت به مدونة “ريتراكشن واتش”.
أثار التحليل الإحصائي لدراسات الباحث الياباني المرموق”ساتو”، الذي قام به مارك بولاند من جامعة أوكلاند في نيوزيلندا، شكوكا حول صحة النتائج البحثية التي توصل إليها العالم الياباني، ولاحقا، اعترف “ساتو” بتزييف بيانات عدة وتعمده إضافة أسماء علماء آخرين كمؤلفين مشاركين في بحوثه
نتائج بحوث “يوشيهيرو ساتو” الواهية
نشرت أعمال الباحث الياباني المرموق “يوشيهيرو ساتو”، الذي توفي في شهر كانون الثاني/ يناير من سنة 2017، في مجلات شهيرة مثل مجلة “نورولوجي” ومجلة “بون” ومجلة “الجمعية الطبية الأمريكية”. ولكن تم خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر الجاري، سحب 23 ورقة بحثية “لساتو” بسبب ثبوت وجود بيانات مغلوطة وشبهة استيلاء على حقوق التأليف.
فيما مضى، أجرى “ساتو” تحقيقا حول مدى فاعلية العلاجات المستعملة لكسور الورك، وأشارت دراساته إلى أن فيتامين (د) وبعض الأدوية الجينية الأخرى تشكل علاجا بمنتهى الفعالية بالنسبة للمرضى الذين يعانون من ضعف البنية، وكبار السن الذين أصيبوا بسكتة دماغية، أو المصابين بمرض “باركنسون” أو “الخرف”.
سنة 2016، أثار التحليل الإحصائي لدراسات “ساتو”، الذي قام به مارك بولاند من جامعة أوكلاند في نيوزيلندا، شكوكا حول صحة النتائج البحثية التي توصل إليها العالم الياباني. ولاحقا، اعترف “ساتو” بتزييف بيانات عدة وتعمده إضافة أسماء علماء آخرين كمؤلفين مشاركين في بحوثه. ومنذ ذلك الحين، أصدرت مجلة “الجمعية الطبية الأمريكية” وغيرها من المجلات تحذيرات للقراء حول عدم صلاحية نتائج دراسات يوشيهيرو ساتو التي تعود إلى التسعينيات. ومن المتوقع أن تتم عمليات مشابهة لسحب المنشورات العلمية سنة 2018.
ضربة موجعة لعلماء البيئة
خلال شهر حزيران/ يونيو من سنة 2016، نشر باحثان من جامعة “أوبسالا” السويدية، دراسة مثيرة في مجلة علوم مرموقة، تشير إلى أن سمك “الفرخ الأوروبي” يفضل تناول حبات صغيرة من “البوليستيرين” بدلا من الغذاء الطبيعي. وقد أكد الباحثان أن هذه الخرزات البلاستيكية، التي لا تكاد تكون مرئية للعين البشرية، تؤدي إلى إبطاء نمو الأسماك مما يجعلها فريسة للحيوانات المفترسة الأكبر حجما، وتستقر هذه المواد البلاستيكية في الأجهزة الهضمية لهذه الحيوانات اللاحمة.
خضع أكثر من 50 مقالا علميا على ملكية براين وانسينك مدير مختبر الأغذية والعلامة التجارية في جامعة كورنيل للفحص الدقيق، و قام هذا الأخير خلال السنة الماضية بتصحيح وإعادة نشر ما لا يقل عن ثمانية مقالات وسحب أربع دراسات أخرى، بما في ذلك بحثه الشهير حول ملصق “إلمو” والتفاحة
على إثر ذلك، تناولت وسائل الإعلام الدراسة على نطاق واسع، كما قام العديد من علماء البيئة بتشكيل فرضيات قائمة على هذه المعلومات المستجدة كدليل على الضرر الذي تتسبب فيه المواد البلاستيكية للطبيعة والكائنات. ولكن بحلول كانون الأول/ ديسمبر من نفس السنة، أعلنت الدورية علمية التي تنشرها الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم، “ساينس”، أن الدراسة قيد التحقيق إذ لم يتمكن الباحثون من تقديم جميع البيانات الواضحة عن البحث، وزعموا أن هذه المعلومات كانت محملة على جهاز حاسوب شخصي سُرق بعد نشر الدراسة.
بناء على ذلك، قرر مجلس المراجعة الأخلاقية المركزية السويدي أن الباحثين لا يتمتعان بالمصداقية العلمية المطلوبة، كما شكك المركز في حقيقة المعلومات التي تم ادعاء وجودها. وقد قامت دورية ساينس بسحب البحث في شهر أيار/ مايو.
الأكل الطائش أم العالم الطائش؟
تعتبر سنة 2017 الأسوأ بالنسبة لبراين وانسينك، مدير مختبر الأغذية والعلامة التجارية في جامعة كورنيل، ومؤلف كتاب “مايندلس إيتنغ” (أو الأكل بطيش). وكان “وانسينك” قد نشر دراسات مهمة وهو صاحب الفرضية الشهيرة القائلة، إن الطفل يختار الأكل الصحي، مثل التفاح، إذا كانت التفاحة تحمل ملصق “إلمو”.
خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من سنة 2016، بدأت متاعب وانسينك عندما نصح أحد طالباته في إحدى التدوينات بأن تستعمل البيانات التي لا تدعم فرضية معينة في سياق مختلف لدعم فرضية أخرى، لينتهي المطاف بنشر هذه التلميذة لخمس ورقات بحثية حول حب الأشخاص للبيتزا الذي يجعلهم يلتهمون كل ما تقدمه المطاعم الإيطالية. وقد أثارت هذه التدوينة، التي حذفت لاحقا، مخاوف العديد من العلماء حول جودة وسلامة أبحاث وانسينك، ما دفعهم للتمحيص في بحوثه. وقد اكتشفوا مشاكل على مستوى المنهجية والتحليل الإحصائي في بحوث يعود تاريخها لعدة سنوات.
في هذا الإطار، أجرت جامعة كورنيل تحقيقا في أبحاث وانسينك، ووجدت ما أسمته “الأخطاء” التي لا ترقى لمرتبة التزييف. وخضع أكثر من 50 مقالا علميا على ملكية براين وانسينك للفحص الدقيق، و قام هذا الأخير خلال السنة الماضية بتصحيح وإعادة نشر ما لا يقل عن ثمانية مقالات وسحب أربع دراسات أخرى، بما في ذلك بحثه الشهير حول ملصق “إلمو” والتفاحة.
المصدر: لايف ساينس