كعادة كل قائد عسكري عندما يشعر بالقوة، يبدأ في التململ من الآليات الديمقراطية، وخصوصًا في بلدان العالم الثالث، حيث الحجج الدسمة من نوع لا يوجد تعليم ولا ثقافة ولا تنوير يطول عموم الشعب بما يؤمن مستقبل البلاد من التلاعب بها، هكذا كانت مسببات خليفة حفتر قائد أكبر قوة عسكرية في الشرق الليبي، لإعلانه انتهاء صلاحية اتفاق الصخيرات السياسي الداعي برعاية إقليمية ودولية، إلى عقد انتخابات رئاسية هذا العام، قبل أن يصطدم الرجل برفض عالمي وإقليمي، لم يكن يتصوره، ولا يبني حساباته عليه.
غرور القوة جعل حفتر يتخيل أنه مستقل الرؤية عن محيطه، وهو ما دعا حلفاءه وعلى رأسهم مصر وفرنسا، لرفض مشروعه في حكم البلاد عبر تفويض شعبي، بدلاً من خوض انتخابات رئاسية، حتى يرى ويفتح طريقًا للعالم من خلفه لمعرفه حجم شعبية الرجل على أرض الواقع.
صدمة حفتر الذي كان يرفض في نبرة تحدٍ لم يكن واضحًا مصدر قوتها، إكمال الاتفاق السياسي الذي لم يعترف به يومًا، وفي لحظات عنتريه ربما لا تليق بالوضع في ليبيا، رفض الرجل الضغوط الدولية، إلا أنه سرعان ما تراجع، وأعلن على لسان متحدث قواته أحمد المسماري، أنه يرحب بخيار الانتخابات، شريطة أن تكون حرة ونزيهة وبإشراف قضائي، تخضع لمراقبة المجتمع الدولي، وكالعادة غلف خطاب القادة العظام ـ المنزهين عن الهوى – بتوقيعهم الشهير، باعتباره مثلهم لا يبحث عن سلطة.
كواليس القرار وعملية تحليله، تشير إلى أن التراجع جاء بعد نحو ثلاثة أيام فقط من اجتماعه مع وزير الخارجية الفرنسي جون إيف لودريان الذي نصحه بطريقة صارمة وحذره من مغبة عدم احترام الاتفاق السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة.
نوايا حفتر وأحلامه في حكم ليبيا من أسهل طريق، يبدو أنها بدأت تتضح لمؤسسات الحكم في فرنسا وغيرها من الدول الداعمة له، حيث سبق واتفق مع روما ومع السراج نفسه في باريس برعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبل عام على تنظيم انتخابات في 2018، ولكنه ضرب بكل هذه الوعود عرض الحائط.
لماذا تغير موقف مصر من حفتر؟
من مفارقات القدر وسوء حظ حفتر أن يجتمع وزراء خارجية الجزائر وتونس ومصر، في نفس اليوم الذي أعلن فيه انتهاء صلاحية الاتفاق، دول الجوار المعنية بالأزمة الليبية أكثر من غيرها، وأعلنوا بشكل واضح دعمهم لاتفاق الصخيرات الداعي إلى إجراء انتخابات في 2018، كان موقف الجزائر وتونس ليس مفاجئًا لأحد، بينما كانت الدهشة الكبرى من تأييد مصر وهي من أكبر الداعمين لحفتر لاتفاق الصخيرات، مما يضع الرجل على شفا عزلة دولية، بسبب تصديه لجهود الأمم المتحدة لإحلال السلام في ليبيا، ومساعيها لإنهاء المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد منذ إسقاط نظام معمر القذافي في 2011.
المثير في القضية أن صحف ووسائل إعلام الدول العربية الداعمة لحفتر، أنتجت مجموعة تقارير تشير إلى تغير واضح في علاقة صناع القرار في هذه الدول بالقائد العسكري الذي كان ملهمًا لهم لانتشال ليبيا من قبضة الإسلام السياسي والدول الداعمة له.
وعلى مدار أسابيع تحدثت صحف دولية مثل العرب والحياة، عن غموض الرجل إلى حد التناقض بشأن تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، فبينما هو يعلن للقوى الإقليمية والدولية دعمه للفكرة للخروج من المرحلة الانتقالية، إلا أنه على أرض الواقع يطلق العنان لأنصاره لعرقلة أي مساعٍ لإجرائها.
تعلم مصر جيدًا من التنسيقات العسكرية المتوالية مع حفتر حقيقة الأوضاع على الأرض، فالرجل لا يقدر على مواجه كتائب مصراتة حتى الآن، خصوصًا في ظل انقلاب كتائب الزنتان عليه
وعبر انتقادات لافتة، أشارت التقارير الصحفية إلى انتهاكات حفتر في عدة مناطق شرقي البلاد، خصوصًا بعدما تعرضت مراكز انتخابية للتخريب على يد أنصاره، وتزامن ذلك مع تنظيم حملة لجمع توقيعات تُفوض حفتر لرئاسة ليبيا “دون انتخابات”، وبطريقة مثيرة للاستغراب، أعلنوا سريعًا في نوفمبر الماضي، جمع قرابة مليون و300 ألف توقيع، مع أن سكان ليبيا لا يتجاوز عددهم 6 مليون و400 ألف نسمة.
مؤكدين أنهم سيرسلون كشوفات نتائج هذه التفويضات إلى الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية، وهو ما دعا للتشكيك في طريقة جمعها، ولم تفلح هذه الحيلة الهزلية في نزع شرعية لحفتر من المجتمع الدولي، خصوصًا أن الحملة قابلتها سخرية واسعة من ناشطين ليبيين على شبكات التواصل الاجتماعي.
وضع حفتر على الأرض.. قوة وهمية وتكتلات تهدد وجوده
يسيطر قائد الجيش الليبي على أغلب أراضي شرقي ووسط البلاد، إلا أن الحقائق الديموجرافية تؤكد أن الكتلة السكانية الرئيسية في البلاد توجد فعليًا في المنطقة الغربية التي لا تزال غير خاضعة لسيطرته، كما أن المنطقة الجنوبية هي الأخرى في معظمها ليست خاضعة لسيطرة قواته، مما يجعل نزع حفتر لبذلته العسكرية وخوضه انتخابات رئاسية، خيارًا غير مضمون النتائج، وهو الأمر الذي بات واضحًا لمصر، لذا كان قرارها بضرورة إحياء عملية توازن مع السراج الرجل الأقوى في المعادلة الليبية أمام العالم.
وتعلم مصر جيدًا من التنسيقات العسكرية المتوالية مع حفتر حقيقة الأوضاع على الأرض، فالرجل لا يقدر على مواجه كتائب مصراتة حتى الآن، خصوصًا في ظل انقلاب كتائب الزنتان عليه، وهي التي كانت من أكبر حلفائه في الغرب الليبي، بعدما اكتشفت أنها ستصبح مجرد تابع يؤتمر بأوامره، فكان قرارها بالانحياز للمجلس الرئاسي في طرابلس، ولكي تثبت حسن نواياها، قضت على نفوذ كتائبه في ورشفانة بالمنطقة الرخوة جنوب العاصمة قبل شهرين من الآن، وقطع سبل الاتصال كافة معه.
الشعب الليبي الذي تخلص من نظام عسكري حكمه لعشرات السنوات ويرى انعكاساته على الحرية والديمقراطية في بلدان مجاورة، لن يعود لخيار الحكم العسكري
وهم القوة الذي سيطر على حفتر والدعم المفتوح الذي تصوره من مصر، جعله يتخلى عن حليفه عقيلة صالح رئيس مجلس النواب، ودخل معه في خلافات ضارية، بعدما أعلن في 17 من ديسمبر الماضي، انتهاء صلاحية الاتفاق السياسي، مما يفقد الكيانات المنبثقة عنه والمتمثلة في مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، الشرعية، وهو الأمر الذي قلب عليه كل الأضداد في ليييا، وجعل مصر تدرك أنه أصبح “كارت محروق”، في ظل التصرفات الاستفزازية والصبيانية لأنصاره، وعلى رأسها غلق الباب الرئيسي للبرلمان، لمنع عقد جلسة كانت مقررة لتضمين الاتفاق السياس في الإعلان الدستوري وانتخاب محافظ جديد لمصرف ليبيا المركزي.
أنا أو الفوضى.. خطاب لم يعد صالحًا
لا يدرك المشير خليفة بلقاسم حفتر، صاحب الـ74 عامًا، أن تصريحاته الزاعقة التي تحاول ابتزاز الأمم المتحدة، عبر الحديث عن المنعطف التاريخي الذي تمر به البلاد، لن تسمح له بتمرير سيناريو إيصاله لكرسي الحكم بهذه السهولة وعلى رقاب جميع الفرقاء في ليبيا، مثل هذا النوع من الخطابات لم تعد يجدي، فالعالم يراقب بانتباه شديد ما يحدث في ليبيا، ويعلم جيدًا خطورة انزلاق بلاد عمر الختار مجددًا في صراعات مسلحة تهوي بها إلى مستنقع قد تمتد تأثيراتها إلى الأطراف الإقليمية والدولية.
نغمة أنا أو الفوضي، باتت مزمومة مجتمعيًا قبل أن تكون إشارة واضحة لدى القوى الدولية، يعرفون من خلالها الرغبة في تغليب الأطماع الشخصية على مصالح الوطن، بجانب أن هناك قوة مفرطة للسراج وتتنامي كل يوم عن الآخر في الداخل والخارج.
فالشعب الليبي الذي تخلص من نظام عسكري حكمة لعشرات السنوات ويرى انعكاساته على الحرية والديمقراطية في بلدان مجاورة، لن يعود لخيار الحكم العسكري، وليس وحده، بل إن الرسائل الورادة من المجتمع الدولي تشير إلى رغبة صارمة في عدم إعادة ليبيا إلى مربع الأنظمة العسكرية مجددًا، مما يعني أن مهمة حفتر شارفت على الانتهاء بعدما أصبح الرجل عبئًا على نفسه وعلى الجميع!