أقرت الحكومة السودانية تعديلات واسعة على قانون جهاز المخابرات العامة، شملت تحصين عناصره من الملاحقات القانونية، ومنحهم الحق في اتخاذ إجراءات وتدابير تشمل التفتيش والقبض والاعتقال. دخل القانون المعدل حيز النفاذ بعد تمريره في الاجتماع المشترك لمجلسيِّ السيادة والوزراء برئاسة الجنرال عبد الفتاح البرهان.
تأتي تلك التعديلات بعد دخول معركة كسر العظم بين الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع عامها الأول، مخلفة ما يزيد على 14 ألف قتيل، مع إرغام أكثر من 10 ملايين سوداني على مغادرة منازلهم، علاوة على الأضرار غير المسبوقة التي طالت قطاع البنى التحتية.
كانت أبرز تعديلات قانون المخابرات الجديدة، المتعلقة بمنح عناصر الأمن والمتعاونين معهم حصانة من الملاحقات القانونية، مع إعطائهم الحق في تفتيش واعتقال الأفراد تحفظيًا، إضافة إلى تخويل الأمن بحجز أرصدة المؤسسات التجارية.
ولا يخفى أن التعديلات الحالية تمثل إلغاءً للتعديلات التي سبق وأقرتها الحكومة الانتقالية المعزولة بقيادة المدنيين، وحصرت مهام الأمن يومذاك في جمع وتحليل المعلومات وتقديمها للجهات المختصة ومتخذي القرار.
ضرورة حربية
اكتفى المُشرِع في بورتسودان، بحديثٍ مقتضب عن إجراء تعديلات على قانون المخابرات، وإيداعها في الصحيفة الرسمية، دون إعطاء تفاصيل، أو سوق مبررات لإعادة صلاحيات الأمن المنزوعة إبان الفترة الانتقالية (أغسطس/آب 2019 – أكتوبر/تشرين الأول 2021).
يرى الخبير الأمني، العميد متقاعد مروان تاج الدين، أن تعديلات قانون المخابرات تأخرت كثيرًا، وكان يجب أن تسري ويعمل بها مع انطلاق الرصاصة الأولى من مليشيا الدعم السريع في الخرطوم يوم 15 أبريل/نيسان 2023.
ونوه إلى أن نزع صلاحيات جهاز المخابرات في الفترة السابقة، خلق فراغًا أمنيًا بائنًا، وسمح لأصحاب الأجندات والمتعاونين مع أجهزة المخابرات المعادية، للعمل بحرية، والإضرار بالوطن ومصالحه.
وأضاف لـ”نون بوست” إن تقييد صلاحيات الأمن، فتح الباب على مصراعيه لأنشطة الجاسوسية، والتآمر على الجيش الوطني، وموالاة مليشيا الدعم السريع أحيانًا بصورة علانية، بجانب تنامي الأنشطة المتعلقة بمد أعداء الوطن بالمعلومات والإحداثيات وصولًا للعتاد والذخائر، وليس انتهاءً بنشر الخطابات والشائعات التي تهدف إلى خلق صورة ذهنية شائهة عن الجيش داخل وخارج البلاد.
ونوه تاج الدين إلى أن عدم وجود جهاز أمن كفء بصلاحيات واسعة، قاد في مستوى ثانٍ إلى تنامي أنشطة الجريمة، وازدهار السوق الموازية للعملات، وعمليات التهريب.
وتوقع أن تصل تلك التجاوزات إلى حدودها الدنيا مستقبلًا، ما يعزز وجهة النظر القائلة بأن قرار حصر مهام الأمن في جمع المعلومات كان خاطئًا منذ البداية، سواء جرى ذلك بحسن أم سوء نية، على حد قوله.
عودة القمع
لا يساور القيادي في تنسيقية القوى الوطنية (تقدم)، حسن مالك، أدنى شكٍ من أن القانون الجديد موجه ضد السياسيين والنشطاء المؤيدين للدولة المدنية.
وقال لـ”نون بوست”، إنه يثبت يوميًا وبما لا يدع مجالًا للشك أن حرب الجنرالات في السودان هي حرب لأجل السلطة، ويدفع ثمنها في المقام الأول والأخير المدنيون العزل، وبالتالي لا يمكن تفسير إعادة الصلاحيات للأمن إلا أنه تكريس لهذه السلطة المسنودة بنظام المعزول البشير، من خلال ملاحقة وتجريم كل الأصوات الرافضة للحرب، وحماية ذلك كله بالقانون.
ويشدد مالك على أن جنرالات الجيش يعملون على الإنفراد بالسلطة وظهر ذلك جليًا في تصريحاتهم عن إبعاد القوى السياسية في مرحلة ما بعد الحرب، وتابع: “للأسف تجد تلك التوجهات القمعية، الدعم من قوى سياسية معادية للثورة التي أطاحت بالجنرال عمر البشير (30 يونيو/حزيران 1989 – 11 أبريل/نيسان 2019)، ولا يتورع أفرادها عن فعل أي شيء للوصول إلى كراسي الحكم”.
وكانت النيابة العامة في السودان، أصدرت أخيرًا، أوامر قبض بحق عدد كبير من السياسيين على رأسهم رئيس وزراء الحكومة الانتقالية عبد الله حمدوك، وعدد من النشطاء والصحفيين، بتهمة التحريض على الحرب.
وتتهم السلطات السودانية، قوى الحرية والتغيير (الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية المعزولة بقيادة المدنيين) بأنها الذراع السياسي لمليشيا الدعم السريع.
شد وجذب
وفي دفاعه عن التعديلات، قال الأمين العام لمجلس السيادة، الجنرال محمد الغالي لـ”الجزيرة نت” إن ممارسة السلطات الجديدة ينبغي أن تتم للضرورة وأن تأتي متماشية مع القانون السارية، ونوه إلى أن إجراء التفتيش على سبيل المثال لا يتم تنفيذه إلا بعد الحصول على إذن كتابي من مدير الجهاز، وحجز المشتبه بهم ينبغي ألا يتجاوز 30 يومًا مع إخطار ذوي المحتجز.
لكن هذه التبريرات لم تكن مطمئنة بحال للمحامية الناشطة في مجال حقوق الإنسان، ناهد سمير، التي تساءلت عن سر التعديلات، لا سيما أنها تأتي في ظل سريان قانون الطوارئ في أرجاء الولايات الخاضعة لسيطرة الجيش.
ونوهت إلى ما وصفته بالحملات التي تجري يوميًا ضد النشطاء والسياسيين، وآخرها إصدار حكم الإعدام شنقًا بحق أحد زملاء مهنتها في مدينة القضارف (شرقي السودان) بتهمة تحريض الدعم السريع لاجتياح المدينة التجارية المهمة.
وقالت ناهد لـ”نون بوست”، إن الحرب وأجواء التعبئة والتخوين وفرت ستارًا لكل داعمي الديكتاتورية لتصفية حساباتهم ضد الرافضين لأدوار سياسية للمؤسسات العسكرية وحلفائها، واستدلت بحادثة مقتل زميل آخر لها، هو رئيس حزب المؤتمر السوداني، بمحلية القرشي التابعة لولاية الجزيرة (وسطيّ السودان)، إبان اعتقاله من استخبارات الجيش.
وكان حزب المؤتمر السوداني، أحد فصائل تنسيقية تقدم الرئيسة، حمل في بيان مسؤولية اغتيال رئيس فرعيته بمنطقة القرشي، صلاح الطيب لـ”القوات المسلحة، والاستخبارات العسكرية، ومليشيات الحركة الإسلامية الإرهابية”.
عودة الجدل
بعد فترة قصيرة من الإطاحة بالبشير، نعود إلى ذات الجدلية السابقة بشأن جهاز الأمن الذي تعده المعارضة فصيلًا متقدمًا للدفاع عن السلطة التي يتزعمها حاليًا الجنرال البرهان، فيما يراه مؤيدو الجيش بأنه ضرورة حتمية لبقاء الدولة التي تتهددها أطماع المليشيا، وبين الرؤيتين المتباعدتين يلزمنا التحاكم للوقائع التي نلقاها تعزز – على الأقل حتى وقت كتابة التقرير – كفة المتخوفين من تعديلات القانون.