من المهم أن نفهم وجهة نظر الجانب الصهيوني عن يوم مثل يوم النكبة، ذلك لأنه يُفسر الكثير من مظاهر البروباغندا الإسرائيلية التي سهلت لدولة الاحتلال سرقة فلسطين ثقافيًا والنجاح في الترويج لذلك إعلاميًا بمساعدة الصحافة الغربية الموالية لها والداعمة لمشروعها، حيث كانت النكبة بالنسبة للجانب الإسرائيلي بمثابة خطاب تحريضي غير دقيق الوصف من الفلسطينيين ليوم ميلاد دولة اليهود.
لم يكن ذلك مجرد ادعاء، فكان هذا تعريف المتحدث الرسمي للسفارة الإسرائيلية في العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي في خطابه للصحيفة الأمريكية “ذا نيويوك تايمز”، حيث لخص النكبة في كونها مجرد خطاب تحريضي من الفلسطينيين يزعم أن النكبة، التي تعني ميلاد قيام الدولة اليهودية بحسب كلامه، ما هي إلا يوم يعني لهم الهزيمة.
لم تكن هذه هي المرة الأولى من نوعها التي يتم فيها محاولة “تبييض” الحقيقة التاريخية أو الثقافية للشعب الفلسطيني، وبالطبع لم تكن المرة الأخيرة كذلك.
كانت تغريدة الطاهية الأمريكية رايتشل راي على حسابها الرسمي على تويتر حديث الساعة، حيث نالت العديد من الردود والانتقادات لما كان من محتوى التغريدة من تزييف للحقائق، حيث ادعت الطاهية الأمريكية أن الوجبات الموجودة في الصورة التي أرفقتها بالتغريدة من حمص وفلافل وخبز عربي وورق عنب “يبرق”، وجبات إسرائيلية وكتبت طريقة تحضيرها على الطريقة الإسرائيلية في تغريداتها.
Rachael Ray's "Israeli" holiday feast actually showcased traditional Palestinian and Arab food.
The cultural theft memes quickly followed: pic.twitter.com/2R3pRPEVf8
— AJ+ (@ajplus) December 27, 2017
رد المغردين على تويتر على تغريدة الطاهية الأمريكية والسخرية منها
لم يكن ما فعلته الطاهية مجرد تزييف فحسب، بل كان جزءًا من البروباغندا الإعلامية الغربية التي دعمت ومولت وشجعت المشروع الصهيوني على سرقة فلسطين ليس فقط جغرافيًا بل ثقافيًا أيضًا، حيث كانت الأرض والثقافة والتاريخ والموسيقى والملابس والطعام عرضة للسرقة والتزييف وتبييض الحقائق، ليساعد الإعلام الغربي على إتمام الجزء الأخير، وهو النشر المكثف لكل هذا التبييض والتزييف، حتى تبدأ شريحة كبيرة في تصديقه من بينهم العرب أنفسهم.
سرقة ثقافة الشعوب الأصلية
سرقة المحتل لثقافة الشعوب الأصلية صاحبة الأرض صفة من الصفات التي يتسم بها كل مستعمر في العصر الحديث، وهي المرحلة التي تأتي بعدما يهزم المستعمر الشعوب الأصلية ويحتل أرضهم ويوجد بشكل مُهيمن، حينها يبدأ التطهير العرقي للشعب الأصلي من الأرض ومن التاريخ أيضًا، وهو ما فعلته دولة الاحتلال الصهيوني منذ قيامها عام 1948 وحتى الآن.
” قيام دولة “إسرائيل” ارتبط بالتطهير العرقي للفلسطينيين قبل وفي أثناء وبعد النكبة عام 1948، وذلك من خلال تجريد فلسطين من عروبتها وتجريد الفلسطينيين من تاريخهم وتدمير الذاكرة الجماعية لديهم، وهذا لا يقل عنفًا عن التطهير العرقي والعنف الممارس فيه ضد الفلسطينيين”
هدف المشروع الصهيوني إلى التطهير العرقي للفلسطينيين من منازلهم وأراضيهم، كما هدف إلى تطهيرهم عرقيًا من التاريخ، ومحاولة مسح أي ذكرى لهم فيه، وهو الجزء الأهم من المشروع الصهيوني، فقوم بلا تاريخ قوم مهزومون بلا شك، ولكن الإسرائيليين حاولوا أن يكونوا أكثر ذكاءً، فهم لم يدمروا التاريخ والثقافة الفلسطينية، بل حاولوا أن يسرقوها.
فدولة مثل دولة الاحتلال قامت بعد تجمهر الآلاف من المشتتين من اليهود في بقاع الأرض من بلاد مختلفة ومعهم ثقافتهم ولغاتهم المختلفة وعاداتهم وموسيقاهم وطعامهم المختلف، لهذا كان وطن اليهود المزعوم في حاجة إلى ثقافة موحدة، من هنا كانت الثقافة الفلسطينية الأقرب إليهم والأسهل في السرقة.
يكتب المؤرخ والكاتب الفلسطيني نور الدين مصالحة في كتابه “فلسطين النكبة” أن “قيام دولة “إسرائيل” قد ارتبط بالتطهير العرقي للفلسطينيين قبل وفي أثناء وبعد النكبة عام 1948، وذلك من خلال تجريد فلسطين من عروبتها وتجريد الفلسطينيين من تاريخهم وتدمير الذاكرة الجماعية لديهم، وهذا لا يقل عنفًا عن التطهير العرقي والعنف الممارس فيه ضد الفلسطينيين، حيث كان القضاء على التاريخ الفلسطيني أساسيًا لبناء الهوية الإسرائيلية المزعومة”.
بداية السرقة
كانت الذاكرة الفلسطينية سلاحًا خطيرًا بالنسبة للجانب الصهيوني، وشيء يجب عليهم السيطرة عليه جيدًا
تم ترحيل ما يقرب من 800 ألف فلسطيني قسريًا بين عامي 1948 و1949 ليتم تدمير منازلهم وقراهم من خلال القوات العسكرية الإسرائيلية المدعومة من قوات غربية على رأسها القوات البريطانية، حينها سكن اليهود منازل الفلسطينيين، وبُنيت المستوطنات الإسرائيلية فوق أراضٍ فلسطينية وقرى فلسطينية ليضعوا على القرى التي لا يعرفون أسماءها العربية أسماءً عبرية.
لم يسرق اليهود الأرض فحسب، بل سرقوا كل ما كان فوق الأرض كذلك، من ممتلكات الفلسطينيين الثقافية من فنون مختلفة كاللوحات والأدوات الموسيقية والكتب الموجودة في المنازل والمكتبات والحرف الفنية التي تركها أصحابها خلفهم، كما صور ذلك فيلم سرقة الكتاب الأعظم (The Great Book Robbery) حيث وثق سرقة أكثر من 70 ألف كتاب من الفلسطينيين، هذا كله ليس فقط محض صدفة، بل جزء من تطهير عرقي مدروس لا يقل عنفًا عن التطهير العرقي الجسدي.
كانت الذاكرة الفلسطينية سلاحًا خطيرًا بالنسبة للجانب الصهيوني، وبمثابة شيء يجب عليهم السيطرة عليه جيدًا، فمع وجود الأحزاب اليمينية في الكنيسيت الإسرائيلي المستمرة في تقليل مساحة الالتقاء بين العرب واليهود في دفاعها المستمر أن تكون اللغة العبرية اللغة الرسمية الوحيدة المقبولة، في طلب ملح منهم على توقف الحكومة الإسرائيلية عن سن القوانين أو نشر الدعايات أو الخطاب باللغتين العربية والعبرية، ذلك بالإضافة إلى حرمان فلسطينيي الداخل أو عرب “إسرائيل” من دراسة تاريخهم أو لغتهم في الجهات التعليمية الحكومية.
لطالما كان من ضمن مخطط المشروع الصهيوني أن يضمن للعالم الخارجي أن هذه الأرض أرض خالية من البشر ومن سكنها لا يمتلك ثقافة أو تاريخ واليهود أبناء هذه الأرض بالميلاد بانتماء أجدادهم إليها قبل تشردهم في بقاع الأرض
ادعاء الكيان الصهيوني المستمر بالاكتشافات التاريخية
كانت الصحف الأمريكية وعلى رأسها صحيفة “ذا نيويورك تايمز” داعمًا أساسيًا للمشروع الصهيوني في ترويج افتراءاته وأكاذيبه، مستغلين جهل الشعوب الغربية بالقضية الفلسطينية كاملة، فاستمرت تلك الصحيفة وغيرها في نشر تلك الاداعاءات على شكل أخبار ذات عناوين جذابة مثل عنوان مقال الصحيفة الأمريكية هافينغتون بوست “اكتشاف مجوهرات إسرائيلية قديمة في موقع أثري” بالقرب من مدينة مجدو أو تل المتسلم، شمالي فلسطين، وهو ما يفيد باكتشاف مجوهرات تعود لليهود قبل 3000 عام.
لطالما كان من ضمن مخطط المشروع الصهيوني أن يضمن للعالم الخارجي أن هذه الأرض أرض خالية من البشر ومن سكنها لا يمتلك ثقافة أو تاريخ واليهود أبناء هذه الأرض بالميلاد بانتماء أجدادهم إليها قبل تشردهم في بقاع الأرض وأنها من حقهم وأن وطن اليهود “إسرائيل” هو اعتراف بذلك، ولهذا فإن اكتشاف أي آثار قديمة فرصة لهم لتزوير الحقائق بنشرها أنها كانت تعود إليهم في حقبة ما، فيما يُعرف في التاريخ بـ”سرقة الميراث” عن طريق “التهويد”.
التهويد مشروع بدأ وما زال مستمرًا إلى الآن، حيث نراه في أيامنا الحاليّة في تغيير معالم مدينة القدس من خلال إحداث تغييرات ثقافية ودينية مختلفة، كان آخرها تغيير معالم باب العامود بالقدس وتغييره من منطقة مفتوحة إلى منطقة أمنية مغلقة لتسهيل عملية تحكم قوات الكيان الصهيوني بالمظاهرات والمواجهات من الفلسطينيين عن طريق تشييد مزيد من الأبراج الأمنية وإزالة أي فروقات في الارتفاعات ليستطيع الاحتلال في النهاية إحداث فروقات جذرية في هذه المنطقة التاريخية.
سرقة الملابس الفلسطينية التقليدية أيضًا
وزيرة الثقافة الإسرائيلية ماري ريجيف ترتدي فستانًا عليه معالم القدس في مهرجان كان السينمائي الماضي
لقد تناقلت حرفة صناعة الملابس اليدوية من جيل إلى جيل في فلسطين، فالمرأة الفلسطينية اشتهرت بصنع الملابس المطرزة بالتطريز الفلسطيني المعروف والمميز في تفاصيله وألوانه الذي يختلف من مدينة لأخرى فالتصميم الخاص بمدينة رام الله يختلف عن الخليل وغزة على سبيل المثال، إلا أن هذا أيضًا لم يسلم من سرقة الكيان الصهيوني.
على الرغم من انحدار التصميم الفلسطيني للملابس التقليدية من الكنعانيين قبل 1500 سنة قبل الميلاد، والمعروف أيضًا بالرداء السوري الكهنوتي، فإن الإسرائيليين أظهروا أنفسهم كأصحاب لهذا الميراث أيضًا بعد قيام دولتهم المزعومة “إسرائيل”، حيث نرى الكتاب العبري “أشغال يدوية من الأرض المقدسة” يصف فيه التصاميم الفلسطينية على أنها تصاميم تعود لـ”إسرائيل” قبل آلاف السنوات في الأساس.
تطبيق “آي نكبة” وسرقة أسماء القرى الفلسطينية
أطلقت منظمة إسرائيلية غير حكومية قبل بضع سنوات من الآن تطبيقًا للهواتف الذكية بعنوان “آي نكبة” وهو تطبيق معتمد بشكل كبير على خرائط جوجل عن “إسرائيل”، إلا أن من صمموه أضافوا القرى الفلسطينية المدمرة إليه في محاولة منهم للتعريف بالنكبة الفلسطينية للجانب الإسرائيلي.
تقول رنين جيريز إحدى مصممات التطبيق في تقرير على الجزيرة الشرق الأوسط، إنهم كانوا على استعداد أن يتلقى التطبيق ردود فعل عنيفة أو غاضبة من الجانب الإسرائيلي، إلا أنهم يحاولون إنقاذ طبيعة الأرض التي تحاول “إسرائيل” تغييرها يومًا بعد يوم، حيث يسمح التطبيق للمستخدمين أن يقوموا برفع الصور التي يلتقطونها لبيوتهم وقراهم الحاليّة أو القديمة والتعريف بها من خلال التطبيق.
على الرغم من أن فكرة التطبيق واضحة، فإن الصحافة الغربية فضلت تصويرها بشكل مختلف تمامًا، مثل مقال الصحيفة الأمريكية “ذا نيويورك تايمز” بعنوان التنقل بين القرى المنسية في “إسرائيل” الذي يروي تجربة إحدى المستوطنات اليهوديات في تجربة التطبيق، وكيف أنها وجدته مفيدًا جدًا لاسترجاع التاريخ الإسرائيلي وتذكر أسماء القرى القديمة، وفرصة للتواصل مع سكان المناطق الأخرى وزيارتهم، حيث كان التفسير الوحيد الموجود في مقال الجريدة أن هذه هي القرى التي دُمرت في يوم النكبة الذي يعني به الفلسطينيون إعلان قيام دولة “إسرائيل”.
حرص الإسرائيليون على الترويج لمطبخهم المزعوم نسبه إليهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والأفلام والبرامج التليفزيونية والمطاعم الإسرائيلية في الخارج في الدول الأوروبية أو في الولايات المتحدة من خلال تقديمهم أطباقًا عربية خالصة
سرقة المطبخ الفلسطيني
لم تكن الفلافل مجرد أكلة شعبية بالنسبة للفلسطينين، بل على العكس تمامًا، كانت جزءًا مهمًا من النضال والمقاومة الشعبية في الصراع العربي الإسرائيلي، فكان جزءًا من المشروع الصهيوني الذي يتضمن تجريد الفلسطينيين من محاور ثقافتهم الأساسية، وهو سرقة المطبخ الفلسطيني كاملًا ونسبه إلى المطبخ الإسرائيلي عديم الهوية المكون من ثقافات مختلفة نتيجة قدوم اليهود من شتى بقاع الأرض المختلفة.
حرص الإسرائيليون على الترويج لمطبخهم المزعوم نسبه إليهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والأفلام والبرامج التليفزيونية والمطاعم الإسرائيلية في الخارج في الدول الأوروبية أو في الولايات المتحدة من خلال تقديمهم أطباقًا عربية خالصة مثل الحمص والفلافل والفول وكأنها أطباقًا خرجت من رحم الثقافة الإسرائيلية، بالإضافة إلى التجارة فيها من شركات إسرائيلية تصدر منتجات غذائية مُعلبة كالحمص والفول، لتتربح تجاريًا من فكرة مغلوطة من مصانع أقيمت على أرض فلسطين المسروقة في الأساس.
صورة بنيامين نتنياهو يتناول الفلافل خلال إحدى حملاته الانتخابية
حرصت الأيقونات السياسية “الإسرائيلية” أن تظهر في المناسبات العامة وهي تتناول تلك الأطباق وتروج لها على مواقع التواصل الاجتماعي، في محاولة منهم لزيادة تأكيد أن لليهود ثقافة ومطبخ خاص بهم، وهذا ما يُثبت حق وجودهم على هذه الأرض.
لم تكن الفلافل مجرد أكلة شعبية بالنسبة للفلسطينين، بل على العكس تمامًا، كانت جزءًا مهمًا من النضال والمقاومة الشعبية في الصراع العربي الإسرائيلي
في عام 2010 بدأت حكومة الكيان الصهيوني توزع كتيبات صغيرة للمسافرين اليهود من تل أبيب للسياحة في الخارج، كانت تلك الكتيبات تحتوى على معلومات عن “إسرائيل”، عن اللغة والزي الرسمي والعادات والتقاليد وأشهر المأكولات، لم تخل أي صفحة من صفحات الكتيب من سرقة علنية، كانت محاولة منهم لتحسين صورة “إسرائيل” في الخارج، ونشر الثقافة الإسرائيلية المزعومة بشكل دولي، لاكتساب صورة لم تكن موجودة من الأساس، مستمدة من تاريخ لا يملكونه، على أرض لم تعرف وجودهم من قبل.