أجبر مسلحون تابعون لهيئة تحرير الشام، معتصمين مدنيين، أمام مبنى المحكمة العسكرية في مدينة إدلب على فض الاعتصام، عبر إطلاق النار بالهواء ومهاجمتهم بالعصي والسكاكين والسيوف، ثم تمزيق خيام الاعتصام وملاحقة منظميه.
عدسات المشاركين وثّقت الهجمة الغوغائية لعناصر الأمن والعسكريين على موقع الاعتصام، وسرعان ما انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، لتعيد ذاكرة السوريين إلى بداية ثورتهم على النظام السوري الذي واجهها منذ أيامها الأولى عبر مؤسسته العسكرية وأجهزته الأمنية بالقمع و”التشبيح”.
سياسيون وإعلاميون ونشطاء علّقوا على الحادثة بأن أبي محمد الجولاني يخطو على خطى بشار الأسد في قمع احتجاجات السلميين، مستذكرين انتشار وحداته العسكرية في المدن والبلدات السورية في ربيع 2011.
وفي حديثه لموقع “نون بوست” أكد الناشط الإعلامي فائز الدغيم أنّ “حملة تحرير الشام القمعية والتي تزامنت مع انتشار الجناح العسكري بعتاده في الساحات ومداخل المدن وتقاطعات الطرق الرئيسية دليل على أنّ الجولاني والدائرة الضيقة المقربة منها اتخذوا قرار الحل الأمني واستخدام القوة لاستعادة قبضتهم الأمنية على المنطقة التي بدأت خلال الأيام الأخيرة تشهد اعتصامات ضد إدارة تحرير الشام في جوانب عدة منها التعليم والتعليم العالي والتجارة والاستيراد ومطالب بتنظيم العمل الأمني وإعادة هيكلته”.
ويضيف الدغيم: “الإعلام الرسمي لتحرير الشام ومنصات الإعلام الرديف عملت خلال الفترة التي سبقت الإجراءات القمعية على تقليص الحاضنة الشعبية للحراك من خلال اتهام القائمين عليه بتبعيتهم لفصائل معارضة أخرى وتيارات سياسية أو ارتباطهم بأحزاب دينية”، متابعًا: “رغم النشاط الإعلامي المكثف، فإنّ الأصوات المناهضة لسلطة الأمر الواقع تتزايد بوتيرة متسارعة، ورقعة المدن والبلدات التي تشهد مظاهرات منظمة ودورية تتسع يومًا إثر يوم”.
تزامن الهجوم على خيم الاعتصام بالقرب من مبنى المحكمة العسكرية مع استنفار عسكري للإدارة العامة للحواجز التابعة أيضًا لتحرير الشام، منعًا لوصول مظاهرات مناهضة خرجت في كل من مدن أريحا ومعرة مصرين وبلدات بنش وتفتناز، للتنديد بالإجراءات القمعية والمطالبة باحترام حق المدنيين في التظاهر والاعتصام السلميين.
وترافق الاستنفار مع حملة لجهاز الأمن العام بمسماه الجديد “إدارة الأمن العام” استهدفت منظمي المظاهرات وصادرت منهم مركباتهم وأجهزة صوت يستخدمونها خلال الهتافات، إلى جانب الاعتداء عليهم بالضرب والتهديد بالاعتقال.
ويرى أحمد الفارس – اسم مستعار لأحد منظمي الحراك المناهض لتحرير الشام – أنّ الجولاني لم يحقق مبتغاه في تحجيم الحراك وفشل تدريجيًا من خلال تجاهل المطالب الشعبية، ما دفعه إلى ترهيب المحتجين والمتظاهرين بأدواته العسكرية والأمنية.
ولفت الفارس إلى أن تحرير الشام حمّلت ما لا يقل عن 8 اعتداءات بدنية ولفظية طالت نشطاء الحراك وممتلكاتهم خلال شهري أبريل/يسان ومايو/أيار، لعناصرها، وبررت تلك الحوادث بأنها “تصرفات فردية” أو “مشكلات شخصية”.
وحمّل الفارس زعيم تحرير الشام، المسؤولية الكاملة عن سلامة المتظاهرين والنشطاء وحقهم في المطالبة بحقوقهم بكامل الحرية وتحت سقف القانون، معتبرًا أنّ مشاركة عدة ألوية عسكرية في تحرير الشام، بالإضافة إلى أجهزتها ووحداتها الأمنية وعناصر وزارة الداخلية في التشبيح على المحتجين والمتظاهرين ما كان ليتم لولا موافقته، حسبما ذكر لموقع “نوت بوست”.
مواقع التواصل الاجتماعي وغرف الدردشة المحلية ضجّت بدعوات للمشاركة بالمظاهرات ضد هيئة تحرير الشام وكل أذرعها الأمنية والمدنية وعدم الخضوع لمحاولاتهم في ترهيب المدنيين وقمعهم باستخدام القوة.
وترافقت تلك الدعوات مع تحذيرات ومطالبات بضبط النفس أمام استفزازات عناصر تحرير الشام وعدم الخوض في أي نوع من الصدام المباشر معهم، نظرًا لأن قيادة تحرير الشام لم تخرج بأي تصريح حتى اللحظة عن الأحداث الأخيرة، الأمر الذي فُهم كضوء أخضر لممارسات عناصرها الذين لم ولن تتم محاسبتهم على تلك الأفعال، وفقًا لحديث أحد منظمي الحراك الذي حرص على عدم كشف هويته لدواعٍ أمنية.
ويرى وائل علوان الباحث في مركز جسور للدراسات أن ما حدث أمس يوحي بكمية الضغط الحاليّ على الهيئة سواء داخليًا أم خارجيًا، وهذا الضغط ربما ولد لدى قيادة الهيئة قرارًا بالتدخل الأمني، وهذا القرار الذي لا يعتقد جل المراقبون للمشهد أنه قرار سليم، ورغم أن الهيئة كانت متأنية فعلًا وتدرس خياراتها، لكنها تخشى فعليًا من توسع دائرة الحراك ضدها وتفقد قدرة التعامل معه أو إنهائه حين تريد، وأن يتسع الخرق على الراقع، على حد وصف علوان.
بدأت تلك الملفات تتكشّف للعلن قبل قرابة 3 أشهر، عندما وجّه الجولاني مدعومًا بتيار بنش في تحرير الشام، والذي يقوده أشقاء زوجته والمسيطرون على جهاز الأمن العام وبعض الألوية العسكرية والملفات الاقتصادية، اتهامات العمالة
وأضاف علوان أنه رغم تأكيدات قيادة الهيئة خلال جلساتها مع الحواضن الشعبية وقادة الحراك ضدها بأنها لن تذهب للعنف، فإن طبيعتها كتنظيم أمني وعدم قدرتها على تنفيذ جملة الإصلاحات الضخمة التي وعدت بها، تجعلها تعود للخيار الأمني.
ويرى أنها الهيئة كانت تراهن على عامل الزمن وعلى سياسية قضم الحراك من الداخل عبر ثني تيارات معينة داخله من الاستمرار فيه أو تحييد الكثير من القوى الداخلية والخارجية من المشاركة بالحراك، وهذا ما ظهر حين كانت الشخصيات والقوى العسكرية المناوئة للجهاز الأمني هي التي شاركتته عملية الانتشار الأمني والعسكري شمال غرب سوريا.
وتوقع وائل أن الانتشار الأمني الذي حدث البارحة هو اختبار لخيار استعمال العنف من الهيئة، لترى ردة الفعل عليه وهو ما ظهر أنه لم يكن هناك ردة فعل واسعة عليها بعد تحييد العديد ممن كانت تتوقع ردات فعل خطيرة منهم كالعسكريين والعشائر والوجهاء، وعليه ستمضي الهيئة بخيار تفكيك الحراك دون صدامات واسعة جدًا مع الحواضن الشعبية.
وعزف العديد من النشطاء ممن تواصل معهم “نون بوست” عن الحديث عن مآلات التصعيد القمعي لتحرير الشام، منوهين إلى أن الشعب السوري الذي واصل ثورته منذ 13 عامًا ضد نظام بشار الأسد مدعومًا بجيوش حلفائه وميليشيات محلية وإقليمية ومذهبية، لن يستسلم في وجه فصيل عسكري احتضنته ذات الثورة، ليفرض نفس بالإكراه والخديعة كسلطة أمر واقع على المنطقة المحررة في محافظة إدلب وأجزاء من أرياف المحافظات المتاخمة لها.
وتشهد محافظة إدلب منذ أواخر فبراير/شباط الفائت مظاهرات واحتجاجات أسبوعية ويومية ضد هيئة تحرير الشام، تطالب بعزل قائدها أبي محمد الجولاني، وحل جهاز الأمن العام وتبييض السجون، والكشف عن مصير معتقلي الرأي، والسماح بحرية التجارة والاستيراد دون ضرائب مجحفة، وتشكيل مجالس إدارة مدنية دون تدخل أو إشراف من تحرير الشام.
وخرجت المظاهرات حينها على خلفية الخلاف الحاصل بين الجناح العسكري للهيئة وجهازها الأمني، والذي فضح عشرات من ملفات الفساد التي يديرها الجولاني والمقربون منه.
وبدأت تلك الملفات تتكشّف للعلن قبل قرابة 3 أشهر، عندما وجّه الجولاني مدعومًا بتيار بنش في تحرير الشام، والذي يقوده أشقاء زوجته والمسيطرون على جهاز الأمن العام وبعض الألوية العسكرية والملفات الاقتصادية، اتهامات العمالة للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش” ولقاعدة حميميم الجوية الروسية في سوريا وغيره.
ومنح أبو محمد الجولاني صلاحيات غير محدودة لجهازه الأمني باعتقال أي شخصية قيادية يرد ذكر اسمها في التحقيقات، واستخدام كل الأساليب لانتزاع الاعترافات، وسرعان ما بدأ بالإفراج عن المتهمين مانحًا إياهم “صكوك براءة” ممّا نُسب إليهم، مدعيًا في أكثر من موقف أنه لم يكن يعلم بوجود ظلم في سجونه، وأنه سيتولى بنفسه القصاص من المسؤولين الأمنيين لاستخدامهم التعذيب، متوعّدًا بمتابعة قضية الاتهامات الباطلة ومحاسبة من يقف خلفها.