لماذا نميل لإطلاق الأحكام المسبقة حيال مَن حولنا؟

يميل الدماغ البشريّ في كثيرٍ من الأحيان للتكاسل عن التفكير وتكوين الأفكار جديدة أو العمل على تطوير القديمة منها، لذلك يلجأ في تلك الأوقات إلى البحث عمّا هو موجود لديه في السابق واستخدام الاختصارات والمعلومات المتوافرة لديه مسبقًا والتي كوّنها في وقتٍ سابق وبقيَ معتقدًا أنّها صالحة للاستخدام بغض النظر عن الموقف أو الحالة التي هو فيها.
ممّا لا شكّ فيه أننا نحتاج استخدام الاختصارات العقلية واللجوء إليها، إذ أنّها تساعدنا في اتخاذ القرارات والوصول للأحكام بسرعة دون الحاجة للتفكير العميق، ما يجعلنا قادرين على التعامل مع المواقف الحياتية المختلفة بفعالية سريعة تمكّننا من السير في حياتنا بسلاسة. لكن وعلى الجانب الآخر، يُعتبر استخدام الاختصارات العقلية في الوقت ذاته واحدًا من أوجه القصور الكبرى في الدماغ البشري.
نحن نستخدم الآخرين من حولنا كمرايا تستند إليها رؤيتنا للعالم والواقع من حولنا بالإضافة إلى استناد فكرتنا عن أنفسنا وذواتنا عليهم أيضًا
إذ أنّ هذه الاختصارات والمعروفة في علم النفس بمصطلح الاستدلالHeuristic” “، وهي الآلية التي يلجأ الإنسان من خلالها لحل المشاكل واتخاذ القرارات بسرعة وكفاءة، يمكن أن تؤدي إلى ارتكاب الأخطاء والتحيزات المعرفية “Cognitive Biases“، والتي من خلالها نلجأ لإطلاق الأحكام المُسبقة “Judgments” على الأشخاص والأشياء من حولنا.
نحن نستخدم الآخرين من حولنا كمرايا تستند إليها رؤيتنا للعالم والواقع من حولنا بالإضافة إلى استناد فكرتنا عن أنفسنا وذواتنا عليهم أيضًا. وقد تكون أحد الأسباب الرئيسية وراء ذلك أنّنا نعجز عن معالجة العدد الهائل من المعلومات التي تصلنا من محيطنا، وبالتالي نلجأ للعثور على المعلومات السهلة واليسيرة من خلال إطلاق الأحكام المسبقة، دون محاولة التفكير فيها والذي يعدّ أصعب بكثير ويتطلّب طاقة وجهد.
يميل الأفراد من خلال “الاستدلال المتاح” لاتخاذ القرارات وإطلاق الأحكام بناءً على الأمور والعوامل التي تخطر على العقل أولًا بكل سهولة
المعضلة الثانية تكمن في أنّ عملية تحويل المعلومات الخام التي نستقبلها مما وممن حولنا إلى معلومات مفيدة يمكن استخدامها بمنطقية في الحياة اليومية يتطلّب الربط بين المعلومات الجديدة التي يستمرّ الفرد بالحصول عليها والمعلومات القديمة المخزّنة في ذاكرته أساسًا. وبالتالي فإنّ عملية الربط هذه معرّضة بدرجة كبيرة لأن تكون غير موضوعية وغير دقيقة أبدًا، إذ أنّ المعلومات القديمة قد تؤثّر سلبًا على الجديدة، فتغيّر منها أو تمحوها أو تجعل منها بعيدةً كلّ البُعد عن الواقع والحقيقة.
العديد من العيوب في تفكيرنا والأحكام المُسبقة التي نطلقها على من حولنا تتبع نوعًا من التحيّز يُطلق عليه “الاستدلال المُتاح”، والذي يعني أنّنا نميل لاتخاذ القرارات وإطلاق الأحكام بناءً على الأمور والعوامل التي تخطر على عقلك أولًا بكل سهولة، بمعنى أننا في خضم مواقفنا اليومية ومحاولتنا لاتخاذ القرارات قد نتذكر الكثير من الأشياء بسرعة أكبر من غيرها، والتي غالبًا ما تكون مشابهة وذات صلة للموقف الذي نحن فيه، وبما أن هذه الأشياء هي الأكثر سهولةً على ذاكرتك لاستخراجها، فإنك على الأرجح سوف تعتقد أنها الأكثر منطقيةً وشيوعًا.
قد تكون الأحكام المُسبقة التي نطلقها على الأفراد من الجماعات الإثنية المختلفة والمغايرة والتي تصبح فيما بعد شكلًا من أشكال العنصرية، تتبع هذا النوع من الانحياز المعرفي. خذ على سبيل المثال الفكرة التي سادت مطوّلًا في أمريكا بأنّ أي فرد أسود أو إفريقيّ هو بالضرورة إنسانٌ عدوانيّ أو مجرم، والتي تمنعك من التعامل مع أيٍّ منهم خوفًا أو احتراسًا، إذ أنّ أول ما يخطر على بالك حال رؤيتك ذلك الشخص هو الفكرة التي يسهل على دماغك الوصول إليها، وهي عدوانية الطرف المقابل، والتي قد تكون نتاجًا لتجربة سابقة أو بتأثيرٍ من المجتمع أو الإعلام أو أيّ عوامل أخرى.
نميل كبشر إلى أن نكون أكثر عرضة لرؤية الجانب السلبي للشخص أو الحدث، أو التفكير به قبيل حدوثه
يمكن أن تؤدي آلية الاستدلال إلى التمييز العنصري والتحيز، لأنها عملية قائمة على تصنيف الأشياء والأشخاص بناءً على أفكار وتجارب سابقة، فلذلك غالبًا ما تجعل الفرد يغفل المزيد من المعلومات ذات الصلة ويخلق تصنيفات نمطية لا تتفق أبدًا مع الواقع والحقيقة، فعلى سبيل المثال، قد تكون مررتَ بتجربة سلبية أو سيئة مع شخص من مجموعة أخرى، الأمر الذي قد يجعلك عرضةً للحكم على جميع أفراد تلك المجموعة بناءً فقط على تجربتك السابقة مع ذلك الشخص.
بالإضافة لذلك، نبدو كبشر أكثر تناسقًا مع التجارب السلبية من التجارب الإيجابية، ونميل إلى أن نكون أكثر عرضة لرؤية الجانب السلبي للشخص أو الحدث، أو التفكير به قبيل حدوثه. ومن وجهة علم النفس التطوّري، فإنّ هذا النوع من الانحياز والذي يُسمّى “الانحياز السلبي”، يرجع أساسًا إلى محاولة الإنسان الأول للبقاء والاستمرار، فالجسم يتفاعل بشكلٍ أكثر كثافة مع المحفزات السلبية التي تعمل بدورها على زيادة النشاط العصبي والهرموناتي للجسم، ما يحفّز أساليب النجاة والدفاع في حالات الخطر.
ولتتضح الفكرة أكثر، فإنّ تفكير الإنسان الأول بالجانب السلبيّ ممّن حوله، ساعده أكثر على توقع مخاطرهم وبالتالي حمايته لنفسه والنجاة بها. وبالتالي، فأنْ تطلق حُكمًا سلبيًّا مُسبقًا على أحدهم، قد يرجع للسبب نفسه الذي تطوّرنا عليه، غير أنّ الأمر يصبح أكثر سوءًا حين يتمّ تعطيل عمل الدماغ بالتفكير والاكتفاء فقط بالأفكار السلبية المكتسبة مسبقًا واستخدامها أو تعميمها على الكثير من المواقف والحالات المشابهة.
تنص “نظرية العزو الأساسي” إلى أننا نعزو تصرفاتنا للظروف الخارجية المحيطة وتصرفات الآخرين وسلوكياتهم إلى سماتهم الذاتية وصفاتهم الشخصية
يمكن أنْ نفهم ميلنا لإطلاق الأحكام من خلال “نظرية العزو الأساسي” أيضًا، والتي تختص بدراسة الطرق التي يفسر فيها الأشخاص سلوكياتهم وسلوكيات الآخرين. ووفقًا لهذه النظرية، فإنّنا نعزو تصرفاتنا للظروف الخارجية المحيطة بنا أما حين يتعلّق الأمر بتصرفات الآخرين وسلوكياتهم فإنّنا نميل لتفسيرها وفقًا لسماتهم الذاتية وصفاتهم الشخصية، فأنتَ إنْ لم تنجح في امتحانٍ ما فهذا بسبب عدم مصداقية المعلّم، أما حين يأتي الأمر لعدم نجاح زميلك في الدرس فسيكون الأمر وقتها لأنه “غبي” أو “فاشل”!
يعود السبب وراء هذا لما يسميه علماء النفس الاجتماعيّون بموقع بؤرة الانتباه أو ” focus of attention “، فأنت عندما تلاحظ سلوك أحدهم فلن تجهد نفسك بالتركيز على كل تلك العوامل الخارجية المؤثرة عليه أو تبدأ بتحليل كلٍ منها على حدة، بل تكتفي بعزو السبب إلى الشخص ذاته، لأنّ السلوك نفسه هو أكثر ما يجذب انتباهك في الموقف أكثر مما تفعل العوامل الخارجية المحيطة.
كما أنّ لجوءنا إلى عزو سلوكيات الآخرين وتصرفاتهم إلى صفاتهم الشخصية وسماتهم الداخلية يعطينا اطمئنانًا ناتجًا من قدرتنا على تنبؤ سلوكياتهم، الأمر الذي يمنحنا الحس بالسيطرة على البيئة المحيطة بنا.
أما حين يأتي الأمر إلى سلوكك أنت، فبالطبع سيعمل دماغك على إحالة الأسباب للظروف الخارجية، لأنّ بؤرة تركيزك ليست داخلك أو في ذاتك، بل تقع في محيطك وما فيه من عوامل ومؤثرات خارجية تخيل نفسك كمن يمسك بآلة تصوير وينظر من خلالها للخارج، فهو يرى ما حوله ولا يستطيع النظر لنفسه. إضافةً لذلك، فنحن لا نحبّذ تصنيف أنفسنا أو إتباع سمات محددة بشخصياتنا، بسبب رغبتنا عدم إتباع أنفسنا لدائرة التصنيف ذاتها مع من غيرنا، الأمر الذي يرجع لرغبتنا بالتميّز والتفرّد.
قد تكون أدمغتنا وعقولنا جُبلت على التحيزات الفكرية سواء التي ذكرناها أو غيرها، والتي باتت جزءًا لا يتجزأ من أدمغتنا وعقولنا، إذ يصعب في كثير من الأحيان التخلص منها أو القضاء عليها. ولكن من خلال إدراكنا لوجودها وأنّنا قد نقع بسهولة ضحايا لها نصبح قادرين على منع تدخلها في تفكيرنا وتسببها في إطلاق الأحكام المسبقة أو اتخاذ القرارات غير السليمة، حتى لو احتجنا وقتًا طويلًا لذلك.