قالت كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس)، الإثنين 13 مايو/أيار 2024، إنها فقدت الاتصال بمقاتلين لها كانوا مكلفين بحراسة أربعة من الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لديها، من بينهم هيرش جولدبيرغ بولين الذي يحمل الجنسية الأمريكية، وذلك بسبب القصف الإسرائيلي للقطاع خلال الأيام العشر الماضية.
وفي أواخر أبريل/نيسان الماضي، كان بولين قد وجه مناشدة عبر رسالة مصورة بثتها القسام، إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإطلاق سراحه، والعمل من أجل وقف إطلاق النار بشكل فوري حفاظًا على حياته وحياة بقية المحتجزين.
وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي اعترف المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، دانيال هغاري، بأن جيش الاحتلال قتل أربعة أسرى محتجزين لدى المقاومة عن طريق الخطأ، فيما عرضت المقاومة مقطعًا مصورًا قالت فيه إن نتنياهو قتلهم، وأن الوقت يمضي ويتلاشى، لافتة إلى أن “أمنيتهم الأخيرة كانت العودة أحياء لكن شيئًا ما تغير”.
بينهم الأسير #غولدبيرغ الذي ناشد #نتنياهو إطلاق سراحه برسالة مصورة.. #حماس تعلن عن فقدها الاتصال بمسلحين يحرسون 4 من الأسرى الإسرائيليين في #غزة #فلسطين#الحدث pic.twitter.com/m4yeW6UvLW
— ا لـحـدث (@AlHadath) May 13, 2024
وبلغ عدد من قتلهم جيش الاحتلال منذ بداية الحرب من المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة أكثر من 70 إسرائيليًا، بحسب كتائب القسام، بسبب القصف العشوائي والإصرار على التدمير دون أي رؤى أو تخطيط، وذلك رغم المناشدات والاستغاثات التي وجهها الأسرى وعوائلهم لحكومة الاحتلال للعمل على إطلاق سراحهم ووقف إطلاق النار قبل فوات الأوان.
بات من الواضح أن بروتوكول هانيبال، الذي يتبناه الكيان المحتل لمنع أسر جنوده، حتى لو كان ذلك بقتلهم، على اعتبار أن جنديًا قتيلًا أفضل من جندي أسير، تحول من مجرد توجيه صاغه 3 ضباط رفيعي المستوى بداية تسعينيات القرن الماضي، إلى استراتيجية وعقيدة عسكرية ثابتة لدى جيش الاحتلال، وهو ما كشفته حرب غزة الحالية، الأمر عززه الرفض والصلف إزاء كل محاولات التهدئة والتوصل إلى صفقة تبادل، ليبقى السؤال: هل حقًا يريد نتنياهو أسراه على قيد الحياة؟ وهل كان صادقًا بوعوده لعائلات المحتجزين بالعمل لإطلاق سراح ذويهم، أم كانت نوعًا من التخدير وتسكين الغضب حتى ينتهي من مهمته وهي قتلهم جميعًا؟
“إسرائيل من تقتلنا”.. هكذا يقول المحتجزون
منذ اليوم الأول للحرب وتذهب كل المؤشرات والتطورات والممارسات إلى أن هناك نية واضحة لدى نتنياهو وحكومته في قتل الأسرى والمحتجزين، رغم أن تحريرهم أحياءً كان أحد الأهداف “المعلنة” الرئيسية الثلاثة لتلك المعركة، فضلًا عن التصريحات المتكررة على مدار اليوم والتي يحاول من خلالها طمأنة عائلات الأسرى.
في ديسمبر/كانون الأول الماضي نقلت وسائل إعلام أمريكية عما أسمته “المخطط” الإسرائيلي لإغراق الأنفاق في قطاع غزة، بزعم القضاء على حماس المتمركزة بها، دون أي اعتبار لاحتجاز المقاومة للأسرى الإسرائيليين في تلك الأنفاق، وهو ما أثار غضب عائلات الأسرى، ممن حملوا نتنياهو مسؤولية هذا التصعيد.
وكان موقع “والا” العبري قد نشر حينها نقلًا عن زوجة أسير أُطلق سراحها ضمن قائمة المفرج عنهم وفق الهدنة الوحيدة التي جرت بين الطرفين، قائلة خلال اجتماع لمجلس الحرب المصغر” إنهم (الأسرى) داخل الأنفاق، وأنتم تتحدثون عن إغراقها بمياه البحر”، مضيفة “لقد قمتم بتفضيل السياسة على إعادة المختطفين، زوجي ضرب نفسه (حيث يظل أسيرًا لدى المقاومة) بسبب الظروف الصعبة التي واجهها، وأنتم لا تفكرون إلا في إسقاط حماس”.
وتضمنت شهادات المفرج عنهم ومن هم ما زالوا بقبضة حماس، ممن بعثوا برسائل مصورة بثتها المقاومة، أن جيش الاحتلال هو من يقتلهم، وأن هناك نية حقيقة في تدمير كل شيء، حتى الأماكن التي يختبئون بها، في اتهام مباشر لحكومة الاحتلال بتعمد استهدافهم، حيث قال أحدهم: “كنا نشعر بالخوف من أن نقتل على يد إسرائيل بدلًا من حماس”.
محل شك.. هل يريد نتنياهو أسراه أحياءً؟
التجربة الوحيدة التي عاد فيها بعض المحتجزين لدى حماس في أثناء هدنة نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لم يجن منها نتنياهو إلا المزيد من الضغوط والخسائر، ومن ثم فإن عدم عودة الأسرى أحياء، وتطبيق بروتوكول هانيبال، ربما يصب في صالح رئيس الوزراء المأزوم وجنرالاته وزمرة المتطرفين داخل حكومته، وذلك لخمسة أسباب رئيسية:
أولًا: تحسين صورة حماس وفصائل المقاومة.. الضربة الأولى التي تلقاها نتنياهو عقب الإفراج عن الدفعة السابقة من المحتجزين لدى المقاومة، كانت شهادتهم الإيجابية بحق حماس وبقية الفصائل، حيث جاءت التعبيرات مثمنة لتعامل عناصر المقاومة معهم، وكيف أنهم وفروا لهم كل سبل الحماية والعناية التي تساعدهم على الإبقاء على قيد الحياة، وهي الشهادات التي مُنعت من التداول لاحقًا وتم فرض مراقبة مشددة لعدم تكرارها مرة أخرى بعد إجراء بعض التحريفات عليها، لما تتركه من أثر سلبي على الحكومة.
ففي 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي وفي شهادتها التي أدلت بها للقناة الـ 12 الإسرائيلية، قالت الأسيرة الإسرائيلية المفرج عنها، ألموغ غولدشتاين (48 عامًا)، في مقابلة مع القناة الـ12 الإسرائيلية، إن عناصر حماس كانوا يحمونهم بأجسادهم، وحين سألتهم عن ذلك قالوا لها “سنموت قبل أن تموتوا، سنموت معًا، إذا حدث سنموت معًا لأننا قريبون منكم، نحن معكم”.
الشهادة ذاتها أكدها الجندي الاحتياطي، سامر طلالقة، الذي قال في مقطع مصور له: “حافظوا علي حتى إنهم خاطروا بأنفسهم من أجل أن أبقى على قيد الحياة من الصواريخ والقصف”، فيما قال زميل له: “في فترة وجودي هنا رجال القسام – كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) – قدموا لي كل شيء أطلبه منهم من الأكل والشرب والدواء”.
وذهبت شهادات الأسرى إلى حد التأكيد على أن رجال المقاومة كانوا أرحم بهم من أصدقائهم في جيش الاحتلال، وأن تخوفهم الأكبر لم يكن من حماس وعناصرها وإنما من جنرالات الجيش الإسرائيلي الذين لا يهمهم إلا القتل والتدمير حتى لو كان ذلك على حساب حياة المحتجزين.
ثانيًا: نسف الروايات الإسرائيلية.. اعتمد الكيان وآلته الإعلامية على تشويه صورة حماس وبقية الفصائل بزعم تعذيبهم للأسرى ومعاملتهم السيئة لهم، ومن قبل الزعم باستهدافهم الأطفال وتقطيع رؤوسهم واغتصاب النساء، وكلها ادعاءات ثبت كذبها وزيفها لاحقًا.
وتخدم تلك السردية الرؤية التصعيدية العنصرية لدى نتنياهو واليمين المتطرف، وترسخ عقيدة الانتقام لدى الشارع الإسرائيلي من المقاومة ورجالها، وعليه فإن الإفراج عن الأسرى والاستماع لشهادتهم ستنسف بطبيعة الحال تلك الروايات وتضع حكومة الاحتلال في وضعية الكاذب المخادع، هذا بخلاف تقويض مبررات التصعيد والإجرام الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين.
ثالثًا: فقدان الثقة بين الحكومة الإسرائيلية والشارع.. أي تجميل لصورة حماس والمقاومة وفق شهادات الأسرى حال إطلاق سراحهم، بما ينسف الروايات الإسرائيلية ويكذبها، سيكون له ارتداده العكسي على العلاقة بين الحكومة والشارع الإسرائيلي، فمن المتوقع أن يُحدث ذلك أزمة ثقة ومصداقية بين الطرفين.
حيث تراجع منسوب التصديق والاحترام لكل ما يصدر عن الحكومة سواء مواقف أم تصريحات، وهو ما يهدد بتفتيت الجبهة الداخلية التي تحاول كل الحكومات الإسرائيلية تقويتها لما لها من أثر كبير في بقاء دولة الاحتلال حتى اليوم.
بعد رفضهم الصفقة ومواصلة الحرب .. عائلات الأسرى الإسرائيليين تهاجم غالنت وبن غفير خلال تواجدهما في مدينة أسدود المحتلة pic.twitter.com/vY5T0asUAa
— قناة فلسطين اليوم (@Paltodaytv) May 13, 2024
رابعًا: الهرب من فخ الملاحقات القضائية.. يؤمن المحتجزون المفرج عنهم أو من هم ما زالوا قيد الاحتجاز، وعائلاتهم، أن القصف العشوائي الإسرائيلي يهدد حياتهم، وأن الـ 70 أسيرًا الذين قتلوا منذ بداية الحرب كان بسبب العمليات الإسرائيلية الفوضوية والإصرار على استهداف حماس حتى لو كان على حساب حياة المحتجزين.
ومن ثم وفي ظل تصميم نتنياهو على المضي قدمًا في هذا الطريق، قد تتجه عائلات الأسرى إلى ملاحقة المتورطين في استهداف المحتجزين وتعريض حياتهم للخطر قضائيًا ورفع دعاوى ضدهم، خاصة بعد شهادة ذويهم التي تؤكد ضلوع الجيش في قتل الكثير منهم.
خامسًا: التخلص من الضغوط.. يمارس عائلات الأسرى منذ اليوم الأول للحرب ضغوطًا قوية على حكومة نتنياهو، من أجل إبرام صفقة تبادل مع المقاومة، حيث انتفضت شوارع تل أبيب ومحيطها بعشرات الآلاف من المتظاهرين المحتجين، ونشبت مواجهات حادة وعنيفة مع عناصر الشرطة التي اضطرت لاعتقال بعض المشاركين في تلك الاحتجاجات.
وطالب المتظاهرون بإقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة بعد فشل نتنياهو في تحقيق وعوده المتكررة ليل نهار بتحرير هؤلاء الأسرى الذين يتساقطون يومًا تلو الآخر بسبب القصف العشوائي، الأمر الذي يزيد من وتيرة التصعيد الشعبي إلى حد تهديد إحدى المتظاهرت بأنه إن لم يرضخ نتنياهو ويبرم صفقة تبادل سيحرقون “إسرائيل” بأكملها.
ومن ثم ومع بقاء أسير واحد محتجز لدى المقاومة على قيد الحياة فإن تلك الضغوط ستظل مستمرة، ولن تنتهي أو تخمد بشكل نسبي، إلا بإنهاء هذا الملف، إما بالإفراج عنهم وما لهذا الحل من تداعيات كارثية، وإما قتلهم جميعًا ليبدأ منحنى الغضب في التبريد شيئًا فشيئًا.
مهددين بحرق البلد.. عائلات الأسرى الإسرائيليين يغلقون طريق أيالون السريع في تل أبيب بعد موافقة حــ ــمــ ــاس#الجزيرة_مباشر pic.twitter.com/Y8fYt5n93Q
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) May 6, 2024
يعلم نتنياهو جيدًا أن المحتجزين لدى حماس الآن أصبحوا بمثابة “الصندوق الأسود” للحرب، وشهود العيان الأكثر مصداقية لما جرى على مدار أكثر من 7 أشهر من حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، وخروجهم ومن ثم حديثهم والإدلاء بشهادتهم قد يقلب الطاولة رأسًا على عقب، ويُجهض كل المساعي والمحاولات المبذولة لتضليل الرأي العام الإسرائيلي عن الحرب والمقاومة.
في ضوء ما سبق بات واضحًا أن وعود نتنياهو بإطلاق سراح الأسرى والعمل على ذلك ليست إلا محاولة لتخدير الرأي العام الغاضب وتخفيف حدة الضغوط الممارسة عليه من الشارع، وأن من مصلحة رئيس الوزراء وجنرالاته – وفق المؤشرات السابقة – قتل جميع المحتجزين لدى حماس، وتطبيق بروتوكول هانيبال بحذافيره، وعدم عودتهم أحياء لعوائلهم مرة أخرى، وهو ما يساعد بشكل واضح في قراءة عمليات القصف العشوائي في الأماكن التي تشير التقديرات الإسرائيلية إلى اختباء الأسرى بها.