تحظى اللغات جميعها بأهمية كبيرة في التاريخ الثقافي والأدبي لجميع دول العالم، وتؤثر بشكل واسع على الهوية الاجتماعية، خاصة أن أبجديتها وأصوات أحرفها تسرد أحداث الحضارات الأولى والقديمة التي اندثرت معها أو تغيرت مع تبدل القوى الحاكمة في العالم.
طرأت العديد من التغيرات والتحولات السياسية والاجتماعية والدينية أيضًا على المنطقة العربية، ونتيجة لهذه الحركة حدث تبادل واختلاط لغوي بين الثقافات، من تبعياته اختفاء بعض اللغات بشكل كامل عن وجه الشعوب، وهذا لأسباب مختلفة ومنها حركات الهجرة والفتوحات الإسلامية والاستعمار الأجنبي، ومن أهمها:
اللغة القبطية في مصر
كتبت اللغة المصرية القديمة على أوراق البردي وجدران المعابد، وكانت عبارة عن رسومات أو إشارات عرفت بالإيديوجرام، أو على شكل أصوات وسميت فونوجرام، وبعدها بدأ المصريون باستخدام الخط الهيروغليفي في الكتابة، لكن لصعوبته وكثرة إشاراته، اخترعوا الخط الهيراطيقي وهي تسمية يونانية معناها “الكتابة المقدسة”، وأول من كتبه الكهنة، لذلك يسمى بالخط الكهنوتي، ومن ثم استخدم المصريون الخط الديموطيقي أي “الشعبي” حتى القرن الخامس الميلادي.
وبعدها وجد المصريون أن اليونانيين يكتبون 25 حرفًا، بينما يكتبون هم بالآلاف من الإشارات والعلامات، لذلك استعانوا بالحروف اليونانية حتى تشكلت اللغة القبطية، وللغة القبطية عدة لهجات وأهمها اللهجة البحيرية المستخدمة حاليًّا في الكنائس واللهجة الصعيدية والفيومية والأخميمية، مع العلم تعود أقدم بردية للغة المصرية إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وتشتمل على قائمة مفردات قبطية بحروف يونانية.
وتعد كلمة قبطي تعريب لاسم مصر باليونانية “إيجيبتوس”، وعند دخول الإسلام والعرب إلى مصر وجدوا أن اهلها ينطقون اسم البلد “إيجيبتوس” فحذفوا أول حرفين وآخر حرف، وقلبوا حرف الجيم إلى قاف حتى أصبحت “قبطي”، وأطلقوا على المصريين اسم الأقباط، ومن ثم أخذت هذه التسمية منحى ديني للمصريين الذين بقوا على الدين المسيحي.
مُنِع التعامل بالقبطية نهائيًا في المنازل والشوارع والمؤسسات، ويفسر البعض حظر التعامل باللغة القبطية في مصر بأنه سياسة ممنهجة لإضعاف القومية القبطية عند المصريين وتمكين العرب في المنطقة بالمقابل، حتى أصبحت اللغة القبطية محصورة بالكنائس
وعندما دخل العرب إلى مصر، بدأت اللغة العربية تحل مكان اللغة القبطية، بسبب رغبة الشعب في تخطي مشكلة اللغة والتواصل مع حكام العرب دون استخدام المترجمين، حتى أصبح تعلم اللغة العربية أمرًا رسميًا من والي مصر عبد الله بن مروان في القرن الثامن ميلادي الذي أقر باستخدام اللغة العربية في الدواوين والمصالح التجارية، وفصل كل من لا يتكلم العربية في عمله أو لا يعتنق الدين الإسلامي.
بالإضافة إلى نظام الارتباع وهو يعني قضاء العرب فصل الربيع في مناطق الريف المصري، فلقد كان العرب يختارون أي منزل مصري ليدخوله أو يقيموا فيه لمدة ثلاثة أيام، ومصادر أخرى تقول 3 أشهر كل عام، وعامل آخر أدى إلى اندثار اللغة وهو زواج العرب من المصريات ودخول اللغة العربية إلى كنائسها، وتزايد عدد الأقباط الذين اعتنقوا الإسلام.
في عام 997 ميلاديًا منع التعامل بالقبطية نهائيًا في المنازل والشوارع والمؤسسات، ويفسر البعض حظر التعامل باللغة القبطية في مصر بأنه سياسة ممنهجة لإضعاف القومية القبطية عند المصريين وتمكين العرب في المنطقة بالمقابل، حتى أصبحت اللغة القبطية محصورة بالكنائس والكتب التي وجدت في ذاك الوقت.
بدأت مرحلة إصلاح وتطوير اللغة القبطية في عصر التنوير، واختلفت هذه الأنظمة حتى أمر البابا كيرلس الرابع ببناء معهد تعليمي للغة القبطية، وكان يصرف رواتب للكهنة الذين يتقنون اللغة القبطية، كما عين لجنة مسؤولة عن ضبط نطق الحروف ذات الأصل اليوناني القديم عن النطق الحديث.
وبجانب هذه المحاولات للمحافظة على ما تبقى من اللغة القبطية، ألف أقلاديوس بك لبيب أول كتاب لقواعد اللغة القبطية، وطبع كتب كثيرة للكنيسة ونشر تعليم اللغة القبطية، لأن الأقباط يعتقدون أن ضياع هذه اللغة هو ضياع لهوية الكنيسة.
وفي القرن العشرين الميلادي عام 1936 اكتشف عالمان عددًا من الأشخاص في عائلات معينة بقرية الزينية بالقرب من الأقصر، ولا يزالون يتحدثون اللغة القبطية في حياتهم اليومية.
اللغة الأمازيغية في شمال إفريقيا
هي لغة قبائل البربر التي سكنت شمال إفريقيا، ابتداءً من واحة سيوة في مصر وانتهاءً بدولة موريتانيا، وتنتمي إلى عائلة اللغات الأفروآسيوية التي تعود إلى أصل سومري مندثر، ويذكر أنها كانت اللغة الأم لمجموعة من الشخصيات البارزة في التاريخ الإسلامي مثل طارق بن زياد وعباس بن فرناس والرحالة ابن بطوطة.
وتسمى كتابة الأمازيغيين بتيفيناغ أو تفنغ وقد وصلت هذه الكتابة عبر مجموعة من النقوش والصخور وشواهد القبور التي وصلت إلى أكثر من 1300 نصًا على القوالب الحجرية، ويرى الباحثون أنها مشتقة من فينيق وفينيقيا أي أنها مقتبسة من الأبجدية الفينيقية الكنعانية، وتتكون اللغة من 33 حرفًا، ولها لهجات متعددة تختلف بين أمازيغية المدن الساحلية والوسطى وأمازيغية مالي والنيجىر والمغرب العربي، ومنها تاريفيت وتمازيغيت وتاشلحيت.
ولكونها لغة قديمة يُتحدث بها في جميع أنحاء شمال إفريقيا، تستخدم الأمازيغية في الغالب الحروف اللاتينية، مع ذلك، ففي باتنة في شمال شرق الجزائر، تستخدم مدارس قليلة الحروف العربية، وفي جنوب الجزائر، تستخدم بعض الدورات التدريسية الخط البربري الخاص بتيفيناغ.
كان ممنوعًا في المغرب منح الأطفال أسماء أمازيغية، إضافة إلى خطأ آخر وهو عدم محاولة الأمازيغيين القدماء وضع قواعد لغوية ونحوية واضحة للغتهم، مما جعلها سهلة الضياع، إضافة إلى الصراع الحضاري بين الأمازيغيين والحضارة أو الثقافة الوافدة
لم يطلق على اللهجات البربرية اسم أمازيغية إلا مع بوادر الاحتلال الفرنسي لشمال إفريقيا، ويقال إنه ليس لها وجود على أرض الواقع، فهي لغة مصطنعة تم تصميمها في المخابر اللغوية، وبحسب موسوعة ويكيبيديا، فهناك نحو مليوني مهاجر أمازيغي في أوروبا، ويشكل المغاربة والجزائريون شريحة مهمة من الأمازيغ المهاجرين، وأكبر عدد من الناطقين بالأمازيغية موجودين في المملكة المغربية التي اعتمدتها كلغة رسمية ثانية إلى جانب اللغة العربية.
في البداية، كانت اللغة تتكون من 16 حرفًا صامتًا وصارت بعد ذلك 23 حرفًا حتى وصلت إلى 33 حرفًا، منها 29 حرفًا صامتًا و4 صوائت، وكتبت من الأعلى إلى الأسفل حتى القرن التاسع عشر الميلادي الذي تحولت فيه الكتابة من اليمين إلى اليسار على غرار اللغة العربية، وهي لغة غير كتابية بالأساس، لكن البعض من البربر كتبها بالحروف اللاتينية، وكتبت لمدة 14 قرنًا بالحرف العربي.
وبعد دخول الإسلام إلى هذه المنطقة واعتناق سكانها الإسلام، اضطروا إلى تعلم العربية لأداء العبادات والقيام بالشعائر الإسلامية، وظهرت مظاهر تعريب دول شمال إفريقيا عندما تبنت اللغة العربية كلغة رسمية في مختلف البلاد دون فقدان الطابع الأمازيغي للدولة، فاللغة العربية أثرت على حضور اللغة الأمازيغية من الناحية الثقافية لكنها لم تغير التركيبة الاجتماعية، وتأثيرها ما زال واضحًا في صوت اللهجات العربية المغاربية.
في عام 2011 تم الاعتراف رسميًا باللغة الأمازيغية
أما عن أسباب تراجع عدد المتحدثين بهذه اللغة فهي بسبب السياسات التي توالت على حكومات دول شمال إفريقيا التي كانت معادية للغة الأمازيغية، وحظرتها لسنوات طويلة، فلقد كان ممنوعًا في المغرب منح الأطفال أسماء أمازيغية، إضافة إلى خطأ آخر وهو عدم محاولة الأمازيغيين القدماء وضع قواعد لغوية ونحوية واضحة للغتهم، مما جعلها سهلة الضياع، إضافة إلى، الصراع الحضاري بين الأمازيغيين والحضارة أو الثقافة الوافدة.
وتحدث الأمازيغيون بالأمازيغية لكن دائمًا كانوا يكتبون بلغة الوافد، وعندما جاء الإسلام، انتشرت اللغة العربية بسبب سيطرة العرب على المؤسسات الإدارية ولإنجاز هذه المعاملات كان لا بد من تعلم اللغة العربية، وضعفت الحضارة الأمازيغية نتيجة لاحتكاك الحضارتين.
لكن في عام 1994 جاء قرار من الملك الحسن الثاني بتدريس الأمازيغية في المدارس، وفي عام 2003 وضع ابنه الملك محمد السادس الخطة في طور التنفيذ، وأنشأ معهدًا لتعليمها وبالمشاركة مع مجموعة من الباحثين حاولوا إيجاد أبجدية موحدة لكتابة هذه اللغة التي تشتمل على العديد من اللهجات التي تم تناقلها شفاهيًا لآلاف السنين، فهي لغة غنية باللهجات المتجانسة جغرافيًا، وأخيرًا في عام 2011 تم الاعتراف رسميًا باللغة الأمازيغية.
السامرية
تعني اللغة العبرية القديمة، وتتكون من 22 حرفًا وتقرأ من اليمين إلى اليسار، وهي لغة الرموز والإشارات التي كانت مستخدمة من الإنسان، وتحولت خطوة خطوة إلى لغة الرسوم، ثم لغة الكتابة، لذلك فإن كل حرف من حروف اللغة العبرية القديمة يشبه عضوًا من أعضاء جسم الإنسان، فحرف الراء مثلًا يدل على الرأس.
ويقال إن السامريين يملكون أقدم نسخة خطية موجودة في العالم يعود تاريخها إلى 3633 سنة، وهي مكتوبة بالعبرية القديمة، وبالنسبة إلى اللغة العبرية اليهودية يرى السامريون أنها لغة آشورية تم تغييرها قبل نحو 2300 سنة، وهم مجموعة عرقية دينية تنتسب إلى بنى إسرائيل ويختلفون عن اليهود في دينهم، ومركزهم الأصلي مدينة نابلس في فلسطين.
اللغة الآرامية
ولدت هذه اللغة في سوريا منذ نحو 3000 عام، وهيمنت على مناطق عدة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وأوروبا وأمريكا الشمالية، وذلك ما بين عامي 200 و600 قبل الميلاد، وكتب بها التلمود فهي لغة المسيح، كما تأثرت بها مجموعة من اللغات الأخرى مثل اليونانية والفارسية والعبرية واللاتينية، كما أنها تعتبر أصل الأبجدية العربية، هذا وأشارت النقوش الأثرية المكتشفة إلى وجود ما يقارب 3000 نقش مكتوب بالآرامية في مدينة تدمر إضافة إلى نصوص قديمة أخرى موجودة في عدد من المواقع الأثرية.
تطورت الكتابة الآرامية في القرن السابع قبل الميلاد وأسست أبجدية خاصة بها، ومن خلال الوصول إلى بعض النصوص التي تعود إلى القرنين التاسع والعاشر قبل الميلاد، فمن الواضح أن اللغة الآرامية التي تأثرت مسبقًا بالكتابة والأبجدية الكنعانية قد طورت لغتها كثيرًا، متخلية عن الألفاظ الكنعانية، لكنها اقتبست الخط منها، الأمر الذي أصبح مصدرًا لمعظم الكتابات الحاليّة، فلقد انتشرت إحدى صيغه في آسيا الوسطي ومن ثم انتقل إلى اليونان التي بدورها أصبحت مصدر الأبجدية المستعملة في أوروبا والكتابات القبطية في مصر، وكتابات أخرى كثيرة مثل الأرمنية التي جاءت منها الكتابة الجورجية، إلى جانب انبثاق الكتابة العربية منها واستخدامها في اللغة الفارسية والتركية القديمة.
وهناك أربع أقسام للغة الآرامية، منها: الآرامية القديمة وهي حديث سكان شمال سوريا التي تعود إلى القرنين ما بين الثامن والعاشر، واللغة الرسمية التي تم تداولها في الدوائر الرسمية والحكومية والمؤسسات الإدارية في العراق وإيران، ووجدت كتاباتها في اليونان وأسوان في مصر، والجزيرة العربية وفلسطين.
أما الآرامية الغربية، فلقد نافستها اللغة العربية بقوة مع قدوم المسلمين إلى المنطقة، لكنها استمرت في الانتشار والبقاء، فهي لا تزال محكية في بعض الأماكن في سوريا لكن بصيغة مختلفة، إضافة إلى الآرامية اليهودية التي نشأت في جنوب سوريا وفلسطين، وغيرها مثل السامرية والبابلية والشرقية.
اللغة الآرامية فيها تشابه كبير باللغة العربية من حيث ربط الحروف ببعضها والمفردات والتراكيب وأقسام الكلام والحركات، وبالنسبة إلى الاختلافات فيما بينهما فاللغة الآرامية لا يوجد فيها ال التعريف
ولا تزال اللهجات الشرقية محافظة على وجودها في شمال شرق سوريا وشمال العراق وبعض الدول الغربية، وهذا من خلال الأشخاص الذين نزحوا إلى أمريكا أو أوروبا، إلى جانب وجود بعض المدارس التي تحاول إحياء هذه اللغة في بيت لحم في فلسطين، وبالتحديد، تستخدم الآرامية في المدن ذات الأغلبية المسيحية لاعتزازهم بلغة المسيح وكتابهم المقدس، ففي بعض الكنائس ترتل الصلوات بنفس الألفاظ التي تحدثها بها المسيح.
تتكون هذه اللغة من 22 حرفًا، ومن جانب الأرقام فهي تبدأ من الواحد وليس من الصفر كما في اللغات الأخرى، ولها لهجات متعددة كالمندعية والتدمرية والنبطية والحضرية، وفيها تشابه كبير باللغة العربية من حيث ربط الحروف ببعضها والمفردات والتراكيب وأقسام الكلام والحركات، وبالنسبة إلى الاختلافات فيما بينهما فاللغة الآرامية لا يوجد فيها ال التعريف، هذا وتعد اللغتان الآرامية والسبأية الوحيدتان اللتان تحتويان على 22 حرفًا بدلًا من 28 كاللغات السامية الباقية.
بدأت اللغة الآرامية بالتراجع تدريجيًا مع قدوم اللغة العربية، وانزوت تمامًا في القرن الرابع عشر ميلادي، وانحصرت في الأديرة والكنائس والمدارس الدينية التي اختارت أن تنشر هذه اللغة على نطاق ثقافي أوسع من الصعيد الديني، كما بقيت الآرامية لغة محكية بالنسبة للكثير من الأجيال، ولكن حاليًّا هناك جهود مختلفة لتعليمها قراءة وكتابة.