أعطى رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تعليماته بإنشاء صندوق استثمارات خاص لدعم الدول التي وقفت بجانب الاحتلال في عدم التصويت على إلغاء قرار الاعتراف الأمريكي بالقدس في الأمم المتحدة، حيث لم يجد نتنياهو طريقاً آخر غير المال وتوريد اقتصاد عالي التقانة لشراء ذمم الدول، واستغلال حاجتها المالية والتقنية.
وبدأ الاحتلال جهوداً دبلوماسية واسعة النطاق، إضافة لاستخدام القوة الناعمة في ابتزاز الدول المحتاجة لنقل سفاراتها إلى القدس، فقد قالت نائبة وزيرة خارجية الاحتلال تسيبي هوتوفلي: “نحن على اتصال بعشر دول على الأقل بعضها في أوروبا، لتنقل سفاراتها إلى القدس بعد قرار واشنطن”.
“اتصالات فقط وليس مفاوضات مع الدول الأوروبية”، هكذا صرحت هوتوفلي، ولكن الاحتلال يبذل جهوداً دبلوماسية مع بعض الدول الأوروبية لنقل سفاراتها لكنه لن ينجح لأن الموقف الأوروبي موحد وحازم باتجاه القضية الفلسطينية وحل الدولتين.
يسود امتعاض أوروبي شديد من السياسة الأمريكية القديمة في عهد أوباما أو الجديدة في عهد ترامب
هل يستطيع الاحتلال اختراق الموقف الأوروبي الموحد؟
رامي عبده رئيس المركز الأورو متوسطي والمختص في العلاقات الأوروبية الفلسطينية رأى أن الاحتلال الإسرائيلي لن يستطيع التأثير على قرار الاتحاد الأوروبي الموحد بشأن القدس.
وقال عبده لـ نون بوست: “الأوروبيون امتعضوا من خطة كيري سابقاً بشأن فشل عملية السلام، التي دفعوا لأجلها مليارات الدولارات، وفور فوز دونالد ترامب أكد الأوروبيون على موقفهم الثابت بشأن حل الدولتين، وعدم المساس بوضع القدس باعتبار القدس الشرقية عاصمة لفلسطين”.
وأضاف عبده أن “الاحتلال الإسرائيلي يحاول إحداث خلخلة في الموقف الأوروبي الموحد، لكن السياسة الخارجية الأوروبية باتت في الفترة الأخيرة على خلاف تام مع السياسة الخارجية الأمريكية وفي تعارض واضح لسياسة ترامب بشأن القضية الفلسطينية”.
وأكد عبده أن فرص نجاح اختراق الموقف الأوروبي بشأن القدس معدومة، وكل محاولات الاحتلال الإسرائيلي بشأن احداث اختراف في الموقف الأوروبي ستفشل، لذلك سيسعى الاحتلال للتأثير على بعض الدول غير المؤثرة كتشيكوسلوفاكيا، ولكن التركيز الإسرائيلي سيصب في دول أمريكا اللاتينية إضافة لأفريقيا”.
ويسود امتعاض أوروبي شديد من السياسة الأمريكية القديمة في عهد أوباما أو الجديدة في عهد ترامب، فالأوروبيون يتخوفون من سقوط مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان والقرارات الدولية التي صدرت لصالح الفلسطينيين وحق تقرير مصيرهم، واحتراماً لهيبة المنظمات الدولية التي أضحت فلسطين عضواً في عدد مهم منها، إضافة لتقديم الدعم الأوروبي التنموي والإغاثي على أساس إقامة دولة فلسطينية، حيث يعتقد الأوروبيون أن السياسة الأمريكية تنحاز بالكامل للاحتلال الإسرائيلي على حساب حقوق الفلسطينيين وحريتهم.
صوتت البرازيل الدولة الأهم اقتصادياً مع تشيلي وفنزويلا والأورغواي ونيكاراغوا وكوبا ضد قرار ترامب خوفاً من موقف ينافي قرارات الأمم المتحدة السابقة بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وهي الدول التي عانت من حقبة استعمارية طويلة
وكان اتحاد نقابات عمال دول الاتحاد الأوروبي إضافة لمواقف رسمية من دول الاتحاد دعت بشكل واضح لمقاطعة جميع البضائع التي تنتجها مستوطنات الاحتلال الإسرائيلي باعتبار مناطق غير شرعية تتبع للسلطة الفلسطينية، ومخالفة للقانون الدولي.
وأكد قادة 28 دولة للاتحاد الأوروبي في 14 ديسمبر 2017 أن وضع القدس يبقى ثابتاً بعد قرار الرئيس الأمريكي، فقد كتب رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك في 14-12-2017 على تويتر أن ” قادة الاتحاد الأوروبي يكررون التزامهم الراسخ بحل الدولتين، وفي هذا الإطار فإن موقف الاتحاد الأوروبي حول القدس يبقى ثابتاً”.
الوجهة البديلة أمريكا الوسطى
في اللحظة الأولى لإعلان دولة غواتيمالا نقل سفارتها من “تل أبيب” للقدس المحتلتين، وتصويتها لصالح القرار الأمريكي، يترقب الاحتلال الإسرائيلي مواقف مشابهة من دول أمريكا اللاتينية، لكن الدول الكبرى والمحورية في أمريكا اللاتينية والوسطى إما امتنعت عن التصويت أو صوتت ضد قرار ترامب.
وفي الوقت الذي امتنعت فيه الأرجنتين والمكسيك والبارغواي وبنما عن التصويت، صوتت البرازيل الدولة الأهم اقتصادياً مع تشيلي وفنزويلا والأورغواي ونيكاراغوا وكوبا ضد قرار ترامب خوفاً من موقف ينافي قرارات الأمم المتحدة السابقة بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وهي الدول التي عانت من حقبة استعمارية طويلة.
في هذا السياق قال حسام العزب المختص في القانون الدولي الإنساني لـ نون بوست إن “دول أمريكا اللاتينية صوتت ضد قرار ترامب لمخاوفها على مصير حقوق الانسان والمنظمات الدولية التي ضبطت سياسة الفوضى والتفرد التي اتبعتها الولايات المتحدة ما قبل الحرب الباردة وبعدها على الأقل، هي لا تريد مواقف مناهضة لحقوق الانسان تؤثر على استقرار بلادها في المقام الأول”.
استخدم الاحتلال الإسرائيلي الأداة الاقتصادية للتأثير على اتخاذ القرارات في الدول الأفريقية، من خلال المعونات الاقتصادية والفنية والعسكرية والتدريب الأمني
ولم يخف العزب مخاوفه من اقدام الاحتلال الإسرائيلي بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية بابتزاز بعض دول أمريكا اللاتينية الصغيرة بالمال والاقتصاد عالي التقانة للانسياق نحو قرار ترامب ومحاولات نقل سفاراتها وأضاف: “هناك دول ذات مكانة اقتصادية كبيرة ومهمة كالبرازيل، ولا أعتقد أن ينجح الاحتلال الإسرائيلي بالضغط عليها، كما أن الجماعات الفلسطينية الضاغطة في السنوات الأخيرة وحملات المقاطعة ضد الاحتلال الإسرائيلي لعبت دوراً مهماً في التأثير على الشعوب اللاتينية المناصرة للفلسطينيين وعلى المستوى الرسمي في نفس الوقت”.
وحول الوجهة البديلة قال العزب: “أعتقد أن الاحتلال الإسرائيلي سيخوض حرباً طويلة ممتدة لسنوات لتحقيق جزء من قراره على أرض الواقع، لكن التسارع في الأحداث السياسية في المنطقة العربية سيحول دون تحقيق أهدافه، إذ أن غالبية الدول اليوم في موقف مقارب لموقف الاتحاد الأوروبي من القضية الفلسطينية بحل الدولتين وتحقيق الاستقلال، لذلك ستتركز الجهود أيضاً على أفريقيا”.
إفريقيا السهل الممتنع
تعاني دول كثيرة في إفريقيا من الفقر المدقع، حيث يموت سنوياً قرابة المليون شخص نتيجة الأمراض العابرة للحدود أو الفقر أو الحروب، وقد لعبت تجارة السلاح والألماس والدعم العسكري والاستخباراتي والاقتصادي منذ سنوات طويلة دوراً مهماً في تدخل الاحتلال الإسرائيلي بإفريقيا.
ولم يكن الاحتلال الإسرائيلي بعيداً في يوم من الأيام عن إفريقيا، فهي ذات حضور قوي في أديس أبابا ونيروبي وكمبالا، وعشرات الدول من خلال إقامة علاقات قوية مع حكومات تلك الدول بعد استغلال حاجة الدول الإفريقية للمساعدات الاقتصادية، وقد أنشأ الاحتلال الإسرائيلي المؤسسة الدولية للتعاون والتنمية لتقوم بمهاب الربط بين مؤسسات الدولة وشركات القطاع الخاص لتحقيق أهداف سياسية خصوصاً في القرن الإفريقي.
ليس من السهل بمكان انتزاع مواقف سياسية تؤيد نقل سفارات الدول الإفريقية للقدس، والاعتراف بها عاصمة للاحتلال الإسرائيلي في الوقت الذي ما تزال تلك الدول تعاني حتى الآن من التهميش والظلم وتبعات الاستعمار السابق
وقد استخدم الاحتلال الإسرائيلي الأداة الاقتصادية للتأثير على اتخاذ القرارات في الدول الأفريقية، من خلال المعونات الاقتصادية والفنية والعسكرية والتدريب الأمني، إضافة لخلخلة أنظمة الحكم في بعض الدول، فتجارة السلاح الإسرائيلي في إفريقيا تعتبر الأكبر، وتحت دعم وتأييد الولايات المتحدة الأمريكية التي ترى أهمية تعزيز دور الاحتلال الإسرائيلي كحليف وشريك محوري يقلل من التأثير الفرنسي في إفريقيا.
لكن هل تنجح الأداة الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي في التأثير على قرارات الدول بشأن انتزاع مواقف سياسية داعمة لموقف ترامب؟
في السياق التاريخي يعتري الاحتلال الإسرائيلي عقدة الاعتراف بوجوده منذ نشأته، فهو شكل حديث من أشكال الاستعمار التي عانت منها الدول الإفريقية، وأدت إلى نهب ثرواتها وقتل مواطنيها، ويظل نموذج جنوب إفريقيا حاضراً كشعار للتحرر والديمقراطية وحقوق الانسان في كل دول القرن الإفريقي، لذلك ليس من السهل انتزاع مواقف سياسية تؤيد نقل سفارات الدول الإفريقية للقدس، والاعتراف بها عاصمة للاحتلال الإسرائيلي في الوقت الذي ما تزال تلك الدول تعاني حتى الآن من التهميش والظلم وتبعات الاستعمار السابق.
وسيكون للدول الأوروبية في الشمال الإفريقي دوراً مهماً لانتزاع مواقف سياسية ضد الاحتلال الإسرائيلي كالمملكة المغربية التي عززت نفوذها عبر مشاريع تنموية واتفاقيات شراكة مع عشرات دول الاتحاد الإفريقي، كذلك مصر والجزائر، واللواتي يقفن العقبة الأهم أمام الاحتلال الإسرائيلي في التفرد بقرارات الدول السياسية.
وتظل أي خطوات سياسية تتخذ بعيداً عن الأمم المتحدة كنقل سفارات الدول من تل أبيب إلى القدس فاقدة الشرعية على مدار الزمن، وهو ما يعزز نقطة البداية الأولى أن الاحتلال الإسرائيلي يعاني من عدم شرعيته.