على طريق وادي علي الواصل بين يافا والقدس، كانت صوبا تطلّ من صوب الجنوب قرية كامنة على طريق الواد وآمنة منه فوق قمة جبل منيع عُرف باسمها صوبا. يرتفع جبل صوبا ما لا يقلّ عن 780 مترًا عن سطح البحر، والجبل ظل متوّجًا حتى عام النكبة بقريته التي كانت تتجمهر بيوتها على بعضها، متراصة داخل سور القرية كما لو كانت حصنًا حجريًّا.
وقد عُرفت القرية على مدار تاريخها بوصفها حصنًا يفرّ إليها ويلوذ بها الناس كلّما دار عليهم الزمن، فحين ضرب طاعون عمواس العرب الفاتحين في ديار القدس سنة 639م، فرّوا من عمواس ومحيطها إلى صوبا اتّقاءً لشر الوباء. وحتى حين استولى الصليبيون على القدس، واستحكموا في مطلع القرن الثاني عشر للميلاد بصوبا، اتخذوها حصنًا ثم بنوا فيها قلعةً وأطلقوا عليها اسم بلمونت (Belmont) وتعني “الجبل الجميل” (1).
كانت صوبا، لاستراتيجية موقعها، واحدة من أهم دعائم بوابة القدس الغربية، ما جعلها أول ما يقع تحت أنظار غزاة القدس، غير أن صوبا أبت إلا أن تعلو فوق أنظارهم.
مياه بلون العطش
إلى الغرب من مدينة القدس وعلى بُعد 12 كيلومترًا، كانت تقع قرية صوبا، مطلة على الطريق التاريخي الواصل بين القدس والرملة من شمالها، وقد أحاطت صوبا قرى ظلت حتى عام النكبة تزنر خاصرة جبلها، أشهرها قرية العنب التي صارت تُعرف بـ”أبو غوش”، وكذلك قرية بيت نقوبة المهجرة (2)، الواقعتان إلى الشمال من صوبا يحول بينها وبين تلك القرى واد غدفل.
بينما من الجنوب منها كانت قريتا صطاف وخربة اللوز، وإلى الجنوب أبعد تطل صوبا على قرية عين كارم يفصلهما واد اللوزية السحيق الممتد إلى واد القسطل، بينما القسطل القرية كانت تقع شرقي صوبا، أما من الغرب فكانت قريتا عمور ودير عمرو.
كان لذلك التشكيل الإيكولوجي (البيئي) كبير أثر على صوبا وفي مشرب أهلها ومأكلهم، فقد تدفّقت شعاف جبال القرية ووهاد وديانها من حولها، بعيون فوار مائها، ظلت تروي تراب أرض صوبا صبًّا، وتسقي أهلها وتعالج مصابيها، فعين موسى التي كانت تنبع في شُعب لم تكن تصلها الشمس في شمال القرية، كان يُنشل ماؤها ويُحمل على الدواب إلى القدس وقرى ريفها لمداواة من عانوا من “حصر البول” إذا ما تعسّر وصولهم لمجرى العين (3).
ومَن مِن الصوابنة ينسى عين الخراب التي كان ماؤها بقيًّا نقيًّا يرشح في النواحي القَبَلية من صوبا جنوبًا، يطهّر أبدان مصليها الذين داوموا على الوضوء للصلاة به (4). وعين رافا غربًا التي روت ثم أوت عندها الباقين من صوبا المصابة بعد النكبة، وعيون عمور اسمها على ألسن أهلها وما زالت باقية تدمع على النازحين إليها والراحلين عنها من صوبا معًا. وعيون أخرى منها عين محتوش والبدوية وصبحة وعين قطعان الصباح.
غير أن عين صوبا أو عين البلد جنوبي القرية على بُعد مرمى الحجر منها، كانت أقدم وأعرق عين ماء عرفتها القرية وديار القدس الشريف عامة، إذ لم تكن عين البلد مجرد عين ماء، بقدر ما أنها كانت نظامًا مائيًّا للريّ تشكّلَ على مدار قرون طويلة، وقد تضمنت مصاطب وقنوات ومزاريب كانت تدل الماء على أهله في برك وأحواض.
كما شربت منها يوم شحّ ماء السماء القسطل وصطاف وخربة اللوز بسكانها وقطعانها. بعد نكبة صوبا، سحب الصهاينة مياه عين البلد إلى كيبوتس “تسوبا” الصهيوني عبر مواسير حديدية فجّة، وأقاموا على العين منتزهًا للسياحة فيه مقاعد مفتعلة للزوار وطلاب المدارس (5)، إلا أن عين صوبا لا يزال ماؤها بلون العطش. قرى وعيون ووديان، جعل علو صوبا منها وهادًا، لتبدو القرية كما لو أنها عشّ النسر، وربما في ذلك كان اسمها.
عشّ النسر
يعود توطُّن صوبا إلى زمن غابر منذ أن استوطن اليبوسيون القدس، وكانت صوبا تسمّى في حينه “ربه (Rabba)”، وربما خربة عين رافا التي أصبحت بعد النكبة قرية من تبقى من الصوابنة تُنسب إلى تلك التسمية اليبوسية.
في زمن الفراعنة المصريين ورد ذكر جبل صوبا في رسائل تل العمارنة الطينية باسم “ربوته (Rubute)”، بينما تسمية “صوبا” هي أرامية الأصل مشتقة من “صوبيبا” وتعني الحافة. وتنطبق هذه التسمية في معناها على موضع صوبا وموقعها، وقد كان للآراميين مملكة في أعالي سوريا وعاصمتها في البقاع اللبناني تسمّى صوبا.
وفي عهد الرومان، وردت صوبا في كتابات الحاخامات باسم “سيبويم” (6)، كما أشار صاحب “معجم البلدان” ياقوت الحموي إليها: “صوبا بالضم وبعد الواو باء موحدة وهي قرية من قرى بيت المقدس”.
اللافت أنه إلى الجنوب من مدينة حلب السورية كانت تقوم أطلال قرية شهيرة في التاريخ اسمها قنسرين، وتسمية هذه الأخيرة سريانية الأصل، وكانت تُلفظ قنشرين وتعني “بيت النسر أو عش النسر” نظرًا إلى ارتفاع موقعها. تحولت قنسرين لاحقًا إلى صوبا، وصوبا الفلسطينية المهجرة، إن لم تكن تعني عشّ النسر، فهي كذلك في واقعها وموقعها التاريخيَّين.
صلاح الباب
تظل حكاية الأبواب والبوابات في بلادنا حكاية مدينية في العادة، لأن الأبواب متصلة بالمدن حيث الحصون والأسوار، تمامًا مثلما لكل باب في سور القدس اسم وحكاية. غير أن صوبا على ريفيتها وكامل قرويتها، فإن سورها الذي كان يحيط بها تاريخيًّا جُعلت لها بوابة أطلق عليها أهلها اسم بوابة “صلاح الباب” نسبةً إلى ضريح صلاح الباب الذي نُصبت عنده (7).
فكانت أقدم بوابة عرفتها قرية في قرى ديار القدس، حيث بقيت ميمّمةً وجه صوبا على باب الشرق نحو الحرم القدسي الشريف مفتاحها الصلاح، ومفتوحة على مسالك الفاتحين، ومسدودة بوجه الغزاة والطامعين.
كانت معالم صوبا عوالم بذاتها، تحكي ما تداول على القرية من جيوش ودول، فمقام العمري في صوبا كان ذاكرة للسيرة العمرية في البلاد منذ فتحها العربي الإسلامي في عهد عمر. بينما اعتبر مقام السلطان إبراهيم الأدهمي في جنوب صوبا مزارًا تعود زيارته إلى المرحلة الصلاحية المتصلة بتخليص البلاد من أيدي الصليبيين (8).
مقابلة تاريخ شفوي مع نصري داود نصرالله
كما كان حيط البد من أكبر وأقدم الجدران الكفرية (الأثرية) في القرية، فيه ساحة استخدمها الصوابنة للتجمهُر والمناسبات، وعلى حيط البد أخرج جند إبراهيم باشا المصري أهالي صوبا ومن لاذ بهم من ثوار الثورة عليه سنة 1834، حيث كانت صوبا آخر معقل للثورة في ديار القدس، وقد عوقبت القرية بشنق جند الباشا لبعض أبنائها على حيط البد الذي تحول من حينها إلى حيط محاط بذاكرة مظالم القرن التاسع عشر وشدائده (9)، التي ظلت مسترخية تخزّ بذاكرة صوبا وأهلها حتى نكبة القرن العشرين.
الجامع القديم مبتور في صوبا من مئذنته وقبّته إلا من محرابه، الذي تعلم كل أولاد القرية فكّ الحروف الأولى فيه. والبوبرية مبنى قديم مكوّن من عقود متصلة ببعضها استعان الصوابنة بسطحها بيادر لذري غلال القمح وتنشيف السمسم. وكذلك القصر الصيفي الذي كل ما يعرفه أهل صوبا عنه أنه يعود لابنة ملك فلندا التي بنته في القرية لتصطاف فيها، بينما كانت تعود في الشتاء من صوبا إلى اللطرون حيث قصر أبيها (10).
النواميس والكهوف والمدافن، غرف صخرية كانت تنهش بطن جبل صوبا من مئات لا بل آلاف السنين، وبلوطة البلد حيث تحتها تحلق الرجال وتعلق الأطفال، فيما زيتونة المغتسل ظلت مثقلة برائحة الوداع والموت، لكثر ما تعوّد الصوابنة غسل وتوديع موتاهم فوق أغصان الخروب عندها (11). لكل حجر في صوبا أثر وحكاية مع البشر عليها.
صكوك الدم
4 حمائل أصيلة أصولها يمنية تشكّلت منها صوبا، الفقيه ورمان ونصر الله وجبران. يقال إنهم نزلوها منذ أن خبت حروب الفرنجة على البلاد، فكانت صوبا يمنية تتبع لناحية بني مالك وحلفهم الذي تزعّمه شيوخ أبو غوش في قرية العنب.
لصوبا صولات وجولات في ذلك الاحتراب الأهلي الطويل الذي عرفته جبال القدس والخليل على مدار القرن التاسع عشر بين اللونين الأبيض والأحمر. حيث راية القبائل اليمنية بيضاء، بينما القيسية حمراء، وصوبا بيضاء الراية رفعتها التحامًا وليس استسلامًا خلف شيوخ أبو غوش في مواجهة مشايخ العمرو القيسيين من ديار الخليل. احتراب وخراب كانت صوبا لموقعها آخر وأكثر من حمل الهمّ ودفع فاتورة الدم.
ليست الحمائل الأربع وحدها من عاش في صوبا، فقد توطنت القرية عوائل أخرى، منها تركية الأصل نزلت القدس الشريف، ثم انتقلت إلى صوبا بحسب ما دونته سجلّات المحاكم الشرعية في القدس (12). كما عاشت أكثر من 6 عوائل مسيحية في صوبا منذ ما قبل الحكم العثماني إلى أواخر القرن الثامن عشر، فمنها من رحل عن صوبا، ومنها من دخل في دين أهلها الإسلام. وهذا غير ما رحل من العوائل، تلك التي فرقتها الحروب والكروب أو صدام بعضها مع شيوخ أبو غوش وسطوتهم، فصبأت بعيدًا عن صوبا.
كانت صوبا كلما اتسعت طوال التاريخ العثماني وزاد أهلها وآهليها، عادت وتقلصت على نفسها قرية صغيرة منكوبة بحكم وقع موقعها الحربي عليها. فنكبتها الأولى في التاريخ الحديث تعود إلى أيام الثورة على الحكم المصري في البلاد، حين طارد إبراهيم باشا ثوار جبال القدس الذين استحكموا في صوبا، وتشبّثوا بأسوارها وقلاعها أواخر سنة 1834. غدت فيها صوبا الحامية، دارت فيها معارك دامية، ما أدّى إلى دمار أسوارها وهدم عمارها على رؤوس آهليها، فتشتّت أهلها (13).
حين غزت القوات البريطانية سنة 1917 البلاد، وقرر ألنبي دخول القدس من غربها، فإن صوبا من دفعته إلى العدول عن خطته، وبالتالي قراره احتلال القدس من جنوبها، إذ انتصبت القرية بحاميتها واجهة في وجه جيشه.
كانت أمينة الصوبانية بنت إسماعيل سلمان، أول دم مسفوح على سفح جبل صوبا في تاريخ صراع القرية مع الاستعمار البريطاني، وذلك بعد أن داست أمينة على لغم انفجر بها تركه جيش الإنجليز في نواحي صوبا، قبل أن يعدل عنها وينحو جنوبًا (14).
ولما اندلعت أحداث سنة 1929 في القدس، لبّت صوبا نداء البراق في حينه، وهاجم أبناؤها مستعمرة “كريات عنفيم” الصهيونية، ما دفع بقوات الجيش البريطاني إلى اقتحام القرية، وفرض منع التجول على أهلها غير مرة.
انحازت صوبا للإضراب الكبير، والتحق أبناؤها بالثورة الكبرى (1936-1939)، والذين جعل منهم موقع قريتهم مؤمنين للثوار وحركتهم على طريق وادي علي بين يافا والقدس. اتبعت سلطات الاستعمار أساليب مختلفة لترهيب صوبا وضبطها، التهديد والوعيد والملاحقة والمداهمة، وبكت صوبا كلها يوم شنق الإنجليز ابنها أحمد محمد عميش في القدس، بعد ضبط بندقية بحوزته.
وخرجت صوبا عن بكرة أبيها يوم شيّعت بحزن وغضب شهيدها محمد مصلح علي رمان، الذي استشهد تحت التعذيب أثناء اعتقاله (15)، بينما ظلت صوبا مكلومة على مقتل ثائرها طه محمود طه في ظروف غامضة حار الصوابنة فيها (16)، لكنهم آثروا العضّ على جرحهم ليظل الجوار بسمعته سالمًا.
لم يسمح صلاح الباب لسمسار الدخول من بوابتهم، ولا لمتعاون أو عميل، ولم يذكر عن صوباني واحد باع أو سرّب شبرًا من أرضه لليهود حين نشطت حركة السماسرة والسمسرة في ظل حكم الانتداب، باستثناء قطعة أرض واحدة من أحواض صوبا كانت تعود ملكيتها لأحد المتنفذين والمتعاونين من القرى المجاورة. ظلت أجيال صوبا من المهجّرين تلهث باسمه لعنًا حتى مطلع القرن الحالي. أما أرض اللطرون، والمؤامرة التي حيكت لسلبها من أهالي صوبا، فتلك غصة عن قصة أخرى.
في صباح 7 أبريل/ نيسان 1948، استيقظت صوبا على أزيز رصاص ودوي مدافع أكبر معركة عرفتها ديار القدس وفلسطين عمومًا، القسطل، وسقطت القسطل صبيحة اليوم التالي من استشهاد قائد معركتها عبد القادر الحسيني.
كانت صوبا القرية التي نُقل إليها الشهيد الحسيني بعد سحبه من أرض المعركة قبل نقله إلى مثواه الأخير في القدس. بعدها توجّهت عيون الصهاينة صوب صوبا، التي آثرت الدفاع رغم سقوط القسطل، ثم مذبحة دير ياسين بعد يوم من سقوط القسطل. ومن حينه ووميض نيران اليهود يلمع في عيون أهالي صوبا أثناء دكّ قريتهم بالمدافع ليلًا يوم 13 أبريل/ نيسان 1948 يوم سقوط صوبا، حيث شُتت أهاليها شتات أهل سبأ بعد انهيار سد مأرب.
لم يبقَ من أصل ما يزيد عن 700 نفر من أهل صوبا عام النكبة، غير العشرات الذين نزحوا إلى عين رافا التي صارت قريتهم لاحقًا إلى يومهم هذا. لم تكن عين رافا العامرة اليوم تعويضًا عن صوبا، إنما امتدادًا للمأساة ذاتها، وهذه حكاية أخرى تطول.
صوبا… ذاكرة مخضبة بالدم صكًّا، ومخضلة بالدمع صبًّا، صوبا. نمرّ قدومًا نحو القدس صعودًا من وادي علي لتبدو صوبا في الأفق مهجّرة من أهلها ومغبره بغبار إسمنت الكيبوتسات، وليس غبار حجّاريها الذين عرفتهم، ومن بينهم عبد المنعم عبد ربه الصوباني حين كان ينبعث صوته من أعالي محاجر جبل صوبا منشدًا: “وبارودنا بارودنا… يلمع بزنود جنودنا. مررنا منها وصبحنا: صباح الخير يا صوبا، ولا نعرف إن كانت صوبا ترد الصباح”.
مصادر وهوامش
- الخالدي، وليد، كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص597.
- كانت تقع قرية بيت نقوبة شمالي صوبا، جرى تدمير القرية ونقل معظم سكانها وتوطينهم في أراضي كانت تعود ملكيتها لأهالي صوبا. أقام لهم الصهاينة عليها في سنوات الخمسينيات قرية جديدة وغيروا اسمها إلى “عين نقوبة” ما تزال قائمة إلى يوم أهلها هذا.
- رمان، محمد سعيد مصلح، صوبا: قرية مقدسية في الذاكرة، مطبعة عين رافا – القدس، 2000، ص12.
- المرجع السابق، ص 11.
- المرجع السابق، ص10 -11.
- الفقيه، إبراهيم، صوبا: تاريخ وطن وحياة قرية، دار الأيام، 2020، ص86.
- الفقيه، المرجع السابق، ص99.
- نصر الله، نصري داود، صوبا، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة: ضمن برنامج تدوين التاريخ الشفوي للنكبة فلسطين، تاريخ 16-12-2009.
- الفقية، المرجع السابق، ص100.
- رمان، المرجع السابق، ص44.
- نصر الله، نصري داود، المقابلة السابقة.
- الفقيه، المرجع السابق، ص109.
- رمان، المرجع السابق، 39.
- المرجع السابق، ص46.
- نصر الله، المقابلة السابقة. أنظر: رمان، المرجع السابق، ص50.
- رمان، المرجع السابق، ص54.