بعد الإنتهاء من الحرب على تنظيم “داعش” الإرهابي، صرح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي وهو يعيش نشوة الانتصار أن “حربنا المقبلة ستكون ضد الفساد”. إلى كتابة هذه السطور لم نشاهد أو نسمع أو نلاحظ تحرك حقيقي وجاد لمحاربة الفساد فضلاً عن محاكمة مرتكبيه!
فلنُحسن الظن قليلاً ونقول إن الفساد كبير وخطير ومتأصل، وأن محاربته تحتاج إلى المزيد من الوقت والإعداد لتهيأة ملفاته وأدوات محاربته. فالدولة العراقية صارت مضرب للأمثال في الفساد وتميزت بذلك حتى أن شعوب القارة الإفريقية عندما يريدون النّيْل من أحد أو دولة يشبهونه بالحكومة العراقية وفسادها!
فأحد منابع الفساد الرئيسية في العراق وريعه الدائم هو المنافذ الحدودية، هذا المنبع منبع قديم جديد كي نكون منصفين. فالعراق رغم أنه يعيش بأزمة وتدهور سياسي واقتصادي كبير وحالة من الغليان الشعبي والجماهيري بسبب التراكمات الكبيرة والخطيرة لسياسات ولاة أموره العرجاء، ففساد منافذه الحدودية واحدة من هذه التراكمات والأزمات التي تلقي بضلالها على المشهد العراقي الشائك. فمعظم التُجار وسائقو الحافلات يعانون الكثير عند إدخال البضائع للعراق، بسبب الابتزاز والاجراءات المعقدة التي تفرضها إدارة المنافذ الجمركية، بل أن هناك جهات أخرى ميليشياوية دخلت على خط الابتزاز بحجج دينية واهية!
تشير احصاءات البنك المركزي العراقي أن واردات العراق من السلع ما بين عام 2003 وعام 2015 بلغت 485 مليار دولار
اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي أكدت أن نصف عمل المنافذ الحدودية تسيطر عليها مافيات متنفذة في الدولة العراقية، وتمارس عدة أنواع من الفساد في هذه المنافذ والتي تعتبر بوابة العراق على دول الجوار. فمبدأ الخلل هو في المحاصصة الطائفية والحزبية في تقاسم المناصب والوظائف الكبيرة داخل الدولة العراقية والتي تضع عديمي الكفاءة والنزاهة في أعلى هرم المؤسسات الحكومية وفق مبدأ توزيع خيرات البلد بين الاحزاب الحاكمة، مما تسبب في انتشار الفساد في كل مفاصل الدولة.
وتؤكد تقارير صحفية وتصريحات لنواب أيضاً ولنشطاء، أن أغلب ملفات الفساد المتعلقة بالمنافذ الحدودية والتي تصل للقضاء وهيئة النزاهة يتم اغلاقها، بدفع الرشاوى وارتباط المسؤولين الفاسدين لهذه المنافذ بكبار الاحزاب المهيمنة على الحكومة العراقية. فجهود مكافحة هذه الآفة ضعيفة وإن وجدت فهي تصطدم بهذه العراقيل أيضاً.
وتشير إحصاءات البنك المركزي العراقي أن واردات العراق من السلع ما بين عام 2003 وعام 2015 بلغت 485 مليار دولار. فالعراق من الدول المستهلكة، وهو يطل على 6 دول مجاورة هي السعودية، الكويت، تركيا، سورية، الأردن، إيران. والمديريات الجمركية العراقية والمنافذ الرسمية العاملة وغير العاملة هي كالتالي:
1- مديرية جمرك المنطقة الشمالية
(جمرك مطار الموصل، جمرك ربيعة، جمرك تلعفر، جمرك المنطقة الحرة، جمرك مطار أربيل، جمرك إبراهيم خليل، جمرك ميرگه سور، جمرك زاخو، جمرك جرميان.. جمرك مطار سليمانية، جمرك باشماغ، جمرك حاجي عمران)
2- مديرية جمرك المنطقة الغربية
(جمرك القائم، جمرك الانبار، جمرك الوليد، جمرك طريبيل، جمرك الرطبة، جمرك عرعر، جمرك المنطقة الحرة)
برغم من الإرادات العالية لهذه المعابر، والأتاوات المفروضة، فإنها تعاني من سوء الخدمات أيضاً كتراكم الأوساخ والنفايات وعدم توفير مكان للاستراحة
3- مديرية جمرك المنطقة الجنوبية
(جمرك مطار البصرة، جمرك أم قصر، جمرك خور عبد الله، جمرك خور الزبير, جمرك المعقل, جمرك أبوفلوس, جمرك سفوان، جمرك الشيب، جمرك الشلامجة)
4- مديرية جمرك المنطقة الوسطى
(جمرك مطار النجف، جمرك مندلي، جمرك المنذرية، جمرك زرباطية)
5- ديوان الهيئة
(جمرك مطار بغداد الدولي، جمرك الشحن الدولي)
ومن خلال حجم وعدد هذه الجمارك يمكن تصور حجم التبادل التجاري الكبير بين العراق ودول الجوار المحيطة به. كما ويمكن لإرادات هذه المنافذ أن ترفد الميزانة الحكومية بمبالغ كبيرة جداً تدخل خزينة الدولة وتخفف من اعتماد الموازنة على النفط، بدل أن تدخل في جيوب الفاسدين والمافيات المسيطرة على عمل هذه المنافذ الحدودية، وهو مايؤكد استشراء الفساد في معظم مؤسسات الدولة. ونسبت صحيفة “المدى” العراقية إلى عضو اللجنة الاقتصادية البرلمانية نورة البجاري قولها أن الحكومة تجري تنقلات لنحو 150 موظفاً في دائرة الجمارك كل 4 أشهر، وأن بعض الموظفين لم تمض 5 سنوات على تعيينهم برواتب 500 دولار أصبحوا يملكون عقارات فخمة وأرصدة مالية دون مايبرر امتلاكهم لهذ الثروات!
ويمكن للقارئ تصور حجم الفساد والخروقات التي ترتكبها هذه المافيات بحق المواطن والاقتصاد العراقي، فأحد هؤلاء التاجر يصف گمرك طريبيل والذي أغلق عام 2014 أثر سيطرة تنظيم داعش على مناطق غرب العراق وتم فتحه يوم الاربعاء الموافق 30 آب/أغسطس2017 بمعبر (للتسليب) فإن نسبة الأتاوات المفروضة الآن على البضائع والشاحنات الداخلة من هذا المعبر يبلغ 20% من قيمة الحمولة والبضاعة المستوردة وقد تصل في أحيان أخرى إلى 80% من قيمة الحمولة!
تداعيات هذا الفساد في المنافذ الحدودية لايقتصر على الخسائر في الإيرادات فقط والتي من المفترض أن تدخل في خزينة الدولة بل تمتدد الى الجوانب الصحية والتأثيرات السلبية في المجتمع
عدا المنظفات وتحديداً المنظفات بالذات ولا يعرف السر في ذلك فأن نسبة الرسوم المفروضة عليها هي 5% فقط! وهي معقولة نوعاً ما قياساً ببقية المواد. فبرغم من الإرادات العالية لهذه المعابر والاتاوات المفروضة، فأنها تعاني من سوء الخدامات أيضاً كتراكم الأوساخ والنفايات وعدم توفير دور للأستراحة، حتى الطرق والساحات الجمركية فهي غير معبدة بصورة نظامية وجيدة فهي عبارة عن ساحات ترابية وتتحول إلى أوحال طينة أيام فصل الشتاء، ويضاف إليها تعقيد آخر وهو تأخير الحمولة لعدة أيام لأسباب مجهولة تؤدي إلى تلف بعض المواد وخاصة الغذائية والأدوية! وهذه الصفة والحالة مشتركة في كل المعابر العراقية على حد سواء، على الرغم من إنها البوابة والواجهة الحضارية للبلد على العالم الخارجي!
هذا بالنسبة للمعابر الحدودية الخارجية. أما الجبايات المستوفاة من المنافذ الداخلية كمنفذ الصفرة أو كما يطلق عليها (البورصة) والواقعة في ناحية العظيم التابعة لمحافظة ديالى والتابعة لجمرك المنطقة الوسطى والرابط بين المناطق الشمالية والوسطى والتي تعمل على تطبيق التعرفة الجمركية للمواد الداخلة من تركيا وإيران عبر إقليم كوردستان، فهو مثال سيء آخر لهذه الممارسات. فوفقاً لتقرير صدر عن قناة الحرة العراق كشفت عن إيرادات خيالية بلغت 385 مليار دينار عراقي في الربع الاول من العام 2016. فالجباية المفروضة على الحافلات (التريلة) المحملة بالمفروشات أوالبطانيات أوالملابس أوالمواد الكهربائية أوالمواد الإنشائية عالية جداً، فأقل جباية مفروضة 30 مليون دينار عراقي، أي مايعادل 25 ألف دولار أمريكي.
وتشير تقارير حكومية ولجهات رقابية في هيئة النزاهة إلى أن الفساد في هذه المعابر والمنافذ أتخذ أشكال متعددة وطرق احترافية، فمثلاً يتم تحصيل الرسوم الجمركية بالدولار الأمريكي وتسجيلها بالدينار العراقي والأستفادة من فارق العملة من قبل الموظفين الفاسدين، هذا إذا كانت الرسوم قانونية وليست اتاوات مفروضة.
الحل الحقيقي لهذا الداء المستشري هو تطبيق نظام الكتروني محكم في المنافذ وفق معايير تتلائم مع اقتصاد البلد وجاري العمل عليها في دول العالم
تداعيات هذا الفساد في المنافذ الحدودية لايقتصر على الخسائر في الإيرادات فقط والتي من المفترض أن تدخل في خزينة الدولة بل تمتدد إلى الجوانب الصحية والتأثيرات السلبية في المجتمع، حيث يتم إدخال الشحنات والبضائع المنتهية الصلاحية، حتى المخدرات يتم إدخالها وبأعداد كبيرة وبملايين الدولارات، ففرض الأتاوات وليست الجباية الرسمية على التُجار والتجارة الخارجية والداخلية ينتج عنه غلاء وارتفاع الاسعار ونشر للفقر والبطالة في دولة تعد من أغنى دول العالم! وهذا بدوره يزعزع الأمن والاستقرار الداخلي بشكل كبير، فثورة الخبز إذا انفجرت لا يمكن كبحها.
فدور الجمارك ليست جباية الإرادات للحكومة والدولة العراقية فقط، وإنما هي النقطة التي يتم من خلالها منع تزوير الماركات والغش التجاري والصناعي عبر بيانات توثق نوعية السلع التي تدخل البلاد من شهادة المنشا والشهادات الصادرة عن شركة التامين وغير ذلك من الأمور المهمة والمتعلقة بهذا الأمر، وكذلك المحافظة على الانسان العراقي وصحته وسلامة بدنه من الأغذية المغشوشة والأدوية التالفة والسلع الغذائية الفاسدة والملوثة.
الحل الحقيقي لهذا الداء المستشري هو تطبيق نظام الكتروني محكم في المنافذ وفق معايير تتلائم مع اقتصاد البلد وجاري العمل عليها في دول العالم، وتسليم هذه المنافذ لكفاءات نزيهة مستقلة تساهم في رفع كفاءة هذه المؤسسات المالية المهمة التي ترفد اقتصاد البلد وترفع من مستواه في كافة المجالات، فالإصلاح ومكافحة الفساد مسؤولية الجميع في الدولة العراقية.