للأسبوع الخامس على التوالي، تكتظ شوارع تل أبيب والمدن المحيطة بها بعشرات التظاهرات التي تطالب برحيل رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، وتقديمه للمحاكمة على خلفية اتهامه بحزمة من قضايا الفساد المتورط فيها التي أثارت حفيظة الشارع الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة.
التظاهرات الأسبوعية التي تخرج مساء سبت كل أسبوع تواصل تمددها وانتشارها لتتجاوز سقف الأعداد المتوقعة في ظل عدم حسم الجهات القضائية والنيابية مسألة إدانة نتنياهو بعدما استقر في يقين القوى السياسية الداخلية تورطه بشكل مؤكد خاصة مع وجود العديد من الأدلة التي تم الكشف عنها مؤخرًا.
ورغم الغموض الذي يحيط بكنف هذه التحقيقات السارية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، فالكثير من المتابعين يتوقعون تكرار سيناريو رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت الذي اتهم بخيانة الأمانة والرشوة في عام 2014، وأودع في سجن الرملة لقضاء عقوبة 19 شهرًا ليصبح أول رئيس للوزراء يودع السجن، فهل يواجه نتنياهو نفس المصير؟
تظاهرات خارجة عن السيطرة
بمنطقة جادة روتشيلد القريبة من تل أبيب احتشد نحو 4000 متظاهر، مساء أمس السبت، في إطار الاعتصام الأسبوعي المعتاد من المتظاهرين للاحتجاج على الفساد ضد رئيس حكومتهم، حيث بدأت الفعاليات من أمام منزل المستشار القضائي للحكومة، للضغط عليه، بغية تسريع الإجراءات القانونية في ملفات التحقيق ضد نتنياهو.
وبعد انتهاء الاحتجاجات أمام منزله التي تخللها رفع بعض الشعارات واللافتات التي تطالبه بإسراع إجراءات التحقيق، سرعان ما انتقلت التحركات إلى تل أبيب، حيث التجمع في عدد من الميادين العامة هناك، وإن كانت تشير التقديرات إلى أن تظاهرات الأمس تعد الأقل عددًا في هذا الحراك منذ انطلاقه قبل عدة أسابيع.
التظاهرات لم تتوقف عند روتشيلد أو تل أبيب فحسب، بل رصدت بعض المصادر قرابة تجمعات واحتجاجات في 17 مكانًا آخر في جميع مدن دولة الاحتلال، وهو ما أثار حفيظة حزب الليكود الحاكم الذي وصف المتظاهرين بأنهم “نشطاء يسار”، وهو ما دفع هؤلاء بحمل شعار “لا يمين ولا يسار، إلى الأمام”، في الوقت الذي أشاد فيه إلداد يانيف المقرب من رئيس الحكومة الأسبق إيهود باراك، بهذه الجموع قائلاً “هذه هي صورة النصر، أسمعوا نتنياهو ما يكره سماعه واهتفوا ‘اذهب إلى البيت'”.
الأمر تجاوز حد التنديد بالفساد إلى رفع بعض الشعارات التي تطالب بإعدام رئيس الوزراء، حيث حمل أحد المتظاهرين الأسبوع الماضي صورة عليها “مقصلة” فسرها بعض نشطاء الليكود بأنها “تحريض على نتنياهو” وإن تم شجبها من العديد من المسؤولين الإسرائيليين.
جدير بالذكر أن المشاركة في هذه الفعاليات المتواصلة طيلة الأشهر الماضية لم تقتصر على المواطنين الإسرائيليين فحسب، إذ شارك فيها عدد من أعضاء الكنيست (البرلمان) المنتمين إلى أحزاب الحكومة، إلا أنهم تجنبوا إلقاء كلمات بها.
استمرار التظاهرات ضد فساد نتنياهو
فساد نتيتاهو.. كلاكيت 7 مرة
للمرة السابعة على التوالي، يخضع نتنياهو للتحقيق في قضايا فساد اتهم بالتورط فيها مستغلاً نفوذه وصلاحياته كرئيس للحكومة خلافًا للقانون، وهو ما يجعله متصدرًا لقائمة رؤساء الوزراء الإسرائيليين الأكثر اتهامًا بالفساد.
ويشمل التحقيق مع رئيس حكومة الاحتلال قضيتين أساسيتين وأربع قضايا فرعية، تتعلق جميعها بشبهات فساد وتلقي رشوة وخيانة الأمانة وسوء استعمال للسلطة والابتزاز، تنقسم كالتالي:
ملف القضية (1000): المسمى الإعلامي للقضية المتعلقة بتلقي نتنياهو هدايا ثمينة بلغت قيمتها مئات الآلاف، من رجال أعمال أبرزهم أرنون ميلتشين الذي يملك شركة لإنتاج الأفلام، مقابل استخدام سلطته لتسهيل بعض الأمور لمصلحتهم.
المساعدة الشخصية لرجل الأعمال ميلتشين، هداس كلاين، قد أدلت بشهادتها عدة مرات عن الطريقة التي دأب فيها رئيس الحكومة الإسرائيلية وزوجته سارة، على طلب الهدايا من مديرها، حيث اعتبرت النيابة العامة والشرطة شهادتها مهمة، كونها تكشف منهجية وكيفية عمل نتنياهو وزوجته في هذا الملف.
تقارير إعلامية سابقة ذكرت توسط رئيس وزراء دولة الاحتلال لدى وزير الخارجية الأمريكية السابق جون كيري، من أجل منح الإقامة الدائمة لميلتشين في الولايات المتحدة، في مقابل الحصول على مقابل لذلك.
ملف القضية (2000).. وهو المسمى الإعلامي للقضية التي تحتوي على تسجيلات لمحادثات جمعت نتنياهو وصاحب صحيفة “يديعوت أحرونوت”، أرنون (نوني) موزيس، اتفقا خلالها على صفقة تتضمن سن قانون يحد من انتشار صحيفة “يسرائيل هيوم”، منافسة “يديعوت أحرونوت” الرئيسية، مقابل أن يحظى نتنياهو بتغطية إيجابية في صحيفة موزيس، تساعده على البقاء في منصبه، بما يخالف القانون.
التظاهرات لم تتوقف عند روتشيلد أو تل أبيب فحسب، بل رصدت بعض المصادر قرابة تجمعات واحتجاجات في 17 مكانًا آخر في جميع مدن دولة الاحتلال
4 ملفات فساد.. بعيدًا عن القضيتين الرئيسيتين السابقتين، فإن رئيس وزراء الكيان الصهيوني متورط في 4 ملفات فساد أخرى، تجاوز قيمتها مئات آلاف الدولارات.
القضية الأولى: تتعلق بتشغيل كهربائي، لم يفز بمناقصة، في منزل رئيس الحكومة، في قيسارية، بشكل خاص، ونقل المصاريف إلى صندوق الدولة.
القضية الثانية: استخدام عاملة في مكتب رئيس الحكومة للإشراف على والد سارة، زوجة نتنياهو، أيضًا على حساب مكتب رئيس الحكومة.
القضية الثالثة: شراء أثاث حديقة لمكتب رئيس الحكومة في القدس، ثم نقله إلى مسكنه في قيسارية، على حساب الدولة ممثلة في رئيس الوزراء.
القضية الرابعة: تتعلق بتضخيم مصاريف الضيافة في منزل رئيس الحكومة التي تتجاوز الأرقام المقبولة والمتفق عليها في اللوائح المعمول بها، وهو ما أثار حفيظة الأجهزة الرقابية.
ليس الأول
بنيامين نتنياهو ليس رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأول المتهم في قضايا فساد، بل من الملفت للنظر – وقد ينظر إليها كونها ظاهرة إيجابية في مجملها – أن معظم من تقلد هذا المنصب (رئيس الحكومة) لدى “إسرائيل” قد وجهت لهم تهم تتعلق بالفساد والرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ وهو ما كشفت عنه المواقع الإسرائيلية بصورة أو بأخرى.
البداية كانت مع دافيد بن جوريون، أول رئيس وزراء لـ”إسرائيل”، حين استغل منصبه للدفاع عن نجله “عاموس”، الذي كان يعمل نائبًا لقائد الشرطة واتهم بقضايا فساد، إلا أن بن جوريون دافع عن نجله حتى آخر لحظة، قبل أن يُقدم للمحاكمة، التي حكمت لصالحه بالبراءة ودفع تعويضات له.
هذا بخلاف اتهام عدد من رؤساء الوزراء الذين خلفوا بن جوريون على رأسهم: موشيه شاريت وليفي أشكول وجولدا مائير وإسحق رابين ومناحم بيجين، بأنهم قد تلقوا بعض الهدايا في أثناء توليهم مناصبهم، أبرزها الحصول على شقق وسيارات فارهة مما كان لها تأثير سلبي على الشارع حينها.
كذلك إسحق رابين الذي يعتبر أول رئيس وزراء من جيل “الصبار” (الجيل الذي وُلد في أرض فلسطين المحتلة، ولم يأت إليها عن طريق الهجرة)، قُدم للمحاكمة، واستقال على إثرها عام 1977 من منصبه كرئيس للوزراء، كذلك من رئاسة حزب “العمل”، هذا بخلاف قضية حسابات زوجته في بنوك بواشنطن.
ثم يأتي إيهود باراك الذي اتهم بالتورط في قضية فساد تتعلق بمؤسسة “عموتوت” الخيرية، ودعم حزب “العمل” الذي كان يقوده، قبل أن يتم إغلاق القضية عام 2000، ليخلفه أريئيل شارون في رئاسة الوزراء عام 2001، ليتهم هو الآخر في قضية فساد الجزيرة اليونانية مع نجله جلعاد وعدد من المقاولين الذين مرر لهم تسهيلات في عدة قطاعات اقتصادية، مقابل تقديم خدمات له من قبل أولئك المقاولين، كذلك تورطه في تلقي دعم من رجال أعمال من جنوب إفريقيا لدعمه في الانتخابات التي جرت عام 2003، إلا أن نجل شارون “عمري” قضى في السجن 7 شهور، بدلاً من والده، بعد أن ثبت أنه صاحب العلاقة بالدعم بشكل مباشر.
وتعد قضية رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، هي الأكثر حضورًا في سجلات فساد رؤساء الحكومة الإسرائيليين، كونه أول رئيس وزراء تقدم ضده لائحة اتهام، ويسجن على إثرها في عدة قضايا، وكان ذلك في 2014.
بات مستقبل نتنياهو في مهب الريح، ففي حال تمت إدانته جنائيًا في ظل الأوراق التي تملكها جهات التحقيق، فربما يواجه الرجل مصير سلفه إيهود أولمرت، فهل يكون رئيس الوزراء العبري الأكثر جدلاً في تاريخ الكيان الصهيوني ثاني رئيس حكومة في سجلات الدولة المحتلة يزج به خلف جدران السجن؟
القفز من السفينة
أمواج الفساد العاتية التي تتعرض لها سفينة نتنياهو أثارت مشاعر الخوف لدى رفقائه، فباتوا يقفزون من فوقها واحدًا تلو الآخر في مشهد يشير إلى قلقهم من غرقها ما بين الحين والآخر.
وزير جيش الاحتلال السابق موشيه يعالون، أحد المقربين من رئيس الحكومة، وصف الفساد – المتهم به صديقه – بأنه “آفة أخطر بكثير من التهديد الإيراني ومن حزب الله ومن حماس”، موجهًا حديثه للقيادة السياسية قائلاً: “المصالح السياسية قصيرة المدى تقود السياسيين إلى الاستعباد والانقسام والاستقطاب، هذه ليست القيادة! يجب أن تتحد القيادة ولا تقسم!”.
أما الرئيس الجديد للائتلاف الحكومي الإسرائيلي، عضو الكنيست دافيد أمسالم، فقال: “رئيس حكومة متهم بالرشوة، لا يمكن له أن يستمر بمهام رئيس حكومة”، مغازلاً المتظاهرين المحتجين ضد فساد الحكومة ورئيسها.
أمسالم الذي لم يمض على تعيينه من نتنياهو نفسه، رئيسًا للائتلاف الحكومي، بديلاً عن دافيد بيتان المستقيل على خلفية تحقيقات جارية ضده بشبهة تورطه في ملفات فساد في بلدية “ريشون لتسيون”، وهو ما أثار البعض ضد رئيس الحكومة حينها، قال خلال مؤتمر نقابة المحاميين الإسرائيليين في إيلات “أكره الفاسدين واللصوص، ومن ينتمي إلى هذه الشريحة يجب ألا يقود الجمهور”، وإن أضاف بعد ذلك “لكن لا يصح أن يخضع رئيس حكومة للتحقيق بسبب شمبانيا وسيجار”، في إشارة إلى قضية الفساد المعروفة بـ”ملف 1000” التي تعتمد بالإساس على هدايا قدمها الملياردير ميلتشين، لعائلة نتنياهو، ومن ضمنها الشمبانيا والسيجار بقيمة وصلت إلى مئات آلاف الشواقل، بحسب ما تتناقله تقارير إعلامية إسرائيلية.
ملف القضية (1000): المسمى الإعلامي للقضية المتعلقة بتلقي نتنياهو هدايا ثمينة بلغت قيمتها مئات الآلاف، من رجال أعمال أبرزهم أرنون ميلتشين الذي يملك شركة لإنتاج الأفلام، مقابل استخدام سلطته لتسهيل بعض الأمور لمصلحتهم
وهو نفس ما أشار إليه المفتش السابق للشرطة الإسرائيلية أساف حيفتس الذي تفاعل هو الآخر مع تلك التظاهرات الاحتجاجية موجهًا سهام نقده لرئيس حكومته قائلاً: “نتنياهو فعل أسوأ ما يمكن فعله، فهو يزعزع ثقة الجمهور بالشرطة، كان عليه الاستقالة بمجرد الاعتراف بتلقيه هدايا”.
القفز من سفينة نتنياهو لم يقتصر على جهاز الكيان التنفيذي فحسب، بل تجاوز إلى الرئيس الإسرائيلي نفسه رؤوبين رفلين الذي أشاد بمظاهرات مكافحة الفساد في تل أبيب وميدان صهيون في القدس، وقال خلال كلمة ألقاها قبل يومين، في مؤتمر دوف لاوتمان للتربية والديمقراطية في الجامعة المفتوحة: “لاحظوا أن الكلام المثالي عن رفض الفساد انتقل إلى أفعال، خرج من شاشات التليفزيون وساد على الشارع بشكل حقيقي: في ساحة هغورين وساحة هبيما وساحة سفرا وساحة السينماتيك، لا بديل عن ساحات المدينة الحقيقة، المادية”.
ريفلين حث الإسرائيليين على النزول للشارع للتنديد بالفساد كونها إحدى مظاهر الديمقراطية، على حد قوله، مضيفًا: “يجب علينا تربية جيل يتذكر أن الديمقراطية الحقيقية يمكن أن تبدأ على الإنترنت، ولكنها لن تحل محل الحاجة وضرورة المشاركة في النقاش والعمل المهمين”، وهو ما تسبب في تعرضه لانتقادات لاذعة من اليمين الحاكم، حيث اتهمه بعض أعضائه بتحريض الشارع منذ فترة ضد رئيس الحكومة من أجل إسقاطها.
مصير أولمرت شبح يطارد نتنياهو
هل يتكرر سيناريو أولمرت؟
“نتنياهو لم يتعلم من التاريخ والآن يواجه موتًا سياسيًا بطيء ومؤلم”، بهذه الكلمات استهلت صحيفة “هآرتس” العبرية تحليلاً عن الأخطاء التي وقع فيها رئيس الوزراء الحاليّ، والمصير الذي ينتظره بعد التحقيق معه في حزمة من قضايا الفساد والكسب غير المشروع.
الصحيفة أضافت أن نتنياهو “لم يتعلم شيئًا من سقوط سلفه، لقد تصرف بشكل غبي ولا مبالاة بينما يفقد كل القيود والأخلاق والسيطرة على الأشياء”، ومن ثم قد يواجه نهاية طويلة ومؤلمة تشبه نهاية سلفه إيهود أولمرت، مشيرة إلى وجود توقعات بأن تأخذ القضايا المتهم فيها نتنياهو نفس مسار القضايا التي أدين فيها أولمرت.
النيابة العامة الإسرائيلية بدورها تسعى لإدانة رئيس الحكومة من خلال إبرام صفقة مع المدير السابق لمكتب نتنياهو، إري هارو، يتم بمقتضاها اعتبار هارو “شاهد ملك” في القضيتين المتهم فيهما رئيس الوزراء بالاحتيال والرشوة وخيانة الأمانة، بعد مفاوضات استمرت لأيام.
أمواج الفساد العاتية التي تتعرض لها سفينة نتنياهو أثارت مشاعر الخوف لدى رفقائه فباتوا يقفزون من فوقها واحدًا تلو الآخر في مشهد يشير إلى قلقهم من غرقها ما بين الحين والآخر
الصفقة التي تم التوقيع عليها مؤخرًا، فإن هارو الذي تلقبه الشرطة بـ”وزير مالية” عائلة نتنياهو، من المتوقع أن يقدم معلومات ضد نتنياهو في “القضية 1000″ و”القضية 2000” كفيلة بإدانته بصورة كاملة، في الوقت الذي تقول فيه النيابة بأن لديها أدلة وتسجيلات تؤكد الاتهامات الموجهة لرئيس الحكومة.
ومن ثم بات مستقبل نتنياهو في مهب الريح، ففي حال تمت إدانته جنائيًا في ظل الأوراق التي تملكها جهات التحقيق، فربما يواجه الرجل مصير سلفه إيهود أولمرت، فهل يكون رئيس الوزراء العبري الأكثر جدلاً في تاريخ الكيان الصهيوني ثاني رئيس حكومة في سجلات الدولة المحتلة يزج به خلف جدران السجن؟