يحيي الشعب الفلسطيني الذكرى 76 للنكبة في ظل مرحلة شديدة الحساسية، فبعد السابع من أكتوبر أصبحت القضية الفلسطينية أمام محطة محورية، فما أنتجه الهجوم الضخم للمقاومة الفلسطينية على المواقع العسكرية في غلاف غزة، يحمل في طياته فرصة لنهوض القضية الفلسطينية أو تهديدًا قد يفاقم من أزمته.
الرهان على الإرادة السياسية للفلسطينيين، وقدرتهم على تحويل المتغيرات التي حلّت بالقضية الفلسطينية بعد عملية “طوفان الأقصى” في الاتجاه الإيجابي لمستقبل القضية، وكسر إرادة الاحتلال الإسرائيلي الذي يسعى إلى تأبيد مفاعيل النكبة واستمرارها بصور وأشكال مختلفة على الشعب الفلسطيني.
عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة إقليميًّا كمفتاح لأي ترتيب سياسي إقليمي، وتحولها إلى قيمة تحررية لدى عدد من الحراكات العالمية، والأهم الضرر الذي أصاب المشروع الصهيوني في فلسطين، كل هذه مكتسبات حققتها القضية الفلسطينية خلال الفترة الماضية، يقابلها إمكانية أن يكون الدمار الذي حلَّ في القطاع بوابة لحلّ إقليمي جديد، كما أن الأضرار التي أُلحقت بالمجتمع الصهيوني قد تدفعه بعض القوى فيه إلى التصعيد في عنفها الموجّه نحو المجتمع الفلسطيني، وتحديدًا في الضفة الغربية.
العودة إلى مركزية فلسطين
حتى مساء 6 أكتوبر/ تشرين الأول كان من الواضح أن مسارات التطبيع ما بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والدول العربية تمضي قدمًا، وأن مقولة “مركزية القضية الفلسطينية” أصبحت من مقولات الزمان الغابر، لا سيما مع اقتراب التطبيع السعودي الإسرائيلي الذي أُراد أن يكون قمة التقارب العربي الإسرائيلي.
في أغسطس/ آب 2023، قبل شهرَين من هجوم السابع من أكتوبر، صرّح وزير الخارجية الإسرائيلي أن بلاده تأمل في أن تصل إلى اتفاق تطبيع مع السعودية بحلول مارس/ آذار 2024، كما راهن الرئيس الأمريكي على أن يكون التطبيع السعودي الإسرائيلي الإنجاز الخارجي الأهم قبل دخول المعترك الانتخابي، فيما رأت الإدارة الأمريكية بالاتفاق فرصة لخلق ترتيب أمني مستقر في المنطقة، تكون اتفاقيات التطبيع العربية وتحديدًا الخليجية عماده الأساسي.
وكان واضحًا أن مسار التطبيع العربي الإسرائيلي والسعودي بشكل خاص من أوائل ما تعطّل، نتيجة لعملية “طوفان الأقصى” وطبيعة الرد الإسرائيلي اللاحق الذي تحول إلى عميلة إبادة جماعية بحقّ المجتمع في غزة، جعلت من أي عملية تقارب سعودي أو عربي إسرائيلي بمثابة مغامرة سياسية غير محسوبة.
لم يقتصر الأمر على المستوى الرسمي، فشعبيًّا كثفت بعض الأنظمة العربية من هجومها على القضية الفلسطينية، محاولةً تشويه وضرب مكانة القضية الفلسطينية لدى شعوبها، وأظهرت نتائج الحرب في غزة فشل هذه الجهود التي عززها السلوك الإسرائيلي الهمجي في القصف والتدمير، والذي وصل إلى تنفيذ عملية إبادة جماعية بحقّ قطاع غزة.
فبعد أن جرى تقديم “إسرائيل” كدولة يمكن لها أن تكون صديقة للشعوب العربية، عادت لتحتلّ موقعها التقليدي كدولة عدو تتبع كل الأساليب الإجرامية في التعامل مع الشعب الفلسطيني.
من البحر إلى النهر وعودة فلسطين عالميًّا
شكّلت ردة الفعل الإسرائيلية والمجازر التي ارتكبتها في قطاع غزة صدمة للضمير العالمي، الذي وجد أمامه دولة يهدّد وزير دفاعها بقطع الطعام والشراب ويصف منطقة كاملة بـ”الحيوانات البشرية”، لتتحول الرواية الإسرائيلية من الأرجح والأقوى في الرأي العالمي إلى الأضعف والأقل حضورًا مقارنة بالرواية الفلسطينية.
وساهمت مقاضاة دولة الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية، والدعاوى القضائية أمام محكمة الجنائية الدولية، في تعزيز صورتها كدولة مارقة، والأهم متحالفة مع اليمين الغربي في مواجهة اليسار التقدمي، الذي منحته القضية الفلسطينية فرصة للعمل على قضية عادلة وجامعة لمكوناته، حيث التظاهر لفلسطين ومعها أخذ عدة صور، بدءًا من المظاهرات العامة وصولًا إلى احتجاجات الجامعات الأمريكية.
وتأثرت مجتمعات الشتات العربي والإسلامي بما يجري في فلسطين في تنظيم نفسها، ودخول المجال العام من بوابة الاحتجاج على المشروع الصهيوني وسلوكه في فلسطين، كما أتاحت الحرب في فلسطين لهذه المجتمعات أن تتصل مجددًا مع فلسطين والقضية الفلسطينية التي تحولت إلى مكون هوياتي لها، خاصة بعد ردة الفعل الرسمية واليمينية الداعمة لـ”إسرائيل” وسلوكها في غزة.
اتصالًا بما سبق، أثار شعار “من البحر إلى النهر” نقاشًا كبيرًا في الأوساط الغربية، فأهميته تكمن في إعادة الاعتبار لفكرة سكان “فلسطين التاريخية” بعد أن حُصرت القضية لسنوات في الضفة وغزة، كما أن السابع من أكتوبر أعاد طرح السؤال التاريخي مجددًا، فالاحتلال الإسرائيلي في فلسطين متّصل بحدث النكبة وأحد أهم مظاهره.
أهمية السياق في تفسير ما يجري في فلسطين، تظهر من المحاولات الدائمة لنزع “تاريخية” الأزمة في فلسطين، ومحاولة حصرها في قوالب راهنة كـ”محاربة الإرهاب” أو “مشكلة التعايش بين السكان” وغيرهما، دون النظر إليها كأزمة سكان طُردوا من أرضهم واُحتلّ ما تبقى منها، والحل لهذه القضية لا يكون دون العدالة والحرية في المنطقة الممتدة ما بين البحر والنهر.
الضرر بالمشروع الصهيوني
أظهر هجوم السابع من أكتوبر وما بعده من أحداث، أن المناعة والقوة التي تغنّت بها “إسرائيل” تاريخيًّا تواجه صعوبات جمّة في التعامل مع الخطر الأمني على الجبهة الجنوبية مع قطاع غزة، والشمالية مع “حزب الله”.
بالإضافة إلى الفشل في التنبّؤ وصدّ الهجوم الذي شنّته حركة حماس على مواقع فرقة غزة، حيث ظهر جيش الاحتلال غير قادر على الحسم في المواجهة مع فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وتفكيك قدراتها العسكرية، كما اضطر جيش الاحتلال إلى تقبُّل الوضع على الجبهة الشمالية مع “حزب الله” في مواجهة تنخفض وتزداد كثافتها.
لا يقتصر أثر المجزرة على قطاع غزة ومستقبله، بل يمتد إلى بقية المناطق الفلسطينية، فالسقف الإجرامي الإسرائيلي المرتفع في التعامل مع قطاع غزة يجعل من إمكانية تنفيذه في مناطق أخرى ممكنًا
وشكّل الهجوم الإيراني وسوء تقدير جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي لطبيعة ردة الفعل على هجوم القنصلية الإيرانية، وحاجة “إسرائيل” للتغطية الغربية من الدفاعات الجوية، النقطة التي أظهرت “إسرائيل” وجيشها بمستوى ضعيف في ظلّ الرهانات السابقة عليه كقوة حامية في المنطقة.
ولا تقتصر آثار الحرب على الجهد العسكري بل تمتد إلى المجتمع الإسرائيلي نفسه، الذي تزداد فيه شعبية اليمين وقوته خاصة في المؤسسة العسكرية، هذا الأمر يعني في جانب أساسي منه تزايد عزلة المشروع الصهيوني عن مصدر قوته، المتمثل باتصاله مع الغرب ومنظومته القيمية.
في مقابل هذه الفرص التي يمكن لها أن تشكّل مسارات عمل حقيقية للقضية الفلسطينية، وأن تنقلها إلى وضع أفضل، توجد مجموعة من المسارات المقابلة التي يمكن أن تؤدي إلى مزيد من “الانتكاب” الفلسطيني.
السياسة من على كومة الأنقاض
تركت عمليات جيش الاحتلال في غزة دمارًا غير مسبوق طال جميع مناحي الحياة، من البنية التحتية إلى المراكز السكنية، وصولًا إلى البناء المجتمعي نفسه الذي تعرّض لاختلال واضح، بعد خسارة أكثر من 35 ألف شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى ونزوح الجزء الأكبر منه.
هذا الدمار يحتاج إلى سنوات من إعادة الإعمار، فوفقًا لتقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لو سُلّمت مواد البناء بطريقة أسرع 5 مرات ممّا كان عليه الوضع عام 2021، فإن إعادة الإعمار قد تكتمل في عام 2040.
الدمار الذي تركته “إسرائيل” لم يكن عرضيًّا بل يأتي في صميم الاستراتيجية الإسرائيلية (عقيدة الضاحية نموذجًا)، حالة الخراب وضرورة إعادة الإعمار والحيلولة دون أن تتحول غزة إلى مكان غير صالح للحياة، قد تشكّل مادة تستخدم في تبرير وتمرير عملية تطبيع العلاقات ما بين الاحتلال الإسرائيلي وأي طرف عربي، وهذا ما سعت إليه الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة، عبر محاولة إحياء مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي الذي يعيقه التعنّت الإسرائيلي في عدد من الملفات.
أثر المجزرة
حتى هذه اللحظة نفّذت “إسرائيل” مجزرة حقيقية في المجتمع الفلسطيني في غزة، وفي ظل تعطُّل عملية إعادة الإعمار فإن قدرة المجتمع الفلسطيني على التعافي من آثار المجزرة يظل صعبًا، ما يعني المزيد من انكشاف المجتمع أمام الإرادات والمشاريع السياسية المعادية.
خاصةً أن عمليات التقتيل والتدمير شملت كافة شرائح المجتمع، وتحديدًا الوسطى التي تعرضت كذلك لعملية إفقار ممنهجة بعد أن استنزفت أيام الحرب الطويلة مدخراتها وقدراتها المالية، ما يزيد من حالة انكشافها أمام أي تغييرات سياسية.
ولا يقتصر أثر المجزرة على قطاع غزة ومستقبله، بل يمتد إلى بقية المناطق الفلسطينية، فالسقف الإجرامي الإسرائيلي المرتفع في التعامل مع قطاع غزة يجعل من إمكانية تنفيذه في مناطق أخرى ممكنًا، كالتهديد بتهجير سكان المناطق (C) في الضفة الغربية، أو اتخاذ سياسات أكثر تشددًا تجاه فلسطينيي الـ 48.
ختامًا.. إرادة الفلسطينيين هي المحدد
ينتمي حدث السابع من أكتوبر إلى الأحداث التاريخية المفصلية التي تفتح مراحل جديدة من التاريخ وتغلق أخرى، هذا المراحل الجديدة لا تتشكل من ذات نفسها، بل تساهم إرادة الفاعلين في تشكيلها ورسم معالمها، وكذلك الوضع مع الشعب الفلسطيني اليوم.
في ذكرى النكبة من الممكن أن يكون الواقع الذي شكّله السابع من أكتوبر مؤسسًا لحالة نضالية جديدة تصل إلى تحرر الشعب الفلسطيني من نير الاحتلال، أو إلى حالة من الانتكاس التاريخي تساهم في تراجع الشعب الفلسطيني ومشروعه للتحرر من الاحتلال.
ما يحدد ذلك هو إرادة الشعب الفلسطيني وقدرته على تعظيم مكتسابته والحدّ من خسائره، هذه العملية لا يمكن لها النجاح دون امتلاك تصور شامل لطبيعة المرحلة المقبلة بما تحمله من فرص وتهديدات، وتوحيد كافة قوى الشعب الفلسطيني والإصلاح المؤسساتي، والأهم القدرة على تجاوز النماذج القديمة في ممارسة العمل السياسي ومواكبة طبيعة المرحلة.