تردّدت قليلا قبل حسم أمري بالمشاركة في حملة “عربيات ضد التطبيع” التي أطلقتها مجلة ميم، المهتمة بشؤون المرأة العربية عبر منصاتها الإلكترونية، تزامنا مع الأحداث الكبيرة الأخيرة المتعلقة بالقدس.
لم يكن تردّدي رفضا لمبدأ الحملة بالتأكيد، ولكن نفورا مزمنا من كل ما هو نسوي خالص في شأنٍ لا يحتمل ذلك عموما، كشأن القدس على سبيل المثال. لكن ما شجعني لاحقا على نية المساهمة في الحملة المستحقة هو إيماني بضرورة استثمار كل القنوات الممكنة لرفع الوعي العام تجاه هذه القضية المصيرية، وخصوصا في ظل هجمة غريبة ومفاجئة من التصهين الفردي الذي بدأ يعلن عن نفسه ببجاحة غير معتادة.
وأظن أن ذلك أحد أسباب تفكير القائمات على هذه الحملة بها، بالإضافة إلى توكيد فكرة تمكين المرأة لنفسها بنفسها في كل مناشط الحياة، حتى وإن كان ذلك عبر مزيد من الانغماس في النسوية، إن كان هذا هو خيارها الشخصي. وهو ما عبرت عنه رئيسة تحرير “ميم”، سمية الغنوشي، عند إعلان الحملة بالقول: “نحن العربيات مخوّلات لتحديد قضايانا وأولوياتنا بأنفسنا، من دون وسيط يتاجر بنا، ولا وصي يقامر بمصير أمتنا”. وهذا هو ما يمكن أن يصرح به العرب، الرجال، حرفياً أيضاً.
ومن هذه النقطة، كانت مساهمتي المتواضعة التي تمثلت برأيي الذي طالما أعلنت عنه، وها أنذا أكرّر أهم عناصره، بالإشارة إلى أنه لا يمكن النظر إلى الأصوات الخليجية المؤيدة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، إلا باعتبارها الشذوذ الذي يؤكد قاعدة تاريخية وعميقة الجذور، ومترسخة في وجدان المواطن العربي في كل الأقطار العربية، وبالذات في دول الخليج.
إن العمل على رفع الوعي المجتمعي الثقافي على صعيد التعريف بمعنى التطبيع، وما سيؤدي إليه، في النهاية، يعتبر طريقا ضروريا، ولا بد من المضي فيه، وخصوصا أمام الأجيال الجديدة التي يُخشى أن تتأثر بمزاعم المنادين بالتطبيع
وإذا نظرنا إلى هذه الأصوات نفسها، لوجدنا أنها أصواتٌ مفتعلةٌ وجديدة، ولا تجد ساحة حقيقية لها بين الجماهير. بل لعلي أذهب إلى أبعد من ذلك، لأشير إلى أن هذه الأصوات الشاذة والقليلة لا تناقض واقعها الجغرافي والإنساني المحيط بها وحسب، بل تناقض نفسها أيضا.. فإذا بحثنا لوجدنا أن طروحات هؤلاء المنادية بالتطبيع مستحدثة بلا جذور، حتى في تاريخ الشخصية نفسها. وهذا يعني أن معظمهم غير مؤمن إيمانا حقيقيا بما ينادي به، بل هو ينفذ أجنداتٍ مشبوهة، ودخيلة على الثقافة الوطنية والإنسانية في بلدان الخليج. والدليل أن هؤلاء سرعان ما ينكشفون في أول نقاش حقيقي يجدون أنفسهم مضطرين لخوضه مع الآخرين حولهم، مهما كانت ثقافتهم.
وفي استقراء سريع لمنصات التواصل الاحتماعي، نجد أن أغلب هؤلاء لا يصمدون طويلا في أي نقاشٍ، ليس لأنهم لا يعتمدون على حقائق، في إغفالهم الحق الفلسطيني وحسب، بل لأنهم أساسا لا يعرفون المعنى الحقيقي للتطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل. ومما يطمئننا على أن هذه الأصوات، بعيدا عن أجوائها الصاخبة في منصات التواصل الاجتماعي، ليس لها أي وجود فاعل على الأرض، خصوصا أن من يعتقدون أنهم خصومهم من رافضي التطبيع بشدة ينتمون إلى مختلف التوجهات والخلفيات والتيارات الثقافية والسياسية والاجتماعية، ذلك أن قضية فلسطين قضيتنا كلنا، لا قضية الفلسطينيين وحدهم.
وأنا ممن يرون ضرورة التصدّي لهذه الأصوات الشاذة التي تنادي بالتطبيع مع الكيان المحتل بحزم شديد، وعدم الانسياق وراء الدعوات التي تنادي بقبولهم رأيا آخر، أو وجهة نظر مختلفة عن السائد، يحق لأصحابها ترويجها والمناداة بها، فالتطبيع خيانة، والخيانة ليست وجهة نظر، والتعامل مع العدو جريمة، والجريمة ليست رأيا آخر. خصوصا أن معظم قوانين البلدان العربية تعتبر التعامل مع العدو الصهيوني بأي شكل جريمة يعاقب عليها القانون فعلا.
وإذا كان تفعيل القانون ضد هؤلاء يعتبر وسيلةً جيدة لمواجهة جريمتهم الشنيعة، فإن العمل على رفع الوعي المجتمعي الثقافي على صعيد التعريف بمعنى التطبيع، وما سيؤدي إليه، في النهاية، يعتبر طريقا ضروريا، ولا بد من المضي فيه، وخصوصا أمام الأجيال الجديدة التي يُخشى أن تتأثر بمزاعم المنادين بالتطبيع، والتي تعتمد على تزوير الحقائق التاريخية، وتقديمها باعتبارها وجهات نظر تستحق أن تحترم. وليس بعد هذا الزيف زيف.