عادت مسألة اللاجئين السوريين إلى الواجهة في لبنان خلال الأسابيع الأخيرة، وهذه المرة على خلفية تورط عدد من السوريين بجريمة اختطاف وقتل الناشط في حزب “القوات اللبنانية” باسكال سليمان، حيث تمكنت الأجهزة الأمنية والقضائية اللبنانية من توقيف الخاطفين والمسؤولين عن الجريمة، ومن بينهم بعض السوريين المقيمين في لبنان، حيث أحيلوا مع لبنانيين آخرين إلى المحاكمة بعد اعترافهم بالجريمة.
غير أن هذه الحادثة أوقدت من جديد نار الغضب المحكومة أحيانًا بروح عنصرية تجاه كل السوريين الموجودين في لبنان، فانطلقت دعوات تحريضية استهدفت اللاجئين السوريين رافقها اعتداءات على بعضهم في عدة مناطق، وإجراءات اتخذتها بعض البلديات استهدفت التضييق عليهم، فضلًا عن إطلاق دعوات وعقد مؤتمرات وإصدار بيانات من قوى سياسية ومرجعيات دينية وسياسية تدعو إلى ترحيلهم وإبعادهم وتحميلهم مسؤولية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها لبنان، وفي ذلك تجنٍ عليهم، وإن كانت بعض الأمور تحتاج إلى معالجة جدية وحقيقية لوضع حد للاستغلال الرخيص في هذا الملف.
أقسام السوريين المقيمين في لبنان
ليس هناك رقم دقيق لعدد اللاجئين السوريين في لبنان، فهناك المسجلون كلاجئين لدى مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة ويقدر عددهم بنحو 800 ألف لاجىء، وتجدر الإِشارة إلى أن المفوضية توقفت عن تسجيل اللاجئين اعتبارًا من العام 2015 بطلب من الحكومة اللبنانية في حينه.
وهناك اللاجئين الذين دخلوا إلى لبنان بصورة قانونية وهم غير معروفين على وجه الدقة سوى للدولة اللبنانية ولا تفصح عنهم بشكل دقيق، وهناك الذين دخلوا بشكل غير قانوني ولم يتسجلوا لدى مفوضية اللاجئين، وربما هؤلاء هم أغلبية السوريين في لبنان. وتقدر الدولة أن عدد السوريين اللاجئين في لبنان يتخطى مليون ونصف مليون سوري دون معرفة إذا كان المقصود بالرقم جميع اللاجئين بمن فيهم المسجلون لدى المفوضية أم لا.
ويتوزع اللاجئون السوريون في لبنان على تنوعهم، بين مخيمات مضبوطة ومنظمة أغلبها في البقاع وعكار، ومخيمات عشوائية، وانتشار واسع وبنسب مختلفة في الأرياف والمدن اللبنانية في كل لبنان تقريبًا. ويتلقى اللاجئون مساعدات مباشرة من جمعيات مختصة، ومساعدات غير مباشرة من خلال الحكومة ومؤسساتها كما في حالات التعليم والصحة، فيما يعمل أغلبهم في أعمال تتنوع ما بين الأعمال الحرة (العمالة اليومية) والزراعية والخدمات وحتى التجارة، وبعض هذه الأعمال مرخص من الحكومة اللبنانية، وبعضها غير مرخص ويجري خارج القانون.
ويتخلّف العديد من السوريين – خاصة الذين دخلوا بطريقة غير قانونية – عن دفع الضرائب، بينما يقوم بعضهم بالأعمال المتنوعة ومن ثم يحول جزءًا كبيرًا من الأموال التي يتقاضاها إلى الداخل السوري، في حين يتنقل بعضهم ما بين لبنان وسوريا بكل أريحية وحرية، وهذا يشكل ضغطًا في مكان ما على الداخل اللبناني، خاصة أولئك الذين يعملون خارج القانون ويحولون أموالهم إلى سوريا، أو أولئك الذين لا يعملون ولكنهم يستهلكون مقدرات لبنان دون أن يكونوا مسجلين لدى مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وبالتالي فالحكومة لا تتقاضى عنهم أي مساعدات، غير أن كل ذلك لا يستدعي إطلاق حملات تشويه وشيطنة وترهيب، وتحميل اللاجىء السوري مسؤولية ما آلت إليه الأمور في لبنان.
الموقف من اللجوء
تختلف المواقف من قضية اللاجئين السوريين انطلاقًا من خلفيات سياسية واقتصادية وعنصرية أيضًا. فحكومة تصريف الأعمال التي تدير لبنان حاليًا والحكومات السابقة لها، تحاول أن تلقي عن عاتقها مسؤولية الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلد وتحملها إلى اللاجئين، على اعتبار أنهم استهلكوا مقدرات البلد المالية والاقتصادية، وهذا الاتهام فيه تجنٍ وتهرب من المسؤولية، وهناك من يسوق فكرة العمالة السورية والتهرب من دفع الضرائب ومنافسة اللبناني في الكثير من الأعمال في محاولة لإلقاء المسؤولية عليهم، في حين أن المسؤول الحقيقي عن الأزمة هي السياسات التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة والفساد والفوضى المستشريين في الإدارة اللبنانية التي يعلمهما الجميع.
وتحاول الحكومة والحكومات التي سبقتها العمل على استغلال مسألة اللجوء السوري، من خلال الضغط على أوروبا أو الدول المانحة من أجل الحصول على المزيد من الأموال للخزينة، تحت عنوان تغطية نفقات اللجوء السوري في لبنان، وكان آخر هذه الفصول الوعد الذي تلقته الحكومة الحاليّة من الاتحاد الأوروبي بالحصول على مليار يورو عن 4 أعوام مضت مقابل إبقاء السوريين في لبنان وتوفير بعض الخدمات لهم.
المنحة الأوروبية للحكومة اللبنانية أثارت في الداخل اللبناني عاصفة من المواقف الرافضة، التي نظرت إلى هذه المنحة أنها بمثابة رشوة للحكومة للإبقاء على اللاجئين في لبنان دون العمل لإيجاد حلول جذرية لمأساتهم، وهذا ما جعل الحكومة تستعين بالمجلس النيابي لمناقشة هذه المنحة والخروج بموقف منها.
وبالفعل ناقش المجلس النيابي مسألة اللاجئين والمنحة معًا وخلص إلى توصية مُلزمة للحكومة باتخاذ إجراءات عملية تحت عنوان تنظيم اللجوء السوري في لبنان، من بينها ترحيل أي سوري لم يدخل إلى لبنان بطريقة قانونية أو غير مسجل لدى مفوضية اللاجئين، وهؤلاء هم القسم الأكبر من اللاجئين السورييين خاصة أن الحكومة طلبت من المفوضية التوقف عن التسجيل اعتبارًا من العام 2015، في مقابل أنها لم تضبط الحدود بين لبنان وسوريا التي ما زالت مشرعة حتى الآن للدخول غير القانوني وبالاتجاهين، وبالتالي فإن هذا الإجراء الذي أوصى به المجلس النيابي سيعني – إذا ما تم الشروع بتنفيذه – ترحيل أعداد كبيرة من السوريين إلى سوريا دون أي ضمانة على أمنهم وسلامتهم واستقراراهم، وهو ما سيلحق الضرر البالغ بهم.
كما أن التوصية لم تلحظ البحث عن خطة لقوننة الوجود السوري في لبنان لغير المسجلين لدى المفوضية بحيث يتحول وجودهم من غير قانوني إلى وجود قانوني متابع من جانب أجهزة الدولة، ومن المتوقع أن يكون لهذا الإجراء إذا ما تم الشروع بتنفيذه تداعيات سلبية على اللاجئين وعلى لبنان أيضًا.
في جانب آخر تبرز مواقف لقوى سياسية ودينية أخرى تهول وتخوف اللبنانيين من مسألة اللجوء الذي قد يتحول إلى استطيان دائم، ما يهدد – بحسب رأي أصحاب هذه النظرية – التوازن السكاني لصالح مكون لبناني آخر (سُنة لبنان)، وتستغل هذه الجهات أصحاب هذه النظرية أي حدث يرتبط بالسوريين لتضخيمه وصناعة خطر على اللبنانيين منه، وكان آخر مثال على ذلك ما حصل في اختطاف ومقتل باسكال سليمان، وتنطلق هذه القوى من خلفية عنصرية لا تعترف بالحق الانساني وتأخذ على عاتقها التحريض الدائم ضد السوريين باعتبارهم يضروا بلبنان، دون أي مقاربة إنسانية أو اقتصادية علمية للموضوع.
وبرز في هذا السياق المؤتمر المغلق الذي احتضنته المرجعية المسيحية المتمثلة بالبطريركية في بكركي ونظمه المركز الماروني للتوثيق والأبحاث يوم الخميس في 9 أيار/مايو الحاليّ، وبحث في كيفية معالجة مسألة اللاجئين، وحضره عدد من الوزراء المعنيين في الحكومة، وخلص المؤتمر إلى الاتفاق على جلسة أخرى تبحث كيفية إعادة اللاجئين إلى سوريا عودة كريمة، في حين لم يتم الكشف عن خلاصات هذا المؤتمر.
عرض هذا المنشور على Instagram
في مكان آخر دعت بعض القوى السياسية وفي طليعتها “حزب الله” إلى فتح البحر أمام اللاجئين للهجرة نحو أوروبا، بهدف دفع أوروبا والغرب بشكل عام إلى “الهرولة” نحو لبنان والاتفاق معه على تغطية نفقات اللجوء حتى لا يهاجر السوري إلى أوروبا، ولكن بعض النواب خلال جلسة المجلس النيابي التي خُصصت لبحث اللجوء السوري، رأووا في هذه الدعوة قضية خطيرة تتمثل بترحيل الشعب السوري إلى أصقاع الدنيا وعدم إتاحة الفرصة أمامه للعودة إلى بلده ووطنه، في حين أن المطلوب أن يعود هؤلاء اللاجئون إلى بلداتهم وقراهم ومدنهم دون أن يتعرضوا لأي أذى جسدي أو معنوي، وهو ما لم يحصل مع لاجئين قرروا العودة في أوقات سابقة ولكنهم وجدوا أنفسهم ضحية ممارسات وحشية واعتداءات من قوى الأمر الواقع هناك. وقد حذرت شخصيات لبنانية من هذه الدعوة ورأت فيها مأساة جديدة بحق السوريين، وأن الحل الطبيعي أن يعود هؤلاء إلى بلدهم بعد تأمين الحماية والأمن لهم.
نصر الله دعا في خطابه إلى “فتح البحر أمام اللاجئين” للهجرة نحو أوروبا
في حين يرى البعض أن قضية اللاجئين باتت بحاجة إلى حل جذري يستند إلى توزيعهم إلى فئات: واحدة تتنقل بين لبنان وسوريا سواء عبر المعابر القانونية أم غير القانونية، وهذه يجب إعادتها عبر ضبط الحدود لأنها آمنة على نفسها في الداخل السوري.
وأخرى فئات العمال الذين وفدوا بشكل قانوني وهؤلاء لا مشكلة معهم، والذين وفدوا بشكل غير قانوني وغير مسجلين لدى مفوضية اللاجئين وهؤلاء يحتاجون إلى قوننة وجودهم وعملهم، وهذه مسألة ليست صعبة.
وفئة ثالثة من اللاجئين الذين يخشون من أن العودة قد تجعل النظام ينتقم منهم لمعارضتهم له، وهذه الفئة لا يمكن إعادتها في ظل انعدام الحل السياسي في سوريا، وفي ظل الوضع الحاليّ، وهؤلاء يحتاجون إلى حماية ورعاية محلية ودولية بموجب القانون الدولي الإنساني وبموجب الحق الإنساني.
الإجراءات الجديدة
وفي ظل الدعوات التحريضية والحملات الإعلامية، شرعت أجهزة الدولة اللبنانية في إجراءات بحق السوريين من قبيل الملاحقات وعدم تجديد الإقامات أو رخص العمل، أو رفع الكلفة المالية مقابل أي إجراء قانوني يحتاجه السوري كجزء من عملية الضغط والإكراه، وصولًا إلى ترحيل من يتم توقيفه بغض النظر إذا ما كان مطلوبًا للنظام ومعارضًا له أم لا، وهذا يُوجد نوعًا من التوتر في العلاقة السورية اللبنانية بما يدفع في أي لحظة إلى انفجار اجتماعي يصيب بشظاياه الجميع.
ملف اللاجئين السوريين في لبنان يجب أن يتم إخراجه من الاستغلال السياسي وإبقاؤه ضمن التعامل القانوني الانساني وصولًا إلى حلول تكون في مصلحة لبنان من ناحية ومصلحة اللاجئين من ناحية ثانية، وبما يحفظ كرامتهم ويحميهم من الملاحقة أو الاستغلال.