قهرته مصر وكرمته الجزائر.. قصة “محمد فوزي” الذي قتله عبد الناصر

“جاله سرطان بعد تأميم مصنعه اللي عمله عشان يوفر عملة صعبة لمصر، يومها لقى ضابط قاعد على مكتبه وقاله احنا استغنينا عن خدماتك، رقد بعدها 4 سنوات ومات”.
هكذا كانت نهاية الفنان محمد فوزي، أحد أهم مجددي الموسيقى العربية، كما روت زوجته السابقة الفنانة مديحة يسري في حديث تليفزيوني.
وبرغم مرور 51 عامًا على تلك القصة المأساوية، عاد محمد فوزي من جديد للأضواء في 2017، عندما ردت اعتباره دولة لا يحمل جنسيتها، ففي 26 من نوفمبر الماضي، منح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الفنان محمد فوزي وسام الاستحقاق الوطني، كما أمر بإطلاق اسمه على أحد أهم صروح الموسيقى في الجزائر، وهو المعهد الوطني العالي للموسيقى، بمناسبة مرور 60 عامًا على النشيد الوطني الجزائري “قسمًا”، الذي تبرّع فوزي بتلحينه هدية للشعب الجزائري، وكتب كلماته الشاعر مفدي زكريا.
فما هي قصة الرجل الذي كرمته الجزائر بعد مرور نصف قرن على وفاته، وكيف قهره الموت على يد عبد الناصر؟
البداية في كفر أبو جندي
وُلد محمد فوزي عبد العال حبس الحَو، وهذا اسمه بالكامل، في 28 أغسطس عام 1918، بقرية كفر أبو جندي التابعة لمركز طنطا بمحافظة الغربية، لوالد مقرىء، ورث عنه حلاوة الصوت، فعشق الغناء منذ صغره، وتعلم أصول الموسيقى وقواعدها وكتابة وقراءة النوتة الموسيقية على يد عسكري مطافي أثناء دراسته الابتدائية، حسبما أكد زين نصار في “موسوعة الموسيقى والغناء في مصر في القرن العشرين”.
ذاع صيته كمطرب خلال المرحلة الثانوية، حيث كان يردد أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب في حفلات المدرسة والموالد، ثم التحق بمعهد فؤاد للموسيقى العربية في منتصف الثلاثينات، وعمل مغنيًا في فرقة “بديعة مصابني”.
إسهاماته الموسيقية والفنية
أخذ محمد فوزي مكانته كأحد أهم الملحنين في تاريخ الموسيقي العربية، بأسلوبه المتفرد في ألحانه التي تميزت بالسلاسة والبناء الموسيقي القوي. وكانت له أفكاره التقدمية في فنه، فكان رائدًا في تلحين أغاني الأطفال من قبيل “ماما زمانها جاية”، “ذهب الليل وطلع الفجر”.
قرر محمد فوزي في مرحلة مبكرة من تاريخه الفني الاتجاه للإنتاج السينمائي، وأن تكون له شركته الخاصة، فأنشأ شركة ”أفلام محمد فوزي” عام 1947، وأنتج من خلالها 25 فيلمًا
يدلل نبيل عبد الهادي شورة في كتاب “قراءات في تاريخ الموسيقى العربية” على عبقرية فوزي الموسيقية فيقول أنه كان فنانًا شاملًا، تميز إنتاجه الفني بالبساطة والتلقائية وخفة الظل، صاحب موهبته فكر جديد وروح عصرية، لذا يعتبر رائدًا للأغنية الخفيفة السريعة، كما ابتكر نوعًا من الغناء الخفيف ذو الطابع الكوميدي الاستعراضي.
قدّم فوزي 36 فيلمًا خلال الفترة من 1944 إلى 1959، ووقف أمام أغلب نجمات السينما آنذاك، أمثال: ليلى مراد، فاتن حمامة، شادية، صباح، مديحة يسري، ليلى فوزي.
ووصل رصيده الفني إلى حوالي 400 أغنية، وغنى من ألحانه كبار المطربين والمطربات في زمنه، أمثال: محمد عبد المطلب – محمد قنديل – محمود شكوكو – صباح – ليلى مراد – فايزة أحمد – سعاد محمد.
عقلية اقتصادية جبارة
قرر محمد فوزي في مرحلة مبكرة من تاريخه الفني الاتجاه للإنتاج السينمائي، وأن تكون له شركته الخاصة، فأنشأ شركة ”أفلام محمد فوزي” عام 1947، وأنتج من خلالها 25 فيلمًا.
وفي عام 1958، أنشأ أول مصنع للأسطوانات في مصر، أطلق عليه “مصر فون”، وسريعًا نافس شركات الأسطوانات الأجنبية التي كانت تبيع الأسطوانة بتسعين قرشًا، بينما كانت “مصر فون” تبيعها بخمسة وثلاثين قرشًا فقط. وأتاح لزملائه الموهوبين في كافة المجالات الفنية تقديم أعمالهم من خلال هذا المصنع الذي تسبب في نهايته التعيسة كما سنرى.
المرض الذي بات يُعرف اليوم بـ “سرطان العظام” أنهى حياة الرجل الذي كان يزن قبل مرضه نحو 90 كيلو جرامًا، ولكن مع تمكن المرض منه أصبح وزنه 37 كيلو جرامًا، وكأنه عاد طفلًا من جديد!
ضحية عبد الناصر
يعد محمد فوزي من أوائل الفنانين الذين استبشروا خيرًا بحركة 23 يوليو 1952، فدّعم مبادرة “قطار الرحمة” – ضمن مجموعة كبيرة من الفنانين – التي كانت تهدف لجمع تبرعات من المواطنين في كافة محافظات مصر، لدعم الجيش وإعادة تسليحه بعد الخسائر الفادحة التي تعرض لها في حرب 1948.
قرر النظام رد الجميل لفوزي، فكان أبرز ضحايا قرارات التأميم التي اتخذها الرئيس جمال عبد الناصر! ففي عام 1961، أممت الدولة مصنعه – الذي أصبح فيما بعد شركة “صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات” – على الرغم من أنه لم يكن إقطاعيًا بأي حال من الأحوال.
وروى المصور الصحفي الشهير فاروق إبراهيم في مذكراته كيف أهان النظام الموسيقار محمد فوزي بعد تأميم مصنعه، حيث عيّنه موظفًا في شركته بمرتب 100 جنيه شهريًا ووضع مكتبًا له في غرفة الساعي الخاص به!
بالطبع لم يتحمل فوزي تلك الصدمة، كما أخبرتنا زوجته، فتحسّر حتى تكالب عليه مرض نادر في العظام، احتار الأطباء آنذاك في تشخيصه حتى صار يُعرف باسم “مرض محمد فوزي”.
المرض الذي بات يُعرف اليوم بـ “سرطان العظام” أنهى حياة الرجل الذي كان يزن قبل مرضه نحو 90 كيلو جرامًا، ولكن مع تمكن المرض منه أصبح وزنه 37 كيلو جرامًا، وكأنه عاد طفلًا من جديد!
يروي الناقد الفني طارق الشناوي كيف أن بعد نهاية فوزي الأليمة بأقل من عام، وبالتزامن مع هزيمة 1967، لم تجد الإذاعة المصرية سوى أغنيته “بلدي أحببتك يا بلدي”، لتخفف جراح المصريين
وبعد خمس سنوات من الصراع مع ذلك المرض المخيف، توفي أحد أبرز ضحايا تأميمات عبد الناصر، صاحب شركة “مصر فون العملاقة، في ٢٠ أكتوبر عام ١٩٦٦، عن عمر ناهز 48 عامًا.
الرسالة الأخيرة
قبل موته بعدة ساعات، كتب محمد فوزي رسالة الوداع، أثناء تلقيه فترة علاجه بألمانيا.
يقول فوزي في رسالته الأخيرة، التي نقلها لنا فاروق إبراهيم في مذكراته: “منذ أكثر من سنة تقريبًا وأنا أشكو من ألم حاد في جسمي لا أعرف سببه، بعض الأطباء يقولون إنه روماتيزم والبعض يقول إنه نتيجة عملية الحالب التي أجريت لي، كل هذا يحدث والألم يزداد شيئا فشيئا، وبدأ النوم يطير من عيني واحتار الأطباء في تشخيص هذا المرض، كل هذا وأنا أحاول إخفاء آلامي عن الأصدقاء إلى أن استبد بي المرض ولم أستطع القيام من الفراش”.
وتابع: “الموت علينا حق، إذا لم نمت اليوم سنموت غدًا، وأحمد الله أنني مؤمن بربي، فلا أخاف الموت الذي قد يريحني من هذه الآلام التي أعانيها، فقد أديت واجبي نحو بلدي وكنت أتمنى أن أؤدي الكثير، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة والأعمار بيد الله، لن يطيبها الطب ولكني لجأت إلى العلاج حتى لا أكون مقصرًا في حق نفسى وفي حق مستقبل أولادي الذين لا يزالون يطلبون العلم في القاهرة، تحياتي إلى كل إنسان أحبني ورفع يده إلى السماء من أجلي، تحياتي لكل طفل أسعدته ألحاني، تحياتي لبلدي، أخيرًا تحياتي لأولادي وأسرتي”.
واختتم فوزي رسالته بتنبؤ مدهش، قائلًا: “لا أريد أن أُدفن اليوم، أريد أن تكون جنازتي غدًا الساعة 11 صباحًا من ميدان التحرير، فأنا أريد أن أُدفن يوم الجمعة”.
العجيب في أمر تلك الرسالة أن فوزي وافته المنية بالفعل في نفس اليوم الذي كتبها فيه، وهو الخميس 20 أكتوبر 1966، ليُدفن يوم الجمعة كما تمنى.
مات فوزي وعاشت “بلدي أحببتك”
يروي الناقد الفني طارق الشناوي كيف أن بعد نهاية فوزي الأليمة بأقل من عام، وبالتزامن مع هزيمة 1967، لم تجد الإذاعة المصرية سوى أغنيته “بلدي أحببتك يا بلدي”، لتخفف جراح المصريين.
فأغلب الأغاني كانت تتجه لمدح عبد الناصر والثورة، وأغنية فوزي كانت تناجي الوطن، وهكذا يكون قد استفاد النظام بكافة الطرق، ماديًا ومعنويًا، من الرجل الذي قهره حتى الموت!