تعدّ الصعوبة في فهم الذات واحدةً من أكثر الأمور إحباطًا للنفس البشرية، وليس بأقل إحباطًا منها عدم القدرة عن التعبير عن الذات والنفس من خلال اللغة والكلام، فلا تستطيع أن تبوح بما يجول في ذهنك وعقلك لإحساسك بأنّ ثمة حاجزًا يقع بين عقلك وبين لسانك، وأنّ اللغة لا تنساب بسهولة كلما أردتَ الحديث عن نفسك، ما يخلق شعورًا كبيرًا بالإحباط والاستياء، أو قد يتطوّر لخلقِ شعورٍ بالوحدة، نظرًا لعدم القدرة على التواصل مع الآخرين.
يلعب الأدب دورًا كبيرًا في تطوير فهمنا لمشاعرنا وعواطفنا
وهنا يأتي دور الأدب خاصة الروايات، إذ يساعد في فهم المرء لنفسه بصورة أفضل، ويوفّر لنا مرجعًا أكثر دقة لما يحدث داخل أذهاننا وعقولنا، ولا نستطيع نحن في كثيرٍ من الأحيان إخراجه، لأسباب تتعلق بعدم فهمنا لذواتنا من جهة، وباللغة المستخدمة في التعبير عن أنفسنا من جهة أخرى.
يلعب الأدب دورًا كبيرًا في تطوير فهمنا لمشاعرنا وعواطفنا، إذ أنه يساعد على اكتشاف المشاعر التي يمكن لها أن تتشكّل في وعينا غير أنّها تحتاجٍ لدليل داخليّ لتمييزها وترجمتها وفهمها ومن ثمّ إيصالها للذات أولًا وللآخرين ثانيًا بطريقةٍ صحيحة وصورة حقيقية.
ونظرًا لأنّ اللغة المحكية تشكّل عائقًا كبيرًا في قدرة المرء على فهم ذاته وتحقيق أصالته، فنحتاج إذن لم يساعدنا بذلك، وهنا يأتي دور الأدب الذي يقوم بمهمّة كبيرة ورئيسيّة في تشكيل دليلٍ داخليّ ومرجعٍ سلسٍ يمكن لنا اللجوء إليه لفهم أنفسنا، فيمكن لأديبٍ جيّد أنْ يقودك من خلال شخصية خياليّة تمرّ بتجارب مختلفة ومشاعر كثيرة وتساؤلات عديدة لفتح بصيرتك ووعيك أكثر تجاه نفسك ومشاعرك وعواطفك وأفكارك وتساؤلاتك الكبيرة ومخاوفك الوجودية.
تساعد الروايات في تشكيل دليلٍ داخليّ ومرجعٍ سلسٍ يمكن لنا اللجوء إليه لفهم أنفسنا
هناك العديد من القيود أخرى في سبيل فهمنا لذواتنا تتعلق باللغة المستخدمة في التعبير عن أنفسنا، والمعرّضة أصلًا للتفسير الخاطئ، عوضًا عن أنها غير كافية للتعبير عن مجموعة كاملة من الأفكار والمشاعر للشخص الواحد، كما تشكّل الاستدلالات والاستعارات والمجازات مصدرًا رئيسيًّا من مصادر سوء الفهم. إضافةً إلى أنّ الكلمات والجمل غالبًا ما تكون غامضة وتحتمل أكثر من معنىً ممكن، لذا فإنّ التعبير عن أفكارنا ومشاعرنا من خلال اللغة قد لا يكون مُنصفًا تمامًا، ولهذا نحتاج الأدب والروايات.
خذ روايات دوستويفسكي على سبيل المثال لا الحصر، وتأمل كيف كوّنت بابًا واسعًا يستطيع القارئ من خلاله ولو قليلًا فهم ذاته ومشاعره وتعقيدات شخصيته وأفكاره من خلال إسقاط تلك التي لشخصيات الروايات على النفس. فقد استطاع دوستويفسكي بتعبيراته القوية رسم ملامح عميقة عن دواخل النفس البشرية، وصوّر بطريقة غنية الشخصية الإنسانية بتعقيداتها المكثّفة، وناقش البواعث الكاملة في اللاوعي البشريّ التي تقف خلف سلوكياتهم وأفعالهم ودوافعهم. جرّب أن تقرأ عدة مقاطع من روايته “الأخوة كارامازوف” وانظر كيف استطاع فيها الحفر عميقًا في تعقيدات النفس البشرية بكلّ غموضها وصعوبتها.
الأدب الجيد أو الرواية الجيدة تستطيع التركيز على جانبٍ من جوانب الحقيقة وتناولها ومعالجتها بطريقة تمكّننا من إدراك خفايا ذلك الجانب
وبقدر ما نقرأ أكثر، يزداد فهمنا لأنفسنا أكثر، فلا أبلغ من الأدباء في استكشاف خبايا النفس البشرية وتحويل ذلك لكلمات، ففي كتابات أحدهم قد تجد تعبيرًا جيدًا عن وحدتك، وفي أخرى عن أحلامك وطموحاتك، أو مخاوفك أو ترددك أو خوفك من الآخرين، أو عن قمع السلطات والمجتمع والعائلة من حولك، أو عن علاقاتك الاجتماعية والحميمية، وغيرها الكثير الكثير.
تساعد الروايات في تشكيل دليلٍ داخليّ ومرجعٍ سلسٍ يمكن لنا اللجوء إليه لفهم أنفسنا، فيمكن لفصل جيّد واحد من روايةٍ ما أنْ يفتح بصيرتك ووعيك أكثر تجاه نفسك ومشاعرك وعواطفك وأفكارك ومخاوفك وتساؤلاتك الكبيرة.
تأخذ شخصيات الروايات التي نقرأ عنها مكانة أكبر من كونها مجرد شخصيات روائية أو خيالية، وإنما نستطيع إسقاطها على واقعنا بما فيه من شخصيات ومعارف، أو على أنفسنا نحن، فنقارنها فينا أو نقارن أنفسنا فيها، فقد ترى نفسك في حدثٍ من أحداث تلك الرواية، أو قد تشعر أنّ ما تمرّ به شخصية ما يشبه إلى حدٍ ما ذلك الذي تمرّ به، وبالتالي قد ترسم لك تلك الشخصية خطوطًا خارجية لنفسك، حتى وإن لم تقدّم لك الحلول أو الأجوبة التي تبحث عنها، غيرَ أنها تقدّم لك ولو قليلًا فهمًا أقرب لذاتك الحقيقية بما فيها من مشاعر وعواطف وأفكار ومخاوف وانفعالات.
يصنع الأدب لنا فرصة ذهبية نستطيع من خلالها تجنيب أنفسنا الوقوع في بعض الأخطاء أو نصبح ضحايا لها
عوضًا عن أنّ عقولنا تعجز عن إدراك الحقيقة كاملة للأشياء أو تحصيل المعلومات التي نستقبلها من حولنا بشكلٍ تام، وبالتالي فإنّ الأدب الجيد أو الرواية الجيدة تستطيع التركيز على جانبٍ من جوانب الحقيقة وتناولها ومعالجتها بطريقة تمكّننا من إدراك خفايا ذلك الجانب، أو تجعلنا أكثر فهمًا لأحداثه وعواقبه وتفاصيله.
يصنع الأدب لنا فرصة ذهبية نستطيع من خلالها تجنيب أنفسنا الوقوع في بعض الأخطاء أو نصبح ضحايا لها، كما يهبنا إمكانية تسريع الوقت والسنوات، ما يجعل أمامنا فرصة لدراسة العواقب والمآلات قبل حدوثها، فما يمكن أن يحدث في حياتك خلال عقد من الزمان، تستطيع الرواية التركيز عليه في بضع صفحات، وبالتالي تقوم بتقليص كلّ ما هو طويل الأمد وتقدّمه بين يديك بشكلٍ متسارع وشبه واضح، الأمر الذي يساعدك على تقليص الاحتمالات الخاطئة التي يمكن أن تقع فيها، في حال عرفت كيف تقرأ تلك الاحتمالات طبعًا.
يشكّل الأدب، جنبًا إلى جنب مع السينما والأفلام، أفضل طريقة لمحاكاة واقعنا وتوضيح سيناريوهاته العديدة والمختلفة والتي يعجز العقل البشري عن إدراكها بشكلٍ كامل.