لم تشهد الأمة العربية عبر تاريخها الحديث والمعاصر قضية عانقت فكرة القومية كالقضية الفلسطينية، تلك القضية التي ارتبطت ارتباطًا لصيقًا بالقومية العربية، فكانت ترمومترها الأكثر موضوعية، صعودًا وهبوطًا، فيما استُحدث تقييم جديد لمفاهيم الكرامة والعزة العربية، حُدد بمدى القرب أو الابتعاد عن تلك القضية.
ورغم بزوغ فجر القومية العربية نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث سقوط معظم البلدان العربية في قبضة الاستعمار (تونس والمغرب والجزائر تحت سيطرة فرنسا – مصر والسودان تحت الهيمنة البريطانية – موريتانيا وسبتة ومليلة تحت الاحتلال الإسباني، وليبيا تحت الاستعمار الإيطالي)، فإن العصر الذهبي لهذا الفكر كان مع النكبة وبداية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، حتى تحولت القضية الفلسطينية إلى قلب القومية العربية، وهناك من لا يفرق بين المفهومين، فكلاهما وجهان لعملة واحدة بحسب مؤرخين وساسة.
وظلت القومية الحصن الحصين للعديد من التجارب النضالية الثورية العربية للتخلص من ربقة الاستعمار، لكن سرعان من خفت حضورها بشكل كبير بسبب الانقسامات الأيديولوجية وتباين الرؤى والتوجهات والصراع على المكاسب، وهو ما عرضها لنكسات وضربات مؤلمة على مدار الخمسينية الأخيرة.
ومع بداية حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وفي الوقت الذي خذلت فيه الأنظمة العربية المحاصرين في القطاع، في ظل المقاربات والحسابات السياسية الخاصة، تساءل البعض عن القوميين ومعتنقي الفكر الثوري التحرري في مختلف البلدان العربية وهم كثر، فهم أولى بتلك القضية التي تمثل عصب بقاء هذا التيار ومقوم استمراره الوحيد.
فلسطين عصب القومية العربية
– تقوم فلسفة القومية العربية على ركيزة أن الشعوب العربية في إفريقيا والشرق الأوسط منحدرة من جذور عرقية واحدة، لها تاريخ مشترك، وتجمعها لغة وثقافة وإرث ودين واحد، وتتشابك فيما بينها بحدود جغرافية غير فاصلة، وعليه من المنطقي أن يجتمع كل هؤلاء في بوتقة فكرية أيديولوجية واحدة تسمى “القومية العربية”.
– ظهر هذا الفكر ابتداءً أواخر القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20، حيث مناهضة الدولة العثمانية آنذاك، وظهور فكرة “الوطن” في مواجهة السلطنة، وكانت البداية في إطار السرية عن طريق بعض الشخصيات والأحزاب، ثم ظهرت للعلن كحركة اتخذت من العاصمة بيروت مقرًا لها، بعد ذلك أصبحت حركة سياسية بعد عقد المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1912.
– مع سقوط الخلافة العثمانية وبداية عصر الاستعمار الأوروبي توسع هذا الفكر أفقيًا ليشمل العديد من الدول أبرزها سوريا والعراق ولبنان وغيرها، وبات العمل من أجل التحرر من هذا الاستعمار عبر النضال المسلح هو السمة الأبرز لأنصار هذا التيار الذي تعزز أكثر بثنائية المواطنة والاندماج بين المسلمين والمسيحييين.
– وبعد أفول مرحلة الاستعمار الغربي، وحصول معظم البلدان العربية على استقلالها، ظهرت القضية الفلسطينية كعصب القومية العربية، وجدارها الأبرز، وتحولت فلسطين إلى قبلة الثوريين العرب الباحثين عن التحرر من ربق الاحتلال الأجنبي، وظلت الشعارات المطالبة بتحرير الأراضي الفلسطينية كافة تخيم على كل الفعاليات الرسمية والشعبية في بلدان العالم العربي.
– وتكتسب فلسطين أهميتها من كونها واسطة العقد للوطن العربي، بخلاف مكانتها المكانية والزمانية، فهي حلقة الوصل بين مشرق الوطن العربي ومغربه من جانب، وبين شرق العالم وغربه من جانب آخر، بجانب بعدها الروحي المكتسب من احتضانها للمسجد الأقصى وما له من رمزية دينية وتاريخية، ومن هنا احتلت مكانة بارزة في معادلة الأمن القومي العربي، ذات وضعية مقدسة لدى وجدان وضمير المواطن العربي.
– ومن هنا أصبحت فلسطين وقضيتها بصفة عامة المعيار الأكثر موضوعية وشيوعًا لقياس وطنية وقومية أي نظام أو حزب أو تيار، يتوقف ذلك على المسافة التي يتخذها هذا التيار من القضية، ومدى موقفه منها ومن تحريرها ومن الاستعمار الصهيوني في المجمل، كما أصبحت القضية الفلسطينية الطريق الأقصر نحو تحقيق الوحدة العربية ووحدة النضال وتوحيد إمكانيات وقدرات وطاقات الأمة العربية.
حركة القوميين العرب
– جاءت نكبة فلسطين عام 1948 لتدق ناقوس الخطر بشأن ضرورة أن يتوحد القوميون تحت راية واحدة، ومن ثم جاءت فكرة تدشين “حركة القوميين العرب” التي تأسست في أعقاب النكبة واتخذت من العاصمة اللبنانية بيروت مقرًا لها، وضمت في صفوفها شخصيات فلسطينية وأردنية وعراقية وكويتية، على رأسهم أحمد الخطيب، وجورج حبش، وحامد الجبوري، وهاني الهندي، ووديع حداد، وصلاح الدين صلاح.
– كان تأسيس الحركة سريًا بداية الأمر، كما انبثق في بدايته عن نشاط جمعية “العروة الثقافية” التي نجحت في استقطاب العديد من الشباب العربي المؤمن بفكرة القومية، وبالتزامن مع نشأة الحركة خرجت هناك جماعات أخرى سرية تتبنى نفس الموقف الفكري ومنها “كتائب الفداء” في سوريا التي تأسست عام 1949.
– اتخذت حركة القوميين العرب شعارًا أساسيًا تحت عنوان “وحدة، تحرر، ثأر” واعتمدت العمل الثوري المسلح طريقًا لها لتحرير فلسطين، لكنها اصطدمت ببعض العراقيل الأيديولوجية على رأسها فشل الاندماج مع حزب البعث السوري وقتها، الذي لم يكن تحرير فلسطين أولوية بالنسبة له، كذلك الفشل في الانضمام للحركة الشيوعية العالمية التي رغم تناغم أفكارها مع الحركة القومية، فإنها أيدت مشروع تقسيم فلسطين وعليه تم إلغاء فكرة الانضمام.
– منذ عام 1952 بدأت الحركة تعمل سريًا في الأردن، وكانت تهدف إلى محو الأمية عبر إقامة مدارس وفصول لتعليم القراءة والكتابة، كذلك توفير المناخ الصحي الملائم، في محاولة لبناء جيل قوي ومتعلم لحمل الراية وتنفيذ أهداف ومخططات الحركة الرامية إلى سحق الاحتلال وإخراجه من الأراضي العربية.
– في تلك الأثناء كان العزف على وتر “الوعي” هدفًا رئيسيًا للحركة، حيث تم إنشاء مجلة “الرأي” في ذات العام، تحت إشراف وإدارة القيادي الدكتور أحمد طوالبة، التي لعبت دورًا كبيرًا في توعية الرأي العام الأردني بشأن القضية الفلسطينية.
– في عام 1956 عقدت الحركة مؤتمرها الأول في العاصمة الأردنية، وهو المؤتمر الذي رسم الخط السياسي العام لها، مؤكدًا على أن الكفاح المسلح وحق العودة للاجئين ورفض التقارب مع الاحتلال على رأس الأهداف التي يسعى هذا الكيان لتحقيقها، مع العمل على توسيع نشاطها في العديد من الدول العربية مثل لبنان والكويت والعراق والأردن وتبعها نشاط في مصر، ثم وصل نشاطها ليضم ليبيا واليمن وعدد صغير من دول الخليج.
– عانت القومية العربية كثيرًا كأيديولوجيا من مأزق حقيقي يتعلق بالهدف والحدود والمسارات، ولم تستطع الإجابة عن الكثير من التساؤلات التي تشكل صلب نشأتها وعملها مثل: ما مفهوم الأمة العربية؟ وما حدودها؟ وما هو شكلها المراد والمستهدف؟ هذا بجانب عدم اقتناع الشارع العربي بأكمله بتلك الإيديولوجيا، وهو ما يفسر عدم انتشارها في مصر على سبيل المثال، وهو ما أكده المفكر المصري أحمد أمين في كتابه “حياتي” حين أشار إلى أنه سمع عن وحدة الأمة العربية من المحيط للخليج لأول مرة عام 1954 حين تحدث مع عدد من الطلاب من بلاد الشام كانوا يحاولون إقناعه بتلك الفكرة، ما يعني أن الفكرة لم تكن مطروحة في كل أرجاء الوطن العربي، إذ لم تكُن عامل جذب لدى المصريين مثلما كانت في بلاد الشام وبالأخص سوريا ولبنان، وفق ما نقل عنه الصحفي الفلسطيني جبران مساد.
وأرجع مساد الفتور المصري عن فكرة القومية العربية بداية الأمر إلى المراحل التي مر بها المصريون وأثرت في تكوينهم الفكري والأيديولوجي، والتي كانت بعيدة بشكل واضح عن البعد القومي، بداية من المرحلة العثمانية ثم المرحلة الوطنية بثورة عام 1919 وصولًا إلى المرحلة الناصرية والتي أصبح للهوية الوطنية المصريّة بُعدًا قوميًا، بعد عام 1956.
النكسة وصدمة القوميين
– كانت نكسة 1967 مرحلة فاصلة في تاريخ القومية العربية بصفة عامة، حيث جاءت تلك السقطة في وقت كانت تحيا فيه القومية أوج عزها وعنفوانها وحضورها الشعبي، فضلًا عن تصاعد منسوب الآمال المعلقة عليها في خدمة مسار التحرير أسوة بما حدث في بعض البلدان العربية التي تخلصت من ربقة الاحتلال.
– ما قبل النكسة، كانت القضية الفلسطينية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمحيطها وعمقها العربي، وصل إلى حد التداخل بين ما هو فلسطيني وما هو عربي، ومُنحت القضية الفلسطينية زخمًا عربيًا ما مُنحته من قبل، حيث أصبحت القضية المركزية الأكثر استحواذًا على منظومة الفكر القومي العربي.
وفي تلك الأثناء خرجت بعض المبادرات الخاصة بالوحدة العربية التي كانت تصب في النهاية في صالح مشروع التحرر الفلسطيني كأحد معطيات القومية العربية، فكانت التجربة المصرية السورية، ثم المصرية السورية العراقية، غير أن فشل التجربتين أصاب القوميين بصدمة كبيرة.
– وتبدل الحال كثيرًا بعد النكسة، فتضخمت الانقسامات العربية – العربية، ودخلت الأنظمة السلطوية في صراع مع التيارات القومية، وزاد التوتر والصداع مع بداية مرحلة التطبيع، وقبول دولة الاحتلال كلاعب أساسي في المنطقة، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، ثم وادي عربة مع الأردن، ما أصاب البعد القومي بصدمة عنيفة في مساره السياسي.
– حتى المسار الديني الذي شكل لسنوات ضلعًا أساسيًا في الفكر القومي العربي – كون أن أحد محركات الدفاع عن فلسطين هو الدين والعقيدة وتحرير المسجد الأقصى – تعرض هو الآخر لانتكاسة كبيرة، وتشكيك في أهدافه وتوجهاته، فبينما انتفض الإسلاميون والجهاديون للقتال في الشيشان وأفغانستان والعراق وليبيا، لم يلتفت أحد إلى القدس والمسجد الأقصى رغم أهميتهم القصوى دينيًا وتاريخيًا.
– وشيئًا فشيئًا بدأ شعار “فلسطين قضية العرب الأولى” الذي هيمن لسنوات على الخط الفكري العربي العام، يختفي نسبيًا من على الساحة الثقافية والسياسية، بعدما بدأت كل دولة تتحرك بشكل برغماتي بحت، منساقة بمقاربات وحسابات أبعد ما تكون عن فكرة القومية وأبجدياتها، وهو ما أدى في النهاية إلى انسلاخ الأنظمة العربية من عمقها وقوميتها خطوة تلو الخطوة، حتى تحولت القومية العربية إلى عبء على بعض الكيانات والحكومات في ظل الطموحات الهوجاء لكثير من الحكام.
– وأدت تلك الانتكاسة إلى توزيع القومية العربية على 3 تيارات واتجاهات رئيسية، أدت في النهاية إلى ضعفها وفقدان لكثير من حضورها وزخمها.
أولًا: حركة القوميين العرب التي فقدت الكثير من معطياتها لا سيما بعد اتفاقيات أوسلو وخنوع السلطة الفلسطينية لإملاءات الإمبرالية الغربية، وتخليها عن المقاومة المسلحة كخيار وحيد للتحرير.
ثانيًا: حزب البعث العربي الاشتراكي بشقيه السوري والعراقي، وهو الذي انزوى بعيدًا عن الأضواء بسبب الانقسامات التي شهدها وما تعرض له من صدمات داخلية وخارجية أفقدته توازنه وجعلت القضية الفلسطينية ومرتكزات التعاطي معها بعيدًا عن قائمة الأولويات.
ثالثًا: التيار الناصري الذي بدأ بمنحنى تصاعدي لافت للنظر ومبهر لجميع التحركات الإقليمية، لكن سرعان ما تهاوى واختفى عن الساحة بعد اتفاقية كامب ديفيد، ودخول مصر مرحلة السلام مع الاحتلال، حتى تحول التيار بأكمله إلى “قنبلة صوتية” لا تحرك ساكنًا ولا تغير واقعًا.
– ثم جاءت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 لتعيد للتيار القومي زخمه نسبيًا، لا سيما بعد حضور الفكر القومي العربي في تفاصيل تلك المعركة الفاصلة بشكل مباشر أو غير مباشر، لكن سرعان ما تبدل الحال مع توقيع اتفاقية السلام وغياب الحضور الفلسطيني عن ساحة الأحداث حينها، لتتعرض القومية العربية لضربة جديدة ربما أكثر إيلامًا مما تعرضت له عند النكسة.
بين سيناء وغزة.. 50 عامًا تفضح البون
تكشف العقود الخمسة من أكتوبر/تشرين 1973 وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2023 حجم ما تعرضت له القومية العربية من انحدار مخزي، من الانتفاضة العروبية لتحقيق الانتصار وطرد الصهاينة من الأراضي المصرية إلى العجز عن إدخال المساعدات عبر معبر رفح وعدم القدرة على سحب السفير المصري والأردني والإماراتي والبحريني والمغربي من تل أبيب، هكذا يعلق الكاتب والباحث الفلسطيني محسن صالح على ما وصلت إليه القومية في بعدها العربي.
ويرى المحلل الفلسطيني المتخصص في الشأن العربي أن السنوات الـ50 الماضية شهدت تحولات كبيرة في البيئة العربية جعلها أقل التصاقًا بالقضية الفلسطينية، بداية من حرب أكتوبر مرورًا بمسار التطبيع ومن بعده الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 ثم مبادرة الملك فهد في نفس العام، وارتضاء الأنظمة العربية للحل السلمي ومقترح الدولتين، تنحية لخيار المقاومة والنضال المسلح حتى تحرير كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، تبعها انضمام منظمة التحرير الفلسطينية لمسار التسوية، وتوقيعها اتفاق أوسلو 1993، وصولًا إلى هذا الانقسام الفاضح في المواقف الرسمية إزاء ما يتعرض له قطاع غزة، فهناك من يدعم سردية الاحتلال بشكل مخزي، ويستميت دفاعًا عن هذا الموقف الذي يغلفه بمصطلحات الموائمة والمرونة والمقاربة والبرغماتية.
وأمام هذا الارتضاء للحلول السلمية “الانبطاحية”، والرضوخ للإملاءات الإسرائيلية “المذلة” وحلفائها في الغرب، تحولت المقاومة المسلحة من واجب على القوميين العرب، وفرض عين على الشعوب العربية لدعمها بالتبرعات والتظاهرات والفعاليات، إلى عبء على الأنظمة والحكومات التي باتت تتعامل مع هذا الفكر كـ”تهديد” واضح لوجودها واستقرارها.
ثم جاء قطار التطبيع المجاني بداية من 2019 كأحد ردود الفعل العكسية للربيع العربي الذي انطلق في 2011، لتزداد القومية العربية بؤسًا وألمًا، فهرولت الإمارات والبحرين والمغرب ومن بعدها السودان نحو حظيرة التطبيع، فيما تقف السعودية على رصيف المحطة في انتظار الركوب حين تتحقق شروطها وليس رفضًا للفكرة من أساسها.
دور الهيئة العامة للاستعلامات المصرية منذ إنشائها عام 1954 مع تولي عبد الناصر رئاسة الجمهورية هو الرد على الإعلام الأجنبي والتعامل مع مراسليه. لكن اتهام إسرائيل لمصر في محكمة العدل الدولية بمسئوليتها عن عدم توصيل المساعدات لغزة عبر معبر رفح، يجب أن ترد عليه الحكومة المصرية في… pic.twitter.com/rKj33OI3uQ
— حافظ المرازي (@HafezMirazi) January 12, 2024
ويرجع “صالح” التقهقر العربي إزاء دعم المقاومة إلى 3 أسباب رئيسية: أوّلها: الانشغال بالقضايا والملفات الداخلية في ظل النزاعات والصراعات والاضطرابات التي تعرضت لها الأنظمة العربية في ظل موجات الربيع، ثانيها: ضعف الأنظمة العربية وتسليم إرادتها للخارج في محاولة لضمان الاستمرارية والبقاء في مناصبها، وهو ما سهَّل على الأمريكان – خصوصًا في عهد دونالد ترامب – الضغط باتجاه تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال.
أما ثالث تلك الأسباب، فيرجع إلى طبيعة البنية التشكيلية للمقاومة الفلسطينية المسلحة، وهيمنة البعد الإسلامي عليها، إذ تشكل قوامها الأساسي من حركتين إسلاميتين، هما: حماس والجهاد الإسلامي، وهو ما لا يروق للأنظمة المعارضة للإسلاميين في المقام الأول، وعليه جاء استهداف المقاومة وخذلانها وعرقلة تحركاتها عربيًا حتى لو كان المقابل تحقيق الاحتلال لانتصارات على حساب الفلسطينيين.
وهذا ما كشفه المسؤول الأمريكي البارز، دينيس روس، حين قال إن عدد من الزعماء العرب الذي تحدث معهم بعد عملية طوفان الأقصى أكتوبر/تشرين الماضي أخبروه بضرورة هزيمة حماس وتدميرها في غزة، لافتين إلى أن الحركة لو انتصرت في تلك المعركة، فإن ذلك سيشرعن أيديولوجيتها التي تنتمي إلى الإخوان المسلمين، وهو ما أكده القيادي في حماس، موسى أبو مرزوق، في لقاء متلفز له على “الجزيرة”، حين قال إن أعضاء في السلطة الفلسطينية يطالبون الغرب سرًا بالقضاء على الحركة الإسلامية.
أين القوميون العرب اليوم؟
أحدثت عملية طوفان الأقصى صدمة كبيرة لمحور التطبيع العربي الذي لم يجد حرجًا على الإطلاق في إظهار الخصومة مع فكرة القومية، وهو ما بدا في موقف الإمارات التي لم تخف غضبها من حماس ورفضها للطوفان، كما جاء على لسان وزيرة الدولة للتعاون الدولي ريم الهاشمي خلال كلمة لها في مجلس الأمن في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، حين وصفت عملية المقاومة بأنها “بربرية وشنيعة”، وطالبت بالإطلاق الفوري لسراح “الرهائن” الإسرائيليين، وهو ذاته موقف ولي عهد البحرين، الذي أدان العملية في “حوار المنامة” في 17 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مع تأكيد البلدين على أن حرب الإبادة التي تشنها “إسرائيل” ضد الفلسطينيين لن تؤثر على مستوى العلاقات مع تل أبيب.
وأمام هذا الموقف الرسمي المتخاذل، وتلجيم الشعوب بالقهر والخنق والتنكيل والتهديد، اتجهت الأنظار صوب التيار القومي العربي، صاحب الشعارات الثورية الداعمة للقضية الفلسطينية والمناصرة لحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه بشتى السبل حتى تحريرها.
وتوقع البعض أن يستغل القوميون تلك الحرب لإعادة تقديم أنفسهم للساحة مرة أخرى بعد غياب دام طويلًا، لكن الأمور لم تجرِ كما كان الرهان، حيث اكتفى فصيل محدود بعبارات الإدانة والشجب مع فعاليات رمزية هنا وهناك تحت مرأى ومسمع من الأنظمة السلطوية، كما هو الحال في التيار الناصري في مصر، فيما التزمت الغالبية الصمت، في موقف يعمق حالة الخذلان ويسحب البساط الثوري النضالي من تحت أقدام رافعي شعار القوميات.
صباحي باسم المؤتمر القومي العربي
* تنديد باقتحام معبري رفح وكرم أبو سالم، ودعوة لإلغاء كل اتفاقيات التطبيع
* اقتحام معبر رفح انتهاك لاتفاقية "كمب دايفيد" والرد يكون بإلغائها
*
أدلى الأستاذ حمدين صباحي الأمين العام للمؤتمر القومي العربي بالبيان التالي:
ما أن وافقت حركة حماس…
— حمدين صباحي (@HamdeenSabahy) May 9, 2024
ورغم الضربات القاسية التي تعرضت لها حركة القومية العربية منذ اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية نهاية السبعينيات، لكن حضورها لم يغب بالشكل الكامل، وظل وجودها رمزيًا من خلال بعض الأحزاب والكيانات التي اكتفت بالشعارات الرنانة دون ترجمة ذلك على أرض الواقع لممارسات وإجراءات سياسية.
ومن أبرز الأحزاب التي تمثل هذا الفكر حاليًا: حزب البعث العربي الاشتراكي، وفروعه في سوريا والعراق واليمن والأردن وفلسطين والسودان وموريتانيا، كذلك الحزب العربي الديمقراطي الناصري وحزب الكرامة في مصر، والتجمع القومي العربي والوحدويون الناصريون والاتحاد الديمقراطي الوحدوي وحزب الوحدة الشعبية في تونس، والاتحاد الاشتراكي العربي في سوريا، وحزب الصواب في موريتانيا، بجانب الحزب القومي العربي داخل فلسطين المحتلة عام 1948، والتجمع القومي الديمقراطي في البحرين.
وعلى عكس ما يردده البعض من أن التيار القومي بدأ في الأفول، ولفظ أنفاسه الأخيرة، فإن الأمر ليس بهذه القتامة، فأمامه – إذا ما أراد – فرصة تاريخية لإعادة أمجاد الخمسينيات والستينيات، وأن يستعيد بريقه المفقود لدى الشارع العربي، وأن يثبت أنه كيان حي لم يدخل بعد ثلاجة الموتى أو يُستأنس ويدجن كما يتردد، وذلك من خلال الاصطفاف خلف المقاومة الفلسطينية ودعم حقوق الشعب الفلسطيني ومناهضة التطبيع وتبني موقف عربي موحد لدعم الصمود الغزي والمطالبة بتوظيف كل أوراق الضغط التي بحوزة العرب لإجبار الاحتلال على وقف تلك الحرب، وذلك استنادًا لحضوره الجماهيري ومكانته لدى المزاج الشعبي العربي.