عاد الرئيس التركي إلى بلاده وهدأت المعركة من أجل الإمارات، لكن التونسيين لم يتفقوا على مصلحة بلادهم وسيظلون مختلفين والبلد يخسر فرصًا ووقتًا، ولكن انكشاف عمق الخلاف مؤذن بفهمه من عامة الناس وتجاوز آثاره التي ستنحصر في خلاف نخب معزولة عن هموم شعبها.
وهنا يوجد بصيص أمل يمكن أن نختم به الكتابة في سنة 2017 التي اعتبرها سنة الكلام الكثير والفعل القليل من أجل تونس، إذ لا يمكن أن نمر فوق معطى مهم وموجع وهو أن أرقامنا الاقتصادية في تراجع كبير، بل إن نهاية سنة 2017 أسوأ من أرقام السنة التي سبقتها، فاليورو يختم السّنة في سوق العملات بثلاثة دنانير تونسية كاملة.
المحاور والتوابع
قرأنا في التاريخ عن بلد كان اسمه ألبانيا وقف في زمن الحرب الباردة ضد المحاور وقال بقطع الصلة مع العالم للاعتماد فقط على موارده وجهد أبنائه، فانتهى منهارًا، واكتشف الناس أنه يملك أكبر ثروة من الحمير في العالم، لقد عاد إلى الحمار بصفته وسيلة النقل الوحيدة في بلد منغلق.
هل يمكن لبلد مثل تونس أن يعيش مثلما عاشت ألبانيا أنور خوجة ذات يوم؟ نطرح السؤال من قبيل الجدل، فتونس بلد يقع في قلب التبادل في البحر المتوسط منذ نشأته ولم يمكنه ولا يمكنه ألاّ يكون، وكيف لبلد مصدر ألا ينفتح؟ غير أن السؤال الذي يجب أن يطرحه التونسيون هو على من ننفتح؟ ومع من نتبادل؟ أي ما مقياس ربط العلاقات الاقتصادية ومن ثم السياسية والثقافية التي يجب أن تبني عليها قاعدة التبادل؟
لأن معارك الأيام الأخيرة بين التونسيين كشفت أن الدوافع غير الوطنية انتصرت على الوازع الوطني، وتبين أن الصفوف مدخولة بالمال الأجنبي وبعض التونسيين مستعدون لبيع بعض آخر ترضية لكفيل أجنبي.
حادثة رفض ركوب التونسيات للطيران الإماراتي ومنعهن من مطاراتها لم ينتج موقفًا جماعيًا وطنيًا عن الإهانة، بل وجد من التونسيين من برر ذلك وعاب على التونسيين السمعة الإرهابية التي اختلقتها قناة الميادين ولم تقدم عليها دليلاً.
كان لأردوغان أنصاره في تونس وكانت الردود من جنس الهجوم ونزلت في مواضع إلى سباب فاحش ودخل التونسيون في مناكفة كشفت أنهم مختصمون بشأن مستقبل بلدهم
لقد كشفت الحادثة عمق الاختراق الأجنبي (الإماراتي للصف الوطني)، وكان قد انكشف قبل ذلك عمق الاختراق الفرنسي عندما تعاطف تونسيون مع حوادث إرهابية أصابت فرنسا ولم نرهم يتعاطفون مع تونسيين ضربهم الإرهاب في مقتل، بل إن بعضهم لا يزال يتشفى في أول ضحايا الإرهاب (العقيد العياري) الذي سقط في ميدان الشرف العسكري في أول تصدٍ للجيش التونسي بعد الثورة للإرهاب.
الغريب أن أنصار فرنسا في تونس هم تقريبًا أنصار الإمارات، والغريب أن الإمارات وفرنسا متفقتان في سياستهما الدولية ضد الربيع العربي ويحاربان معًا في ليبيا ضد الثورة ويقفان بالخبرة والطيران مع حفتر المنشق.
زيارة أردوغان وضحت خلفية المحاور
بعد الإهانة الإماراتية نزل بتونس الرئيس التركي بدعوة رسمية فقوبل بموجة كره غير مسبوقة، ورغم أن الزيارة أثمرت اتفاقيات تعاون وقرض تركي تبدو تونس محتاجة إليه لتغطية رواتب الشهرين القادمين، فإن أنصار فرنسا والإمارات وقفوا ضد الزيارة واختلقوا أعاجيب القول للتقليل من شأنها وفوائدها (كان هؤلاء قد فرضوا ضريبة خاصة في قانون الموازنة القادمة على الواردات التركية بدعوة تعديل الميزان التجاري).
وكان لأردوغان أنصاره في تونس وكانت الردود من جنس الهجوم ونزلت في مواضع إلى سباب فاحش، ودخل التونسيون في مناكفة كشفت أنهم مختصمون بشأن مستقبل بلدهم، فخلفية المواقف لم تكن مصلحة البلد التي قدم لها التركي خدمات (وبطلب من تونس) في وقت حرج اقتصاديًا، بل هي نزاع سياسي عن المستقبل يستعيد/يكشف خلفيات أيديولوجية مقيتة مجدها التونسيون لم يسمح لهم بالخروج منها، تلك الخلفية هي التي عطلت ثورة تونس وأنتجت الوضع الحاليّ البائس.
ردة الفعل على الإهانة الإماراتية لم تصدر عن الإسلاميين، بل صدرت عن كثير غيرهم، بل إن الإسلاميين تحت قيادة الشق الخائف خافوا من الإمارات وصمتوا
بؤس الأيديولوجيين يصيب تونس بالتعاسة
هذه خلاصة وصلنا إليها سابقًا ووصل إليها كثيرون قبلنا وبعدنا ولكنها في الأسبوع الأخير من السنة الحاليّة عادت فكشفت عن وجهها القبيح، من أجل إفشال الإسلاميين يتحالف اليسار التقدمي مع أشد الأنظمة العربية رجعية وأشرسها في معاداة للديمقراطية، لذلك وجدنا اليسار التونسي ينسق عمله السياسي مع الإمارات ومع النظام السعودي والعسكر المصري وسفاح سوريا من أجل أن يسقط احتمالات بقاء الإسلاميين في تونس وهنا تصير مصلحة البلد أقل أهمية من تحقيق هدفهم الخاص.
الاعتراض على الرئيس التركي ليس لأن المنتجات التركية سيئة في السوق العالمية مقارنة بغيرها، بل لأن التركي يحسب حليفًا للإسلاميين الذين في الحكم الآن ومجيئه قد يعطي جرعة نجاح لحكومة ومرحلة يشارك فيها إسلاميون، وهذا يعني فلاح الإسلاميين (بقطع النظر على أنهم شركاء من درجة ثانية).
يعرف اليسار وقد كان موقفه منذ الخمسينيات معاديًا لأنظمة الخليج العربي التي مثلت عنده قمة الرجعية والتخلف ومصدر الإرهاب الفكري والديني، ولكن عندما تبين أن هاته الأنظمة تعادي الإسلاميين (الإخوان بالتحديد) صاروا حلفاءً مفضلين لكل من يحارب الإسلاميين، لقد وصل الأمر إلى أن اليسار نصير المرأة ومحتكر قضيتها (وممثلها الشرعي الوحيد) يبرر إهانة المرأة التونسية في مطارات العالم لأن من فعل ذلك بها عدو واضح لعدوهم الإسلامي.
هنا تخسر تونس
منطق تدمير الإسلاميين مقدم على بناء تونس وبناء الديمقراطية حكم به بن علي وبالتدقيق حكم به اليسار من وراء بن علي اللص الذي تفرغ لتدمير البلد ونهب ثرواته وترك لليسار في الأمن والثقافة والإعلام تكملة مهمة تدمير الخصم المشترك، وبعد الثورة استمر الأمر على ما هو عليه، وبعد سبع سنوات ونحن نحاول الخروج من نفق التردي الاقتصادي الذي وصلنا إليه نجد اليسار يؤبد المعركة ويصيب تونس بتعاسة لا يمكنها الخروج منها، متى تنتهي هذه المعركة لنعود إلى بناء البلد؟
التونسي العادي (غير المؤدلج ولا المسيس) الذي يغسل اليسار مخه بالإعلام قد بدأ يتحرر ويرد الفعل طبقًا لمصلحته الخاصة التي تنتهي في مصلحة بلده
مؤشرات إيجابية كثيرة، ردة الفعل على الإهانة الإماراتية لم تصدر عن الإسلاميين بل صدرت عن كثير غيرهم، بل إن الإسلاميين تحت قيادة الشق الخائف خافوا من الإمارات وصمتوا، الذين ردوا الفعل وطنيون غيورون وأغلبهم فهم المعركة وأسبابها وخلفياتها الأيديولوجية فردوا الفعل لصالح الوطن لا لصالح الإسلاميين، لم تعد معركة اليسار مع الإسلاميين تعني التونسيين لقد بدأوا يخرجون من نفقها ولن يبقى داخل نفق الاستئصال إلا مريض أو مهووس بالدم والخراب.
مؤشر انتصار النائب المستقل ابن الشهيد الذي ترشح ضد جميع الماكينات الحزبية الحاكمة والمعارضة وفاز عليها بجهده وجهد أنصارها العزل فكال لليسار المعارض هزيمة نكراء تهون دونها هزيمة حزبي السلطة، القاعدة الناخبة تخلت عن اليسار الذي عاش طويلاً من تسويق نفسه كمعارض لقد سقط سقوطًا مدويًا أمام شاب أعزل.
ويمكننا الاختصار أن التونسي العادي (غير المؤدلج ولا المسيس) الذي يغسل اليسار مخه بالإعلام، بدأ يتحرر ويرد الفعل طبقًا لمصلحته الخاصة التي تنتهي في مصلحة بلده ويكفي أن نطلع على عدد معاصر الزيت التونسية التي استوردت آلات تركية وتخلت عن المعاصر الفرنسية لتعرف أين تتجه آراء التونسي وقراراته.
تتجمع الآن مؤشرات صغيرة ولكنها تترادف أن مصير الاستئصاليين في تونس لن يكون أفضل من حمير ألبانيا بعد الانفتاح الضروري على دول العالم، وهذا بصيص نور في منتهى سنة سياسية فاشلة لكنها مرت ولم يفلح اليسار في انقلابه بالمال الإماراتي على الديمقراطية التي تسمح للإسلاميين بالحياة.