شكّل النوم لغزًا حيّر العلماء والفلاسفة منذ آلاف السنين، كما سعت وتسعى الدراسات والأبحاث الحديثة لتقديم العديد من النظريات والفرضيات وتوفير الأدلة والاستنتاجات حول ما يمكن أن يفعله النوم لكلٍ من الدماغ أو العقل من جهة، والجسم من جهةٍ أخرى.
يُعرّف النوم علميًّا بأنه حالة طبيعية من الاسترخاء عند الكائنات الحية تقل خلاله الحركات الإرادية للجسم والشعور بما يحدث في محيطه، ولا يمكن اعتبار النوم فقدانًا للوعي, بل تغيرًا لحالة الوعي، ولهذا السبب ما زال هناك الكثير من التساؤلات والفرضيات حياله ووظائفه الحيوية عوضًا عن سيكولوجيته.
يُنتج الدماغ حالتين متمايزتين من النوم، إحداهما تُسمى مرحلة النوم البطيء والأخرى هي مرحلة الحركة السريعة للعينين
ونظرًا للعديد من الأبحاث التي تم إجراؤها في هذا المجال على الحيوانات والإنسان، فيمكن القول مبدئًا بأنّ النوم يلعب دورًا كبيرًا وأساسيًا في تصفية الذهن وتجديد خلايا الجسم وتنظيف الدماغ من السموم والفضلات التي تتجمع فيه خلال النهار. إضافةً للفوائد الجمى التي يقدّمها للوظائف الإدراكية والمعرفية مثل الذاكرة والتعلم، أو حتى أدواره الحيوية في تنظيم المزاج والشهية والرغبة الجنسية.
ولنجيب عن سؤال ماذا يحدث في الدماغ أثناء النوم، يجب علينا قبل كلّ شيء فهم المراحل التي يحدث فيها النوم عند الإنسان. إذ يُنتج الدماغ حالتين متمايزتين من النوم، إحداهما تُسمى مرحلة النوم البطيء ” slow-wave sleep (SWS)” ويُطلق عليها أحيانًا مرحلة النوم العميق. والمرحلة الثانية هي مرحلة الحركات السريعة للعينين ” rapid eye movement (REM)” وتُسمّى أيضًا “مرحلة الأحلام”.
غالبية الوقت الذي نقضيه بالنوم يكون في إطار مرحلة النوم البطيء، وهي الأكثر تعقيدًا وتمتاز بموجات دماغية كبيرة لكنها بطيئة، ما يؤدي لاسترخاء العضلات وزيادة التنفس العميق، وهدفها الأساسيّ مساعدة الدماغ والجسم على التعافي بعد يومٍ طويل ومرهق والاستعداد لما بعده.
يلعب النوم دورًا كبيرًا في الذاكرة والقدرات المعرفية والإدراكية للدماغ بالإضافة لعملية اتخاذ القرارات عند الإنسان
العديد من الدراسات أشارت إلى أنّ الخلل في هذه المرحلة من النوم ينعكس سلبيًا على الذاكرة وقدرات الدماغ الإدراكية والتعلمية، مثل حفظ الذكريات القديمة وتعزيزها وتشكيل الجديدة منها والربط بينهما، وبالتالي فإنّ أي خللٍ في النوم يمكن له أنْ يكون ذا تأثيرٍ سلبيّ على الحصين ” hippocampus“، وهي منطقة الدماغ المسؤولة عن خلق الذاكرة وعملياتها.
تتعرّض خلايا الدماغ أثناء النوم لعمية من الانكماش والتقليص المستمرة والتي تتيح المجال لزيادة فعالية الذاكرة وقدرات التعلم، ففي حين تنكمش الخلايا الضعيفة، تتساقط معها أي ذكريات ضعيفة لا لزوم لها جمعها الدماغ أثناء يقظته، ما يتيح المجال للذكريات القوية والراسخة بالسيطرة وبالبقاء لفترة أطول.
كما يلعب النوم دورًا كبيرًا في عملية اتخاذ القرارات عند الإنسان. فوفقًا لإحدى الدراسات، فإنّ الدماغ يعالج المحفزات المعقدة أثناء النوم، ويستخدم هذه المعلومات لاتخاذ القرارات في حين استيقاظه. لهذا السبب، يلعب النوم دورًا هامًا جدًا في الإدراك والتعلم، فهو يساعدنا على تعزيز المعلومات الجديدة التي نتلقاها لنحسن من قدراتنا على استدعائها لاحقًا.
يؤدي النوم لتنظيف السموم والفضلات التي تتجمع في الدماغ خلال النهار
يعمل النوم أيضًا بشكل حقيقيّ على تنظيف الدماغ من السموم والفضلات التي تتجمع فيه خلال النهار، ووفقًا لبعض الدراسات فإن النوم يقوم بوظيفة تعويضية أو إصلاحية تنتج عن عملية تنظيف نشطة للمنتجات الثانوية التي تجمعت خلال فترة اليقظة. وتُعرف هذه الوظيفة باسم النظام الغليمفاتيكي، وتتميز بأخذ خلايا الدماغ لمنحىً يصغر فيه حجمها حجمها وذلك لإعطاء المجال أمام عملية تنظيف السموم لتتم بشكل أكثر فاعلية، ويعتقد أنه عند تراكم السموم فإنها تؤدي لأمراض عدة مثل أمراض الذاكرة وألزهايمر.
وتبين للعلماء أن النظام الغليمفاتيكي يعمل عبر ضخ السائل الدماغي الشوكي عبر أنسجة الدماغ ليغسل معه السموم والفضلات وينقلها باتجاه الدورة الدموية والكبد. ويتكهن العلماء أن عملية التنظيف هذه لا تتلاءم مع الوظائف الدماغية أثناء اليقظة، إذ أنّها تحتاج لطاقة كبيرة يعجز الدماغ عن توفيرها خلال اليقظة، وبالتالي يكون أمام خيارين اثنين: إما الاستيقاظ أو التنظيف، ولا يمكنه القيام بالوظيفتين معًا، فتتم عملية التنظيف أثناء النوم.
أهم ما يميّز مرحلة الحركة السريعة للعينين هو حدوث الأحلام خلالها، وبالتالي ما تزال تشكّل لغزًا كبيرًا
بعد مرحلة النوم البطيء، تبدأ المرحلة الثانية، أي مرحلة الحركة السريعة للعينين والتي تمتدّ لمدة 90 دقيقة متواصلة قبل البدء بدائرة المراحل من جديد. تُعدّ هذه المرحلة غريبة بما يحدث فيها، إذ يصبح الدماغ فيها نشطًا للغاية في حين أنّ عضلات الجسم مشلولة تمامًا، كما أنّ معدّلات ضربات القلب والتنفس تصبح غير منتظمة.
سمّيت هذه المرحلة بهذا الاسم لأنّ العينين تستمران بالحركة بسرعة وراء الجفون المغلقة. ولا تزال هذه المرحلة تشكّل لغزًا كبيرًا على الرغم من كلّ الفرضيات والتوقعات التي وُضعت بخصوصها، أو حتى على الرغم من فهمنا المتزايد والمتسارع للكيمياء الحيوية وعلم الأعصاب والدماغ، إلا أنّ أهم ما يميّزها هو حدوث الأحلام خلالها، وربما هذا السبب وراء الحيرة حيالها، إذ ما تزال الأحلام لغاية يومنا تشكّل لغزًا كبيرًا تحوم حوله التساؤلات والفرضيات غير الأكيدة.
هناك مجموعة صغيرة في جذع الدماغ تُسمى ” subcoeruleus nucleus” تقوم بالتحكّم بمرحلة الحركة السريعة للنوم، وأي خلل أو إصابة في هذه الخلايا يؤدي لعدم استشعار الأفراد للشلل الذي يجب أن تكون عليه العضلات أثناء النوم، وبالتالي يُصبح من السهل عليهم تحريك أجسامهم أثناء النوم بطريقة مرضية تختلف عن المشي أثناء النوم الذي يُعدّ غير خطير في كثير من الأحيان. وتكمن خطورة حركة العضلات هذه حين يبدأ الجسم بالتحرّك وفقًا للأحلام التي يراها والتي قد تؤدي لحركاتٍ عنيفة أو خطرة.
وبالتالي، يمكن للحرمان من النوم أو الأرق أو أشكال أخرى من الاضطرابات المتعلقة بالنوم أن تؤدي إلى ضعف الذاكرة وإمكانيات التعلم والقدرة على اتخاذ القرارات، بالإضافة أصلًا للآثار السلبية على المزاج والإنتاجية أو تعطّل الحياة اليومية والأنشطة الروتينية المعتادة.