لا ينكر منصف أن العام المنصرم 2017 هو الأكثر جدلا وإثارة في تاريخ المملكة العربية السعودية الحديث، حيث شهد العديد من التغيرات والأحداث التي أعادت رسم الخارطة السياسية والاقتصادية والفكرية بل والدينية للمملكة التي ظلت سنوات طويلة تحافظ على مرتكزاتها الوطنية التقليدية قبل تصدر محمد بن سلمان المشهد.
فلم تشهد دولة زلزالا في سياساتها بصورة شبه كلية كما شهدت المملكة خلال العام الماضي، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، حتى باتت ورقة دائمة الحضور على كافة موائد نقاش الأزمات الإقليمية والدولية على حد سواء.
تساؤلات متعددة طرحها خبراء السياسة الدوليين حول مستقبل السعودية بعد التغيرات الجذرية التي منيت بها بوصلتها الخارجية، وصلت في بعضها إلى التحذير من إحداث ثورة في القصر ضد النظام الذي يسعى سلمان ونجله لإرساء دعائمه في البلاد على حساب العديد من الثوابت التي قامت على أساسها مملكة آل سعود.
سياسة لا تخلو من المخاطر
“سياسة السعودية الخارجية الجديدة لا تخلو من المخاطر”.. هكذا عنون المعهد البولندي للشئون الدولية تقريرًا له عن تقييم الأداء العام لتوجهات المملكة الخارجية خلال العام 2017، محذرًا من المخاطر المترتبة على بعض القرارات التي تم اتخاذها من قبل الرياض.
التقرير الذي نشرته مجلة “أويل برايس″ الاقتصادية الأمريكية استعرض كشف حساب للتوجهات السعودية خلال الاثنى عشر شهرًا الماضية لافتًا إلى أن الهدف الرئيسي الذي كان يسعى النظام السعودي تحقيقه من وراء هذا التغيير الواضح في السياسات يتمثل في “توطيد قوي للمخيم العربي ضد كل من إيران وتنظيم الإخوان المسلمين”.
كما كشف أيضًا أن معظم القرارات التي اتخذتها الرياض بدءًا من التدخل العسكري في اليمن، وافتعال الأزمة الخليجية مع قطر في الخامس من يونيو/ حزيران الماضي، فضلا عن الضغط على الحكومة اللبنانية، سياسيًا أو اقتصاديًا، جاءت بنتائج عكسية ولم تؤدي إلى استقرار الشرق الأوسط، أو تعزيز قدرات المملكة على تشكيل تحالفات جديدة، بل تسببت في زيادة أعداء السعودية.
التعديلات التي طرأت على السياسة الخارجية السعودية خلال العام الماضي تعود – وفق التقرير – إلى عاملين أساسيين: الأول: التغيرات التي شهدها النظام السياسي وإعادة هيكلة بعض القطاعات الحيوية داخل المملكة في ضوء حملة الإقالات والتعيينات التي قادها محمد بن سلمان ضد أباطرة النفوذ والحكم في بلاده، والتي من خلالها أطاح بقيادات الصف الأول والثاني من الشخصيات البارزة داخل الأسرة الحاكمة والتي كان يتوقع أن يكون لها دور في المشهد السياسي مستقبلا.
الثاني: حاجة المملكة الحقيقية إلى تنفيذ إصلاحات أساسية سواء داخلية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وهو دفعها لاتخاذ بعض الإجراءات القاسية في معظمها والتي ربما لا تتناسب مع الطابع المرحلي للسعودية، داخليًا وإقليميًا ودوليًا، غير أن الإصرار على تفجير بركان التغيير بزعم الإصلاح هو من كان له الكلمة العليا.
الكثيرين داخل الإدارة الأمريكية الحالية – رغم التنسيق الواضح مع الرياض- يعتريهم قلق شديد قرارات الأمير المتهورة
التحالف السعودي الأمريكي ليس دوما في صالح المملكة
بن سلمان المحرك الرئيسي
كان محمد بن سلمان المحرك الرئيسي لسياسات السعودية الخارجية طيلة العام الماضي على وجه التحديد حيث تفرد بالقرارات الأكثر صعوبة في مسيرة المملكة داخليًا وخارجيًا، بحسب التقرير.
شاطر ولي العهد الشاب، الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في الحصول على لقب “أخطر رجل في العالم” بحسب محللين وخبراء سياسيين وصفوا كليهما بأنهما السبب الرئيسي في “عدم استقرار منطقة الشرق الأوسط بشكل لم تتعرض له من قبل، وأن كلاهما يشترك في اتخاذ مواقف شديدة التهور والعدائية.”، كما جاء على لسان الكاتب الصحفي الأمريكي المتخصص في شؤون الدفاع، باتريك كوكبيرن.
كوكبيرن في مقال له في صحيفة “الابندبندنت” كشف “أن المخابرات الألمانية ذكرت، أن المملكة قد اعتمدت سياسة تدخل متهورة في الملفات الإقليمية والدولية محذرة من سذاجة الأمير محمد بن سلمان السياسية” لذا فهناك حالة من الترقب المشوب بالقلق تخيم على العواصم الأوروبية والأمريكية على حد سواء جرًاء هذه السياسات المتهورة.
ففي اليمن، ساهمت توجهاته بعد شهرين فقط من تعيينه وزيرًا للدفاع بداية 2015 في إدارة عملية “عاصفة الحزم” التي انطلقت في مارس من نفس العام، ضمن تحالف يضم 10 دول عربية وإسلامية ضد جماعة الحوثي، وأنصار الرئيس الراحل علي عبد الله صالح.
سياسة بن سلمان في إدارة المعركة في اليمن كبدت المملكة قرابة 200 مليون دولار يوميًا، فضلا عن تصاعد وتيرة التهديدات للحدود الجنوبية السعودية وصلت إلى استهداف الرياض نفسها بصواريخ الحوثيين وهو تطوير ألقى بظلاله المربعة على السعوديين، هذا بخلاف الانتقادات الدولية التي تتعرض لها السعودية جرًاء الجرائم المرتكبة باليمن وضحاياها من المدنيين والأطفال وهو ما يضعها في مواقف حرجة دوليًا.
وفي سوريا لا يختلف الوضع كثيرًا حيث التخبط في السياسات والتوجهات التي وصفت في كثير من الأحيان بالتناقض في ظل التراجع خطوات كثيرة للوراء عن الأهداف المعلنة بداية الأزمة وعلى رأسها الإطاحة بالرئيس السوري، بشار الأسد، كذلك الوضع في مصر واختلاق أزمة جزيرتي تيران وصنافير وفق اتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية بين البلدين والتي تسببت في استعداء قطاع كبير من المصريين للمملكة ونواياها تجاه بلادهم.
إضافة إلى ذلك الأزمة مع قطر وقيادة بعض الدول الخليجية والعربية لتدشين تحالف من أجل حصار الدوحة لإخضاعها لحزمة من المطالب التي تستهدف كرامتها واستقلالها لحساب أهواء ومصالح دول الحصار الرامية إلى القضاء على تيارات الإسلام السياسي بصورة كلية، بما فيها حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين، وهو ما كشفت عنه العديد من التسريبات فيما بعد.
البعض ذهب في تفسيره للتحالف السعودي مع أوروبا والولايات المتحدة ضد الإرهاب على أنه حائط صد لصالح الرياض، يدعم موقفها، ويزيد من ثقلها الإقليمي، غير أن آخرين كان لهم رأي آخر
علاوة على ذلك الهرولة نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني وتفعيل مجالات التعاون فيما بينهما بصورة غير مسبوقة قفزت بشكل كبير من الخفاء إلى العلن وهو ما كان له تداعياته على الصورة الذهنية للمملكة عربيًا وإسلاميًا، أفقدها الكثير من المكانة التي كانت تتمتع بها في السابق كونها أحد أبرز الداعمين لتيار المقاومة ضد دولة الاحتلال.
آخرون ذهبوا إلى أن توجهات الأمير الشاب لو استمرت على منوالها الحالي فإن الأمر سيكون “كارثياً بحدوث اضطرابات وفوضي وانهيار في بنية المملكة ستصب بشكل رئيسي في صالح الجماعات المتطرفة في المنطقة العربية” بحسب ما نشر على موقع شبكة NBC News الأميركية.
علاوة على ذلك فإن الكثيرين داخل الإدارة الأمريكية الحالية – رغم التنسيق الواضح مع الرياض- يعتريهم قلق شديد قرارات الأمير المتهورة “والذي يشاع عنه تعيين العديد من الأشخاص من دائرته المقربة ممن لا يتمتعون بالخبرة الكافية لقيادة دولة كبيرة كالسعودية”، حسبما أشار بروس ريدل، الضابط السابق في المخابرات الأمريكية والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط، وعضو الفريق الانتقالي في إدارة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما.
خسائر السعودية في اليمن أكبر التحديات التي تهدد مستقبل بن سلمان
ثلاثة مخاطر
تداعيات فشل التعديلات الجذرية في السياسة الخارجية السعودية خلال عام 2017 في تحقيق أهدافها يبدوا أنها لم تتوقف عند هذا الحد وكفى، إذ أن الاستمرار في نفس السياسات سيقود المملكة إلى كارثة محققة ربما تهدد بإحداث ثورة داخل القصر ضد محمد بن سلمان ونظامه بالكامل، بحسب تقرير المعهد البولندي.
مخاطر ثلاثة على السياسة السعودية الجديدة في عام 2018 ، تنوعت ما بين تحديات داخلية وأخرى خارجية، رصدهم التقرير، إن لم تتداركهم المملكة فإن المستقبل لن يكون كما يتمناه القائمون على أمور السلطة هناك.
أولا: التحديات الداخلية.. تمثل التحديات الداخلية الخطر الأول الذي يهدد مستقبل بن سلمان إذ أن القرارات الجريئة التي اتخذها العام الماضي أحدثت ارتباكا شديدًا داخل الأسرة الحاكمة على وجه الخصوص، إضافة إلى تداعياتها على الشارع السعودي بصفة عامة.
ورغم تقليل البعض من احتمالية تأثير هذا العنصر في ظل الخضوع التام – ظاهريًا – لتحركات ولي العهد الشاب والتي استهدفت أعمامه وأبناء عمومته وشخصيات لها ثقل كبير داخل الأسرة، إلا أن آخرون يشيرون إلى أن الأمر لن يمر بهذه السهولة وأن له تداعيات خطيرة خاصة اعتقاله ما يزيد عن 200 من الأمراء والوزراء السابقين والحاليين فضلا عن رجال الأعمال، حتى وإن لم تظهر في حينها.
التقرير أختتم هذا المحور بأن“قرارات وإجراءات وسياسات بن سلمان الجريئة، قد تؤدي إلى زعزعة استقرار المملكة بصورة كبيرة، أو اندلاع احتجاجات جماهيرية، أو حتى اندلاع ثورة داخل القصر الملكي، لأول مرة في التاريخ السعودي”.
معظم القرارات التي اتخذتها الرياض بدءًا من التدخل العسكري في اليمن، وافتعال الأزمة الخليجية مع قطر في الخامس من يونيو/ حزيران الماضي، فضلا عن الضغط على الحكومة اللبنانية، سياسيًا أو اقتصاديًا، جاءت بنتائج عكسية
ثانيًا: فشل المبادرات.. لم تتمكن السعودية من تحقيق أهدافها في العديد من الملفات التي قادتها إقليميًا، إذ منيت كافة القرارات والمبادرات الرئيسية للأمير الشاب بالفشل الذريع، كونها فشلت في توطيد التحالف العربي ضد الحوثيين في اليمن على سبيل المثال وتعرضت لخسائر فادحة، سياسيًا واقتصاديًا، ما تسبب في زيادة أعدائها بصورة كبيرة، كما تم ذكره سابقًا.
كذلك فشلت في محاولات التصعيد مع كل من الجبهات التي فتحتها خلال الآونة الأخيرة سواء في قطر أو لبنان، هذا بخلاف تأزم الوضع مع إيران في الوقت الذي نجحت فيه الأخيرة في سحب البساط من تحت أقدام المملكة إقليميًا في الكثير من الملفات.
المعهد البولندي زعم في تقريره أن استقواء السعودية بالولايات المتحدة و”إسرائيل” أضفى شيئًا من الشجاعة على السعوديين في القيام بتحركات دبلوماسية محفوفة بالمخاطر ضد إيران على وجه الخصوص، لافتًا في الوقت ذاته إلى أن التحالف السعودي الإسرائيلي، لا يمكن أن يوصف بالشراكة، كونه وفق وصف التقرير “غير موحد وغير منسق”، لأن الهدف الوحيد له هو مواجهة “الشيعة والإخوان المسلمين” في المنطقة.
ثالثًا: الحلف الأوروبي الأمريكي.. البعض ذهب في تفسيره للتحالف السعودي مع أوروبا والولايات المتحدة ضد الإرهاب على أنه حائط صد لصالح الرياض، يدعم موقفها، ويزيد من ثقلها الإقليمي، غير أن آخرين كان لهم رأي آخر، إذ أن هذا الحلف يمكن أن يكون بمثابة خطر بالغ على الشرق الأوسط، خاصة وأن كل الأطراف المشاركة فيه تحمل وجهات نظر متباينة عن التهديدات في المنطقة.
فالسعودية تفسر الإرهاب على أنه التهديد القادم من إيران والذي يستوجب محاربتها بشتى السبل، بينما وجهة النظر الأمريكية والأوروبية ينظرون لمحاربة الإرهاب كونها ملاحقة الأفكار الجهادية والمتطرفة بما فيها بعض المعتقدات التي يتبناها بعض رجال الدين بالسعودية.
ومن ثم فإنه وفق المسار الحالي وتصاعد حدة المخاطر سالفة الذكر يمكن القول إن العام الجديد ربما يحمل مفاجآت غير متوقعة تعيد رسم الخارطة السياسية للمملكة بصورة كبيرة، إما أن تدفع بولي العهد الشاب إلى كرسي العرش وإما أن تطيح به خارج الديوان الملكي نهائيًا.