على بُعد 1680 كيلومترًا تقريبًا من المجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال بحقّ الأطفال والنساء في رفح جنوبي قطاع غزة، كان رؤساء وملوك وممثلو 22 دولة عربية يلتقون على مائدة واحدة على هامش أعمال القمة العربية الـ 33، التي احتضنتها العاصمة البحرينية المنامة لأول مرة في تاريخها.
اختتمت القمة التي شارك فيها الأمين العام للأمم المتحدة أنطوني غوتيريش، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي، أعمالها مساء الخميس 16 مايو/ أيار 2024، ببيان “فضفاض” أكدت فيه على ضرورة وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة فورًا، ورفع الحصار المفروض عليه، والرفض القاطع لأي محاولات للتهجير القسري للشعب الفلسطيني، مع التشديد على الموقف العربي الثابت والداعم للقضية الفلسطينية، باعتبارها القضية المركزية وعصب السلام والاستقرار في المنطقة.
وخلص البيان -الخالي من أي إجراءات تنفيذية- إلى إدانة عرقلة “إسرائيل” لجهود وقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومطالبة المجتمع الدولي بتنفيذ قرارات مجلس الأمن لتسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، دون الحديث عن أية إجراءات من شأنها ترجمة تلك المطالبات والمناشدات لإجراءات عملية تجبر الاحتلال على إعادة النظر في ممارساته الإجرامية.
ورغم تراجع منسوب الأمل قبيل انعقاد القمة بشأن احتمالية أن تخرج بأي جديد يخفف عن الفلسطينيين واقعهم المؤلم، إلا أن البعض كان يعوّل -ولو بنسب ضئيلة- على هذا الاجتماع العروبي، لعلّه يكون فرصة نحو استفاقة الضمير العربي ولو متأخرًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، واستغلال ذلك الحدث من أجل اللحاق بركب الإنسانية بعدما بات الخذلان العنوان العروبي الأبرز.
ظرف استثنائي لم يحرك ساكنًا
من المرات النادرة أن تنعقد قمة عربية في ظروف استثنائية حرجة كتلك التي انعقدت فيها قمة المنامة الراهنة، حيث الإطاحة الإسرائيلية بالأمن القومي العربي وانتهاكها للسيادة العربية بشكل كامل، وعربدتها التي لا تراعي أي حسابات أو اعتبارات للموقف العربي برمّته، وتعريض حياة شعب بأكمله للإبادة على مرأى ومسمع من أشاوس العرب وملوكهم وفخامتهم وسموهم.
ففي الوقت الذي يناقش فيه المجتمعون على مائدة القمة سبل التضامن العربي ودعم القضية الفلسطينية، والعمل لأجل حفظ ماء الوجه العربي المراق على تراب غزة، ويحذّرون عبر بيانهم المشترك من أي تصعيد إسرائيلي جديد يضع العلاقات مع العرب على طاولة النقاش، يمارس جيش الاحتلال إجرامه المعهود بشكل مكثف بحق العزل من النساء والأطفال في رفح وجباليا وخان يونس، ضاربًا بالتحذيرات العربية عرض الحائط، ومتجاهلًا كافة المناشدات والاستغاثات الصادرة عن “مكلمة” المنامة.
الرئيس المصري #عبدالفتاح_السيسي: التاريخ سيتوقف طويلا أمام الحرب الإسرائيلية على غزة ويسجل مأساة كبرى عنوانها الإمعان في القتل وحصار شعب كامل والسعي لتهجيرهم قسريا#القاهرة_الإخبارية #القمة_العربية#قمة_البحرين #فلسطين #غزة pic.twitter.com/d5k4lz8Llw
— القاهرة الإخبارية – AlQahera News (@Alqaheranewstv) May 16, 2024
مثل هذا الظرف الاستثنائي قد يراه البعض -أو هكذا يكون- دافعًا ومحركًا قويَّين لتوليد طوربيدات الكرامة والعزة لدى الأنظمة والحكومات العربية، في مواجهة عدو يهدد أمنهم القومي، ويقزّم ثقلهم الإقليمي ويجعله ألعوبة بأيدي جنوده وجنرالاته وأعضاء اليمين المتطرف الذي يتحكم في مجريات الحرب على مدار أكثر من 7 أشهر.
وتنعقد القمة كذلك بينما يعاني السودان من حرب شعواء بين الجنرالات، فيما تتورط أطراف عربية في تغذيتها، تلك الحرب التي قسمت البلاد وأفسدت على السودانيين حياتهم ودفعت الملايين منهم نحو النزوح داخليًّا وخارجيًّا، وسط صمت وتجاهل عربي وإقليمي ودولي لما يدور هناك بعيدًا عن دوائر الأضواء.
هذا بخلاف المشهد الليبي والسوري والعراقي واليمني، حيث المنطقة في معظمها فوق فوهة بركان قابل للانفجار في أي وقت، كل هذا يستوجب التحرك اليوم قبل الغد، ويدفع بالعرب للقيام بمسؤولياتهم السياسية والأخلاقية والتاريخية لتخفيف حدة التوتر قبل لحظة الانفجار التي قد تقلب المنطقة رأسًا على عقب.
الانقسام عنوان القمة
استهلت القمة أعمالها بتوتر وتراشق سياسي وإعلامي بشأن الموقف من حرب غزة، وشكل وطبيعة وآلية دعم الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال، وصل هذا السجال إلى حد الصدام بين ممثلي السلطة الفلسطينية والإمارات التي أفشلت دعم موازنة السلطة من خلال التحفُّظ على البندَين الأول والخامس من قرارات اللجنة التحضيرية التي اجتمعت في المنامة يومَي الثلاثاء والأربعاء 14-15 مايو/ أيار الجاري، حسبما نشرت وسائل إعلام عربية نقلًا عن مصادر مطّلعة.
وأشارت المصادر أن الإمارات شددت على أن دعم موازنة السلطة الفلسطينية لا بدَّ أن يكون مشروطًا بتشكيل حكومة فلسطينية من الخبراء المستقلين الأكفاء، تتمتع بالنزاهة والثقة وتعمل بشفافية واستقلالية، مقارنة بسلطة قالت إنها لم ترَ منها أي إنجازات ذات مغزى طوال السنوات المنصرمة.
أغضب ذلك الجانب الفلسطيني الذي قدّم مذكرة جاء فيها: “إن دولة فلسطين، وإذا تعتقد بالحق السيادي لأي دولة عضو في إبداء تحفظاتها أو ملاحظاتها على القرارات، لكن ذلك يجب أن يستند إلى قواعد وأصول تنسجم مع ميثاق جامعة الدول العربية التي يوجب عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، كما أن التحفظ يجب أن يراعي مبدأ الاحترام بين الدول الأعضاء”.
🔴بعدما أفشلت دولة #الإمارات دعم موازنة #السلطة_الفلسطينية بالتحفظ على بندين مهمين لدعمها مالياً، سادت أجواء من التوتر والتراشق الإعلامي خلال الاجتماعات التحضيرية لـ #القمة_العربية الثالثة والثلاثين في #المنامة ثم تُعدل القرارات النهائية للاجتماعات بما يتفق مع تحفظ الإمارات.… pic.twitter.com/eMlGSSfVbd
— العربي الجديد (@alaraby_ar) May 16, 2024
وكان وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، قد نشر على حسابه على منصة إكس السبت 11 مايو/ أيار 2024، مشككًا في نزاهة واستقلالية وكفاءة الحكومة الفلسطينية، وذلك ردًّا على رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو حول دعوة الإمارات للمشاركة في إدارة مدنية لقطاع غزة.
ويعدّ هذا التراشق امتدادًا لما حدث في اجتماع السداسية في 27 أبريل/ نيسان الماضي في الرياض، حينها اتهم وزير الخارجية الإماراتي السلطة الفلسطينية بالفساد، لافتًا أن الحكومة الجديدة التي شكّلتها السلطة برئاسة محمد مصطفى ليست أكثر من تبديل وجوه، وأن السلطة عبارة عن “علي بابا والأربعين حرامي” على حدّ قوله، وهو ما أدّى إلى اشتباك لفظي مع أمين سر اللجنة التنفيذية حسين الشيخ بحضور وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن.
بين المنامة ولاهاي
تزامن انعقاد القمة العربية في المنامة مع مرافعة وفد جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن الدعوى المرفوعة ضد “إسرائيل”، والتي تتهمها فيها بارتكاب جريمة إبادة في قطاع غزة، وهو التزامن الذي وإن جاء مصادفة لكنه كشف حجم التناقض والبون الشاسع بين أصحاب الأقوال والأفعال.
للمرة الرابعة منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، تتقدم جنوب أفريقيا بطلب للمحكمة بضرورة إجبار الاحتلال على اتخاذ إجراءات احترازية لوقف حرب الإبادة التي يشنها ضد المدنيين في غزة، مشددين على إدانة الكيان المحتل الذي وصفوه بـ”النظام العنصري”، وقال الفريق الأفريقي إن الإفلات من العقاب سمح لـ”إسرائيل” بممارسة الإبادة الجماعية في القطاع، وجعلها تصعّد من حربها بغزة في انتهاك لقرارات محكمة العدل ومجلس الأمن الدولي.
وفي الوقت الذي أكد فيه فريق جنوب أفريقيا أمام المحكمة الدولية على أنه “لا شيء يبرر الإبادة الجماعية بحق المدنيين في غزة ولا حتى حق الدفاع عن النفس”، كان رئيس السلطة الفلسطينية يشنّ هجومًا على حماس من داخل القاعة التي تحتضن القمة العربية في المنامة، محمّلًا إياها مسؤولية ما وصل إليه الوضع في غزة، لافتًا أنها -أي حماس- هي من أعطت الذرائع للاحتلال للقيام بتلك المجازر.
محمود عباس: عملية #حماس في 7 أكتوبر وفرت لإسرائيل مزيدا من الذرائع لمهاجمة #غزة، والحركة ترد: العدو الصهيوني لا ينتظر الذرائع لارتكاب جرائمه بحق شعبنا#حرب_غزة pic.twitter.com/C1792skvTC
— قناة الجزيرة (@AJArabic) May 16, 2024
ويتبنى عباس ومعه العديد من الأنظمة العربية ولجانها الإلكترونية والإعلامية سردية تحميل المقاومة تردي الأوضاع في القطاع، وأنها ولأجل مصالحها الشخصية شنت عملية “طوفان الأقصى”، التي زلزلت الكيان المحتل وحوّلته إلى ثور هائج بعدما أسقطت عنه أقنعته المزيفة عن أسطورته التي لا تقهر، وهي السردية ذاتها التي يروّجها إعلام المحتل لشيطنة المقاومة وتجريدها من حاضنتها الشعبية.
اللافت هنا أن الجامعة العربية وكبار قادة الدول العربية، وبدلًا من دعوة جنوب أفريقيا لحضور قمة المنامة كضيف شرف على ما قدمته من دعم للقضية الفلسطينية، إذ بهم يسبحون عكس التيار فيما يحدث في لاهاي، فبينما تكثّف الدولة الأفريقية غير العربية من جهودها لـ”حشر” الكيان المحتل في زاوية ضيقة أمام المحكمة الدولية، إذ بالعرب منقسمون حول اتهام حماس وفصائل المقاومة وتحميلها مسؤولية الإجرام الإسرائيلي بحق سكان القطاع، في تناقض يعمّق من عار الخذلان العربي الفاضح إزاء الفلسطينيين منذ بداية الحرب.
تغطية صحفية | وفد جنوب إفريقيا بمحكمة العدل الدولية يقول إنه ليس للمحـ ـتل الحق في الدفاع عن النفس ضد من يحتـ ـلهم، مشيرا إلى أنه لا يوجد شيء يبرر استخدام «إسرائيل» للعنف اللا محدود، أو يبرر المجاعة في قطاع غزة pic.twitter.com/pBItN0wfK5
— شبكة رصد (@RassdNewsN) May 16, 2024
فشل جديد في الاختبار وتفويت معتاد للفرص
منذ بداية حرب غزة مُنح العرب فرصة تلو الأخرى لتصحيح المسار وتحسين الصورة، التي شوهها الصمت والتخاذل الفجّ تجاه ما يتعرض له فلسطينيو القطاع من جرائم إبادة غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، حيث ارتقاء أكثر من 35 ألف مواطن وإصابة ضعفهم وتعريض حياة ما يزيد عن مليون ونصف نازح للخطر، بعدما دُمّر ثلثا القطاع المحاصر بأيدي الاحتلال والأشقاء معًا.
وقدم المحتل بإجرامه وعناده وضربه بكل الحسابات والمقاربات عرض الحائط، هدايا على أطباق من ذهب فوق مائدة أنظمة وحكومات الحكام العرب، لغسل سمعتهم الملطخة بنيران التواطؤ وغضّ الطرف والانقسامات الحادة، لكنهم كالعادة لم يستغلوها، بل على العكس ساروا عكس اتجاهها بشكل أثار الكثير من الحيرة والاستغراب.
وبينما يطبق المحتل من حصاره على القطاع، معلنًا حرب تجويع شعواء ضد الغزيين، ما دفع الحوثيين في اليمن لغلق الباب أمام السفن المتجهة لـ”إسرائيل”، وإشعال الموقف في البحر الأحمر رغم كلفة هذا التصعيد، إذ بالإمارات ترسل جسرها البرّي من شاحنات المساعدات للكيان عبر الأراضي السعودية والأردنية، في محاولة لإجهاض ما يفعله الحوثيون، ولمساعدة الكيان المحتل على المضيّ قدمًا في إجرامه بحق الفلسطينيين.
ورفض العرب توظيف ما لديهم من أوراق ضغط لإثناء “إسرائيل” عن جرائمها، بداية من اتفاقيات التطبيع المبرمة مع بعض الدول، مرورًا بالورقة الاقتصادية والنفطية، وصولًا إلى الورقة العسكرية، فضلًا عن ورقة الرأي العام والضغط الشعبي، ما منح نتنياهو وحكومته وجيشه الضوء الأخضر لارتكاب المزيد من الانتهاكات الوحشية دون قلق من محاسبة أو مسائلة أو ردّ فعل عربي.
ورغم ذلك توقع البعض أن تكون قمة المنامة فرصة للتعويض، حتى وإن كانت في الوقت الضائع، وألا يكون هذا الاجتماع محل خلاف أو إثارة لاختلافات هنا وهناك نظرًا إلى خطورة الوضع، كما أشار الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية عمرو موسى الذي منّى نفسه بأن تكون القمة فرصة للمّ الشمل، سواء بين الفصائل الفلسطينية نفسها أو لمّ شمل العرب بتوحيد موقفهم إزاء تلك الحرب وإنقاذ القضية الفلسطينية من مخطط التصفية.
لكن يبدو أن العرب كالعادة أضاعوا تلك الفرصة التي كان يمكن أن يُبنى عليها إذا ما توفرت الإرادة، لتلحق الأنظمة العربية بالجامعة، كيان مترهّل لا أمل فيه ولا منه، ليجد الفلسطينيون أنفسهم في ميدان المواجهة دون ظهير، بعدما تحولت قضيتهم إلى ورقة ابتزاز ومتاجرة من الحكومات والقادة، ضجيج بلا طحين.