ليست مجموعة “طلائع التحرير”، والتي أعلنت عن تبنّيها مقتل المواطن الكندي الإسرائيلي زيف كيبر في الإسكندرية، هي الأولى في التاريخ المصري من حيث استهداف الإسرائيليين على الأراضي المصرية.
فقد شهد التاريخ المصري، لا سيما بعد حرب أكتوبر واتجاه النظام المصري بقيادة أنور السادات إلى التطبيع والسلام مع “إسرائيل”، عدة عمليات فردية وتنظيمية، ضد جنود وشخصيات إسرائيلية سواء داخل مصر أو حتى على حدودها مع الكيان المحتل.
هنا، وبإيجاز، نستكشف أبرز تلك العمليات والتنظيمات والشخصيات حتى وقتنا الحالي. ونبحث مستقبل هذه العمليات؟ هل تستمر أم تختفي بمجرد انتهاء الحرب الحالية في غزة؟
تاريخ المواجهة
كانت مواجهة المصريين للكيان الإسرائيلي، منذ مايو/ أيار 1948 وحتى أكتوبر/ تشرين الأول 1973، مواجهة رسمية تتبناها الدولة في حروب فاصلة واستنزافية، بدأت في عام 1948 ومرّت بمنعطفات مختلفة في عامَي 1956 و1967، وكان آخرها في حرب أكتوبر عام 1973.
بعد ذلك رفعت الدولة المصرية يدها عن مواجهة “إسرائيل” تاركة الفلسطينيين وحدهم، واتجهت نحو مشروع الانفتاح الاقتصادي فيما يُعرف بالنيوليبرالية، وعصر السلام والتقارب مع القطب الأمريكي ومصالحه في المنطقة.
لم يرضَ غالبية الشعب المصري بهذا التقارب، ولا باتفاقية كامب ديفيد مع “إسرائيل”، وشهدت الشوارع والبيوت المصرية صرخات السيدات المصريات من شرفاتهنّ عند افتتاح السفارة الإسرائيلية بالقاهرة.
كان الجرح والدم المصري المهدر بالسلاح الإسرائيلي على مرّ 4 عقود لم يبرد بعد، ما ولّد غضبًا كبيرًا لدى فئات مصرية كثيرة ومتنوعة. هذا الغضب الذي تُرجم فعليًّا حين ولد تنظيم “ثورة مصر”، والذي أسّسه ضابط المخابرات المصرية محمود نور الدين، الذي استقال من منصبه بعد زيارة السادات كنيست “إسرائيل” في القدس.
أسّس نور الدين، ومعه نظمي شاهين وحمادة شرف وسامي فيشة وخالد عبد الناصر (نجل جمال عبد الناصر)، التنظيم عام 1977، وبدأ من خلاله تنفيذ العمليات المسلحة ضد التواجد الإسرائيلي في مصر، خاصة حيال الشخصيات الدبلوماسية والرسمية الإسرائيلية، حيث نفّذ عدة عمليات بين عامَي 1982 و1987، قُتل خلالها 5 إسرائيليين وأُصيب نحو 12 آخرين.
شملت العمليات الهجوم على زيفي كيدار وهو أحد أعضاء الموساد، حين خروجه من بيته في حي المعادي في يونيو/ حزيران 1984، كما في أغسطس/ آب من العام الذي تلا الحادثة تم إطلاق النار من قبل التنظيم على ألبرت أتراكشي مسؤول الأمن بالسفارة الإسرائيلية، وفي مارس/ آذار 1986 نفّذ أعضاء التنظيم عملية داخل معرض القاهرة الدولي، اُغتيلت على إثرها مديرة الجناح الإسرائيلي إيلي تايلور، وغير ذلك من عمليات أخرى.
لكن لم يستمر التنظيم في تنفيذ عملياته، إذ تم القبض على أعضائه في سبتمبر/ أيلول 1987، وقد حُكم عليهم في العام ذاته بالسجن لمدة 15 عامًا، باستثناء خالد جمال عبد الناصر، والذي برّأته المحكمة من الاتهامات الموجهة إليه بشأن التنظيم، وفي عام 2002 أُفرج عن أعضاء التنظيم بعد قضاء مدة حكمهم، عدا زعيم التنظيم محمود نور الدين، فقد عانى من الإهمال الطبي داخل سجنه حتى مات عام 1998، قبل انقضاء مدة حكمه بـ 4 سنوات.
هذا فيما يخص العمليات التنظيمية، لكن نشطت أيضًا من بعد كامب ديفيد العمليات الفردية التي نفّذها جنود مصريون على الحدود ضد إسرائيليين، أشهرها حادثة جندي الأمن المركزي سليمان خاطر، والذي وجّه عام 1985 سلاحه صوب سياح إسرائيليين حاولوا تخطي نقطة حراسته في منطقة رأس برقة (جنوب سيناء).
وبعد أن حذّرهم مرارًا بالتراجع عن نقطة حراسته، أطلق الرصاص عليهم فقتل منهم 5 وأصيب 7 أشخاص، وسلّم نفسه للسلطات المصرية، وبعد أكثر من عام أعلنت الصحف المصرية خبر انتحار خاطر في سجنه، وسط شكوك كثيرة في قتله من قبل السلطات المصرية.
وفي يونيو/ حزيران 2023 كانت العملية التي ذكّرت المصريين، والعرب كلهم، أن مصر ما زال لديها جنود لا يعترفون باتفاقيات السلام، ويسيرون على درب محمود نور الدين ونظمي شاهين وسليمان خاطر وغيرهم ممّن استهدفوا الجنود والشخصيات الإسرائيلية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
إذ قام جندي الجيش المصري، محمد صلاح، باختراق السياج الحدودي الفاصل بين مصر و”إسرائيل”، واشتبك مع الجنود الإسرائيليين فقتل ثلاثة منهم، قبل أن يُقتل بتعزيزات إسرائيلية جاءت إلى موقع الاشتباك.
ولم يمضِ سوى 4 أشهر حتى بدأ “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر، والتي ألهبت مشاعر الكثير من المصريين للوقوف بجانب الفلسطينيين في قتالهم للمحتل، لا سيما بعد وحشية “إسرائيل” ضد الفلسطينيين المدنيين في الحرب، ما أدّى وبشكل فائق السرعة إلى مقتل سائحَين إسرائيليَّين ومرشدهما السياحي المصري بعد “طوفان الأقصى” بيوم واحد.
لم تكن العملية مخططًا لها كما في عملية محمد صلاح، لكن وجود السياح الإسرائيليين والتقاطهم الصور بالعلم الإسرائيلي في مدينة الإسكندرية، دفع فرد الشرطة المصري إلى تصويب طلقات سلاحه على أجسادهم.
في مايو/ أيار الجاري، وفي الإسكندرية أيضًا، عاد قتل الشخصيات الإسرائيلية، لكن هذه المرة بتخطيط وتنفيذ تنظيمي من قبل مجموعة أطلقت على نفسها “طلائع التحرير: مجموعة الشهيد محمد صلاح”، في دلالة إلى سيرها على خطى درب الجندي محمد صلاح.
ونفّذت الحركة عملية اغتيال رجل الأعمال الكندي الإسرائيلي زيف كيبر الذي يعيش في مصر، وأعلنت تبنيها للعملية عبر مقطع فيديو مصور خلال تنفيذ عملية الاغتيال، من خلال منفّذ العملية وهو يقول: “شالوم من أولاد غزة”، ما يعني أن الشباب المصري يساند ويقاتل مع أولاد غزة.
مستقبل المواجهة
عقد نظام السادات مع “إسرائيل” اتفاقية السلام، ومن بعده نظام مبارك الذي عُرفت حقبته بعهد السلام البارد مع “إسرائيل”، أي أنه لا تقارب ولا عداء أيضًا، لكن في عهد النظام الحالي بقيادة عبد الفتاح السيسي، شهدت العلاقات المصرية الإسرائيلية تقاربًا كبيرًا من حيث التعاون في الأهداف المشتركة.
يتمثل ذلك سواء في التضييق على حركة حماس، وتدمير النظام المصري الأنفاق التي تربط شمال سيناء بقطاع غزة، أو من خلال الاستعانة بالاستخبارات والقوات الإسرائيلية من قبل الجيش المصري للقضاء على تنظيم ولاية سيناء، وختامًا بالموقف المخزي للنظام المصري في حرب الإبادة الحالية، بالاستسلام للتعليمات الإسرائيلية في حصار قطاع غزة من خلال إغلاق معبر رفح، أو فتحه بشكل جزئي لا يكفي احتياجات سكان القطاع في ظل حرب التجويع الوحشية على سكانه.
هذا التقارب ولّد غضبًا لدى الكثير من فئات متنوعة داخل المجتمع المصري، ما جعلهم يسلكون الاحتجاجات السلمية للضغط على النظام المصري لمساعدة الغزيين ووقف الحرب، لكن قابل النظام هذه الاحتجاجات بالقمع، حيث قبض على العشرات من الشوارع والبيوت والنقابات وأمام مقرات الهيئات الأممية، واعتقلهم بتهم “دعم فلسطين” والتجمهر والتظاهر دون تصريح من الجهات المختصة بالدولة وتعطيل السلم العام، وغير ذلك من تهم ملفقة وملتفة.
دفع هذا القمع البعض من العاجزين عن دعم غزة إلى التفكير في تبني العمليات المسلحة ضد الإسرائيليين، سواء على الحدود المصرية أو حتى داخل مصر مثلما فعلت مجموعة “طلائع التحرير”، بما أن الاحتجاجات السلمية يقمعها النظام، كما أنه مصرّ على حصار غزة والتقارب مع السياسات الاحتلالية والإبادية الإسرائيلية.
لكن ربما لا تستمر هذه المجموعات في تنفيذ عملياتها لعدة أسباب، منها السبب ذاته الذي تسبّب في وجودها، وهو القمع، إذ تعمل الأجهزة الأمنية على تفكيك أي تنظيمات، ولو كانت صغيرة، تحاول تنفيذ أي عمليات مسلحة ضد “إسرائيل”.
فهي تمشط الحدود دائمًا وتقبض وتخفي وتقتل بشكل مباشر أي مواطن أو تنظيم صغير هو محل اشتباه في تنفيذ تلك العمليات، لا سيما على الحدود في منطقة سيناء، ويساعد الأجهزة الأمنية في ذلك شيوخ وكبار القبائل في سيناء، إذ يعملون مع الأمن في كشف أي مخططات أو أفكار راديكالية ضد الجنود الإسرائيليين.
أما في داخل مصر يحتاج تنفيذ العمليات المسلحة ضد الإسرائيليين مجهودًا استخباراتيًّا واستراتيجيًّا وأدوات رصدية وتنفيذية، ربما لا تستطيع عليها مجموعات شبابية صغيرة ليست لديها الخبرة العسكرية، كما كان في تنظيم الثورة لنور الدين محمود (1977)، أو تنظيم المرابطون بقيادة الضابط هشام عشماوي (2015)، فهذه التنظيمات كان يقودها ضباط وقيادات فرق مهمة منشقون عن الجيش المصري، فَتوفر لديهم الخبرة في تخطيط وتنفيذ العمليات العسكرية بأشكالها المختلفة.
أما المجموعات الشبابية الحالية، على غرار “طلائع التحرير”، وعلى الرغم من أنه لم يُعرف إلى الآن من أسّسوها، وما هي خلفياتهم المدنية أو العسكرية، لكن في حالة أنهم شباب مدنيون ليس لهم خبرة في العمل العسكري، سيقلّل ذلك حظهم في استمرار نشاطهم.
أما فيما يخص العمليات الفردية التي ينفذها جنود بشكل فردي من وقت لآخر، كما فعل محمد صلاح، أو حتى بواسطة مواطنين مدنيين مصريين داخل مصر، ربما تستمر، لا سيما في أوقات الحرب واشتداد المأساة الفلسطينية التي تلهب المشاعر الغاضبة، وتشجّع على اتخاذ أفعال المقاومة والقتال الفردية.
لكنها أيضًا سلاح ذو حدين من حيث تنفيذ الخطة ذاتها، فكونها خطة فردية لا يعلم عنها أحد، يصعب على أجهزة الأمن كشفها وإفسادها، وتكون نسبة نجاحها كبيرة، لكن في الوقت ذاته، وعلى جانب آخر، يصعب تنفيذها لأن العمل الفردي يتطلب مجهودًا شاقًّا وكبيرًا لتنفيذ أي عملية مسلحة، لا سيما حين تحتاج هذه العملية إلى معلومات ورصد سواء على الحدود المصرية أو داخل مصر.