يهز العلم نظرتنا للأشياء كل يوم، فكمية ضئيلة من اليورانيوم يمكن أن تدمر مدينة، والزمان والمكان ليس لهما إطار مرجعي مطلق، وأجسامنا تتكون من مليارات الخلايا متناهية الصغير، وإذا كان بمقدور التقدم العلمي زيادة متوسط عمر الإنسان قليلاً، فماذا عن التحكم في عملية الشيخوخة؟
منذ عشرين عامًا، كان هناك نقاشًا كبيرًا عن طبيعة الشيخوخة البشرية، مع مجموعة متنوعة من النظريات المنافسة المطروحة، لكن الإجماع العلمي تشكل عن “نظرية التيلومير” للشيخوخة، والدور الذي تلعبه في الجسم البشري المعقد الذي يتكون من أعداد غفيرة من أنواع الخلايا.
البحث عن التيلوميراز
في البداية، تجدر الإشارة إلى مفهوم التيلوميراز، وهو عبارة عن إنزيم يمكن من المحافظة على طول الصبغي (الكروموسوم) في أثناء عملية تضاعف الحمض النووي الريبوزي (DNA)، حيث تتجلى وظيفته الأساسية في تحفيز إضافة بنية محددة إلى أطراف الصبغيات، ويشكل كل طرف ما يسمى بالتيلومير (قسيم طرفي).
وفي كل دورة خلوية يقصر طول “التيلومير”، ذلك أنّه في نهاية كل انقسام خلوي تُفقد مجموعة من القواعد النتروجينية، لذلك يتم فقدان التيلومير بدلاً من فقدان الأجزاء المهمة من الشفرة الجينية، وعندما تقصر هذه القطع بسرعة، تتوقف الخلايا عن الانقسام.
وفي سبعينيات القرن الماضي، لاحظ عالم الأحياء السوفياتي أليكسي أولوفنيكوف لأول مرة في سنة 1973 وجود آلية لتعويض تقصير التيلومير، ومع ذلك، لم يكن تنبؤ أولوفينكوف معروفًا على نطاق واسع إلا من حفنة من الباحثين الذين يدرسون الشيخوخة الخلوية وبقاءها.
لكن الاهتمام الحديث بالتيلوميرات والتيلوميراز كانت له جذوره في التجارب التي أُجريت في الثلاثينيات بوساطة اثنين من علماء الوراثة البارزين: ماك كلينتوك وهرمان مولر، حيث أدرك العالمان في أثناء عملهما على كائنات حية (عضويات) مختلفة أن الصبغيات تحمل في أطرافها مكونًا خاصًا يوفر لها الثبات.
توصلت دراسة أجريت على الخلايا البشرية المزروعة في المختبر، أن هذه الأخيرة توقفت عن الانقسام عند تعطيل التيلوميراز، ثم دخلت في مرحلة سُبات، لكنها سرعان ما عاودت انقسامها في اللحظة التي تم فيها تفعيل التيلوميراز
وفي سنة 1985، اكتشفت كل من عالمتي الأحياء الجزيئة كارول غريدر وإليزابيث بلاكبيرن إنزيم التيلوميراز، انطلاقًا من بحث أُجري على مخلوقات الهدبيات وحيدة الخلية، ونظير اكتشافهن لكيفية حماية الكروموسومات عن طريق التيلوميرات وإنزيم تيلوميراز، تمكنت العالمتان في 2009 من الحصول على جائزة نوبل في الطب أو علم وظائف الأعضاء.
وفي سنة 2007، تم تحديد التكوين البروتيني للتيلوميراز عند الإنسان، من فريق بحثي يقوده الدكتور سكوت كوهين من “معهد البحوث الطبية للأطفال” الأسترالي في سيدني.
وتوصلت دراسة أجريت على الخلايا البشرية المزروعة في المختبر، أن هذه الأخيرة توقفت عن الانقسام عند تعطيل التيلوميراز، ثم دخلت في مرحلة سُبات، لكنها سرعان ما عاودت انقسامها في اللحظة التي تم فيها تفعيل التيلوميراز.
في نفس السياق، توصل باحثون إلى ابتكار نوع من المثبطات تعمل على تثبيط نشاط التيلوميراز، أطلق عليه اسم إيميتلستات، هذا الأخير الذي دخل في سنة 2014 مرحلة التجارب السريرية من أجل علاج داء التليف النقوي الأولي، وأيضًا متلازمة خلل التنسج النخاعي وابيضاض الدم النقوي الحاد.
فيديو عن حلقة نقاشية بشأن التيلومير والشيخوخة
الإنزيم مفتاح الشيخوخة
إنزيم التيلوميراز يوجد بنسب ضعيفة جدًا في خلايا الجسم العادية، حيث إن دورة حياة الخلية لا تتطلب وجوده، فتشيخ، مما يؤدي إلى التقدم بالعمر، وما يرافقه من مظاهر الشيخوخة.
يفسر ذلك ما سبق ذكره بأن التيلومير يقصر بنسبة معينة في كل مرة تتضاعف فيها المادة الوراثية، وعندما يصل طول التيلومير إلى حد معين تدخل الخلية في مرحلة سبات أو موت خلوي مبرمج، ويجعلنا هذا نعتقد أن التيلومير قد يلعب دور الساعة الحيوية لخلايانا، حيث يمكن لها أن تحدد دور حياة الخلية ومنها حياة كامل العضوية (الجسم).
وهنا تأتي وظيفة التيلوميراز، وتتمثل في الحفاظ على انقسام الخلية وصيانتها، وكذلك حمايتها من الشيخوخة، حيث وجد باحثون أن الخلايا المزروعة في المختبر قد تقلب عقارب ساعتها الحيوية لتعود قادرة على إبداء مظاهر معينة للشباب الخلوي (قدرة عالية على الانقسام) عند معالجتها بطريقة تسمح بإطالة التيلوميرات.
لكن بعض خلايانا لا تشيخ مثل الخلايا الجنسية والخلايا الجذعية، حيث يمكن أن تتكاثر إلى أجل غير مسمى ولا تصاب بالشيخوخة، لأنها تنتج بنفسها التيلوميراز الذي يطيل التيلوميرات ويحافظ على هذه الخلايا شابة.
اكتشف الباحثون مفتاحًا يساعدهم في التحكم في نمو التيلوميراز، وباستخدام هذا المفتاح يستطيع الشخص إيقاف تقدم الخلايا في السن ويعزز قدرة السليمة منها على الاستمرار في الانقسام والتكاثر لاحقًا
يفسر ذلك الغاية من وجود تراكيز عالية من التيلوميراز في الحيوانات المنوية والبويضات وكذلك الخلايا الجذعية في الجسم، على العكس من ذلك عادة ما يكون إنزيم التيلوميراز غائبًا أو عند مستويات منخفضة جدًا في معظم الخلايا الجسدية.
جانب آخر للتيلوميراز لا يقل أهمية عن الأول، يتمثل في عملية ضمانة استمرارية وخلود الخلايا، ضمن ذات السياق، وجد العلماء أن الفئران التي تفتقد للتوليميراز تُظهِر علامات الشيخوخة المبكرة، وأن الأطفال حديثي الولادة يملكون عمومًا توليميرات أطول من الأفراد الأكبر عمرًا، وأن الخلايا البشرية المزروعة في المختبر توقفت عن الانقسام عندما تم تعطيل التيلوميراز، ومن ثم دخلت في مرحلة السبات، ومن ثم عاودت انقسامها عندما تمت إعادة تفعيل التيلوميراز.
وقبل التسعينيات، كان يعتقد أن الخلايا البشرية التي تتضاعف بالجسم يمكنها الانقسام إلى ما لا نهاية، واليوم بات من المعروف أن الخلايا الجسدية (التي لا تشكل جزءًا من النسيج التكاثري) المأخوذة من حديثي الولادة (الولدان) ستنقسم 80 إلى 90 مرة في المزرعة الخلوية، في حين أن الخلايا المأخوذة من أفراد عمرهم 70 سنة من المرجح أن تنقسم 20 إلى 30 مرة فقط.
وعندما تتوقف الخلايا البشرية القادرة على الانقسام عن التكاثر ـ وفقًا لكلمات العالم ليونارد هايفليك تصبح “مسنة” فإنها تبدو مختلفة وتقوم بوظائفها بكفاءة أقل مما كانت تفعل في الشباب وبعد فترة تموت، لذلك اكتشف الباحثون مفتاحًا يساعدهم في التحكم في نمو التيلوميراز، وباستخدام هذا المفتاح يستطيع الشخص إيقاف تقدم الخلايا في السن ويعزز قدرة السليمة منها على الاستمرار في الانقسام والتكاثر لاحقًا.
هل يقضي التيلوميراز على الأمراض الخبيثة؟
أدى فهم آلية عمل إنزيم التيلوميراز الذي يحوي في طبيعته ما يشبه المفتاح الكهربائي (أي تستطيع أن تشغله وتطفئه) إلى ظهور كثير من التكهنات بأن العقاقير القادرة على تثبيط هذا الإنزيم قد تستطيع محاربة مجال واسع من الأورام الخبيثة.
وفي دراسات قريبة العهد، تبين أن طول التليومير يرتبط بكثير من الأمراض التي تصيب البشر بل ويؤثر في العمر الذي يصل إليه الشخص، ويُعتقد أن تمييز إنزيم غير عادي يسمى تيلوميراز يعمل على التيلوميرات، يلزم لديمومة كثير من السرطانات البشرية.
وتنشأ السرطانات عندما تكتسب الخلية طفرات وراثية متعددة تؤدي في مجملها إلى هروب الخلية من الضوابط الطبيعية للتضاعف والهجرة، وعندما تتضاعف الخلية ونسلها بطريقة غير محكومة، يصبح بإمكانها غزو وتدمير النُّسج القريبة، وبعضها يمكنه الانفلات والتحرك إلى أجزاء من الجسم لا تنتمي إليها، مكونة بذلك خباثات جديدة في مواقع بعيدة.
المثير للاهتمام أن العلماء وجدوا تراكيز عالية من التيلوميراز في الخلايا السرطانية، مما أدى إلى زيادة نشاطها والسماح لها بأن تصبح “خالدة”، وأن تستمر بالتضاعف إلى ما لا نهاية، مما يجعل من هذا الأنزيم أحد أهم العوامل المساهمة في انتشار خلايا السرطان وانقسامها إلى ما لا نهاية.
يشتبِه بعض الباحثين في أن فقدان القدرة على التكاثر التي لوحظت في الخلايا البشرية التي ينقصها إنزيم تيلوميراز ربما تكون قد نشأت ليس بغرض أن تجعلنا هرمين، وإنما لمساعدتنا على تجنب السرطان
ويُتوقع أنّ إيقاف فعالية التيلوميراز بطريقة أو بأخرى قد يوصل الخلية السرطانية لمرحلة “الحد الحرِج” من خلال تقصير طول التيلومير، وبالتالي قد نمنع الخلية السرطانية من الانقسام بلا حسيب أو رقيب.
ونظريًا، يؤدي غياب إنزيم تيلوميراز إلى إعاقة نمو الأورام بأن يجعل الخلايا المنقسمة باستمرار تفقد التيلوميرات الخاصة بها وتستسلم قبل أن تُحْدِثَ تلفًا محسوسًا، أما إذا كانت الخلايا السرطانية تصنع الإنزيم تيلوميراز، فسيكون باستطاعتها الاحتفاظ بالتيلوميرات الخاصة بها ويصبح بإمكانها البقاء إلى ما لا نهاية.
يشتبِه بعض الباحثين في أن فقدان القدرة على التكاثر التي لوحظت في الخلايا البشرية التي ينقصها إنزيم تيلوميراز ربما تكون قد نشأت ليس بغرض أن تجعلنا هرمين، وإنما لمساعدتنا على تجنب السرطان.
وكانت الفكرة أن الإنزيم تيلوميراز قد يكون مهمًا لاستدامة السرطانات البشرية قد نوقشت منذ عام 1990، ولكن الدليل على ذلك لم يصبح دامغًا حتى وقت قريب.
دكتور مايكل فوسيل يتحدث عن كتابه الجديد “ثورة التيلوميراز”
الثورة القادمة
تستمر التطورات الطبية مع المدير التنفيذي لجمعية الشيخوخة الأمريكية والمحرر المؤسس لأبحاث التجديد الدكتور مايكل فوسل الذي كان من طليعة العلماء الذين عملوا في بحوث الشيخوخة على مدى عقود، وهو مؤلف آخر كتاب عن الشيخوخة البشرية بعنوان “ثورة التيلوميراز” (The Telomerase Revolution).
يضاف هذا الكتاب إلى مؤلفات أخرى منها “الخلايا والشيخوخة والأمراض البشرية”، و”حافة الخلود”، بالإضافة إلى أول كتاب عن نظرية التيلوميراز للشيخوخة في عام 1996.
جوهر هذه النظرية أن الشيخوخة البشرية نتاج الشيخوخة الخلوية، وفي كل مرة تستنسخ خلية، تنخفض نسبة التيلومير تريليونات الخلايا، وتصف آخر مؤلفاته (ثورة تيلوميراز) كيف يمكن أن يُستخدام تيلوميراز قريبًا كأداة علاجية قوية، مع القدرة على تمديد فترات الحياة بشكل كبير، وحتى عكس الشيخوخة البشرية.
ويرى فوسل الذي يعمل حاليًّا على جلب تيلوميراز إلى التجارب البشرية لمرض الزهايمر، أن العلاجات القائمة على التيلوميراز متاحة بالفعل، وقد أظهرت نجاحًا إلى حد ما، ولكن سوف تصبح العلاجات أكثر فعالية بكثير ومتاحة على مدى العقد المقبل.
وبالنظر إلى الطبيعة، لا تكون الأشياء عادةً على النحو الذي تبدو عليه، فصخرة في قاع البحر قد تكون سمكة سامة، وزهرة بديعة في الحديقة قد تكون آكلة لحم ترقد منتظرة الفريسة، وتمتد تلك المظاهر الخادعة لتشمل طليعة الثورة القادمة في الطب البشري.