ترجمة وتحرير: نون بوست
كتب: ماريون أرمنغود وفرانك هادرر
في سياق أعمال القمع التي تغذي الانتفاضات الحالية، لا يزال جزء كامل من التاريخ الموسيقي لإيران محظورا منذ الثورة الإسلامية. قبل اندلاع الاضطرابات الحالية، خرجت صحيفة لبيراسيون في عملية بحث عن هذه الأقراص التي تمزج بين البوب الغربي والتقاليد الفارسية، والتي تباع في المحلات التجارية خلسة، تحديا للسلطات.
في طهران، تجعل حركة المرور الفوضوية عاصمة جمهورية إيران الإسلامية في طليعة قائمة المدن الأكثر ازدحاما في العالم، ما يجعل الطائرات لا تقلع ولا تهبط إلا في الليل، وذلك للحيلولة دون قطع المسافرين لكيلومترات من الطرقات المزدحمة. وبعد قضاء أسبوعين في إيران، حل موعد رحلة العودة إلى باريس، التي لم تكن استثناء للقاعدة، وانطلقت على الساعة 3 و40 دقيقة صباحا. وللهروب من حركة المرور المزدحمة، انعرج سائق سيارة الأجرة بعيدا عن طرقات طهران بأقصى سرعة، في حين كانت نوافذ السيارة المفتوحة. وقد كان يستمع لأغاني أديل، وريهانا على الرغم من أنها تعد من الأغاني الموسيقية المحظورة في البلاد.
في هذا السياق، أوضح السائق قبل وصوله إلى المطار، الذي كان يغرق في هدوء الليل، أنه “من خلال الشبكة الخاصة الافتراضية للانترنت (التي تسمح بنقل بروتوكول الإنترنت) نستطيع التحايل على الرقابة المفروضة على هذا النوع من الأغاني والحصول على هذه المقطوعات الموسيقية”. وعند الوصول إلى المطار وتأكيد الرحلة إلى باريس، قام موظفو الجمارك بفصل المسافرين من أجل إجراء الفحص ومراقبة الأمتعة والحقائب، حيث كان النساء من جهة، والرجال من جهة أخرى.
ظهرت هذه الأغاني خلال عهد الشاه، بين سنة 1967 وسنة 1978. وقد كانت نتاج عصر الكراهية لحقبة الحداثة التي طالت العديد من الدول، وبالتزامن مع ظهور ثورات الموسيقى الغربية، على غرار موسيقى الروك والفانك، والسول
حتى في المطار، كانت الجدران مغطاة بالصور الرسمية لمرشدي الثورة الإسلامية آية الله الخميني وخامنئي، كما هو الحال في كل مكان في إيران. لم يكن الصف طويلا جدا، لكن كان يبدو أن عملية الانتظار ستطول: حيث تم اكتشاف جامع الأقراص المدمجة، وسيقع ترحيله. في الأثناء، قام موظفو الجمارك بتفتيش الرجل وحقيبته التي تحتوي على الكثير من الذكريات المحظورة، ومن ثم طلبوا منه اللحاق بهم. ووراء ستار أبيض، أمروه بتفريغ محتوى حقيبته.
في الحقيقة، كانت حقيبته تحتوي على نحو 50 قرصا فونوغرافيا و20 قرصا مدمجا. في الواقع، كانت جريمة هذا الرجل هي الموسيقى. كانت مجموعة التسجيلات المحظورة تعود إلى المغنية الإيرانية كوكوش، وراميش، وزيا، وشهرام شبيرة ومحمد نوري، مع العلم أن العثور على مثل هذه الأسطوانات في طهران لا يعد أمرا سهلا لأنها ممنوعة.
“المتعة والنشوة”
ظهرت هذه الأغاني خلال عهد الشاه، بين سنة 1967 وسنة 1978. وقد كانت نتاج عصر الكراهية لحقبة الحداثة التي طالت العديد من الدول، وبالتزامن مع ظهور ثورات الموسيقى الغربية، على غرار موسيقى الروك والفانك، والسول. وقد سافرت موسيقى البوب بحرية إلى إيران، وذلك بفضل أجهزة الراديو للجيش الأمريكي، واختلطت مع الإيقاعات التقليدية، لتكوّن مزيجا فريدا من الأصوات التي تصدرها آلة السيتار، والغيتار، والباس والدرامز وآلة النفخ النحاسية، مع الأغاني الفارسية. وعادة نجد لهجات الغناء الفارسي مختلطة مع مقطوعات من موسيقى السايكدليك والجاز.
في ذلك الوقت، كان شباب طهران يرقصون على هذه الأغاني في قصر الشباب أو فندق فاناك. لكن منذ ثورة 1979، سيطرت وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي بشكل جذري على جميع المنتجات الثقافية، تحت شعار نشر “العفة العامة”. فضلا عن ذلك، تكفلت الوزارة بمنح التراخيص التي تسمح للفنانين بتسجيل الأغاني وإحياء حفلة موسيقية أو حتى بث أغانيهم.
منذ سنوات وبفضل “الدي جي” وشركات التسجيل المختصة في إعادة نشر الأغاني على غرار “فايندرز كيبرز” “وفاراواي ساوندز” “ولايت أتيك” أصبحت عمليات التنقيب على الموسيقى الإيرانية ما قبل الثورة أشبه بعمل الباحثين في الآثار
منذ ذلك الوقت، تغيرت الكثير من المعايير، وتم السماح للمغني كينغ رام بإحياء حفل مباشر في السنوات الأخيرة. أما خلال سنة 2013، سمح لمغنية أوبرا بالغناء في إيران، علما وأن هذا الحدث يعد الأول من نوعه منذ سنة 1979. لكن من غير المستغرب أن تُمنع الموسيقى الغربية الحديثة في إيران، حيث منعت الموسيقى الإيرانية التي تعود لحقبة ما قبل الثورة.
خلال حوار مسجل يعود لسنة 1979، صرح آية الله الخميني بأن الموسيقى القادمة من الغرب “تضعف الروح لأنها تثير المتعة والنشوة”، مشددا على أن موسيقى البوب أشبه “بالمخدرات”. وعندما قاطعته الصحفية الإيطالية، أوريانا فالاتشي، قائلة: “حتى موسيقى باخ وبيتهوفن؟”، أجابها الخميني بسرعة محاولا إنهاء الحوار: “أنا لا أعرف هذه الأسماء”.
لكن ما هو مضمون تلك الأغاني حتى تفرض عليها كل هذه القيود؟ في الحقيقة، تتطرق أغلبها إلى قصص الحب أو بعض القيم المتواترة في تسجيلات أغاني البوب الأنجلوسكسونية في ذلك العصر، التي باتت من القيم التقليدية. فعندما رددت كوكوش أغنية “ريسبكت” لأريثا فرانكلين في بلد لا يحترم حقوق المرأة، كان لكلماتها صدى ووقع مختلف تماما. في الوقت الراهن، لا يتسامح علماء الدين في إيران، الذين يرفضون غناء المرأة، البتة مع الحنين لفترة ما قبل الثورة. ومنذ وصولهم للحكم، أمر مختلف “آيات الله” في إيران، بتدمير مجموعات موسيقية تعود لتلك الحقبة، بغض النظر عن جنس المغني. لقد أهلك عقد من الموسيقى تحت سجادة الصلاة، لكنها لم تُنس على الإطلاق.
منذ سنوات وبفضل “الدي جي” وشركات التسجيل المختصة في إعادة نشر الأغاني على غرار “فايندرز كيبرز” “وفاراواي ساوندز” “ولايت أتيك” أصبحت عمليات التنقيب على الموسيقى الإيرانية ما قبل الثورة أشبه بعمل الباحثين في الآثار. يبدو أنه وبعد أن استنزفوا طاقتهم في البحث في موسيقى السول والفانك والروك والجاز الغربي توجهوا ليخوضوا مغامرة في الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب وشرق آسيا من أجل العثور على هذه الكنوز القيمة، التي لا يمكن العثور عليها عبر الإنترنت.
للعثور على تلك الكنوز القيمة يجب البحث في الأسواق والبازارات، على غرار سوق الجمعة الذي ينظم مرة في الأسبوع في موقف سيارات “بارفنايه” بعد انتهاء المصلين من صلاة الجمعة.
من جانبه، أعرب دوغ شيبتون، الوكيل المؤسس لفايندرز كيبرز، عن تفاؤله إزاء هذه التجربة، خاصة وأنه قد تمكن من إعادة نشر أغاني الفنان الإيراني مهربويا والفنانة كوكوش ونشر أفضل الأغاني البوب والفانك والموسيقى الفولكلورية والروك السايكدليك لسنوات الستينات والسبعينات. وأردف شيبتون، أنه “منذ زمن ليس ببعيد سجلت هذه الموسيقى على أنها موسيقى عالمية، وهو تصنيف خاطئ. وقد رفضنا تأييد هذا التوجه. وتصنف تلك الأقراص الموسيقية التايلندية أو المنغولية أو الإيرانية اليوم على أنها أغاني فولكلورية أو روك سايكدليك، وأعتقد أن هذا دليل على تكون فهم تام بمختلف الثقافات”.
“هذا غير قانوني”
يرى المنقبون عن الكنز الإيراني أن التحلي بالصبر مهم جدا، خاصة وأن الأقراص الموسيقية لا تباع في المتاجر المحلية حيث لا يوجد بها شوى بعض المقاطع الموسيقية المعدلة لقصائد حافظ وسعدي، وأناشيد مؤذنين وأغاني فولكلورية إيرانية إلى جانب صناديق مخصصة للموسيقى الكلاسيكية وأغاني البوب الغربية، التي حازت على ترخيص من قبل وزارة الثقافة حتى تعرض للبيع أمام العموم. في هذا السياق، أفاد العامل بمتجر تسجيلات بيتهوفن، أحد أعرق المتاجر في العاصمة طهران، بأن النظام الحاكم في إيران يمنع شراء أو سماع الأغاني، سوى تلك التي يغنيها الذكور. كما تمارس رقابة مشددة خاصة على الأعمال الفنية التي تعود لعصر الشاه. ,أعقب العامل، قائلا: “هذا غير قانوني، لا توجد تلك الأغاني هنا”.
للعثور على تلك الكنوز القيمة يجب البحث في الأسواق والبازارات، على غرار سوق الجمعة الذي ينظم مرة في الأسبوع في موقف سيارات “بارفنايه” بعد انتهاء المصلين من صلاة الجمعة. وعادة ما تعرض التسجيلات الموسيقية القديمة على الطرقات بين بائعي الشاي والسجاد الفارسي، بأسعار لا تتجاوز يورو واحدا (40 ألف ريال). في ذلك المكان، تعقد أفضل الصفقات، حيث التقينا بحسن (اسم مستعار) الذي يعمل في صيانة مضخمات الصوت عالية الدقة غرب المدينة. توجهنا صوب متجره بعد أن عبرنا سوقا مكتظة بمحلات بيع الأجهزة الإلكترونية، ونزلنا بعض الدرجات حتى وجدنا محلا في مكان هادئ. وقد كان الحائط أصفر من كثرة النيكوتين، وكانت رفوف المحل المغبرة مليئة بالأجهزة الصوتية القديمة.
كان حسن يجلس وخلفه ملصق إعلاني لألبوم “ذي وال” لمجموعة الروك “بينك فلويد”، في حين كان يدخن سيجارة ويمسك بيده مكواة لحام وهو يحاول إصلاح تلك الأجهزة القديمة. وقد أعرب حسن عن ولعه بموسيقى فترة حكم الشاه ومدى حسرته لأنها غير متوفرة في الأسواق. وأثناء نبشه بين الأقراص السوداء لموسيقى ما قبل الثورة، حدثنا حسن قائلا: “أملك أقراصا موسيقية تعود لبوب ديلن والبيتلز ومايلز ديفيس. ولكن يجب أن أواري الأقراص الإيرانية لأنه لم يرخص لي بامتلاكها أو بيعها”.
ما هو مثير في الموضوع ليس الاكتشافات الموسيقية فحسب، ولكن أيضا تلك القصص التي تصاحب عملية البحث
عقب ذلك، أخرج حسن محفظة كانت مخبأة تحت مكتبه، كان تضم أقراصا فونوغرافية لحقبة ما قبل الثورة، من بينها ألبوم غول ياخ لكورش يغامي وأغاني ماتم سيمين غانم أو رامش غروبا قشنكن. وكانت ملصقات هذه الأقراص تجسد صور النجوم الذين كانوا أقرب إلى نجوم موسيقى “البوب يي يي”، حيث يطيل الرجال شعورهم ويرتدون سروايل بيل بوتومز، وتبدو المغنيات مرحات ورؤوسهن مكشوفة. لقد كان حسن مسرورا جدا وهو يشغل تلك الأقراص على جهاز قديم لقراءة الأقراص الموسيقية. وفي الأثناء، أخبرنا حسن وكله حنين إلى ذلك الزمن، “حتى وإن كانت ممنوعة، تبقى هذه الموسيقى شعبية جدا في إيران، بل إنها مشهورة جدا في الخارج بفضل التسجيلات التي أعيد إصدارها أو القنوات الفضائية التي تعمل من خارج إيران والتي تبث تلك الأغاني. إن الموسيقى الجميلة لا تموت”.
بعد ساعات قليلة، وفي مطار الإمام الخميني، كادت تلك الموسيقى الجميلة أن تصادر. فقد فحص أعوان الجمارك بكل دقة تلك التسجيلات النادرة، في حين وقال أحدهم: “لا يوجد ما تصرح به، حقا؟ وماذا عن أقراص ضياء وعارف وفيكن وبتي؟” قبل أن يتوقف طويلا أمام قرص للمغنية رامش عليه صورتها وهي شبه عارية. في الأثناء، قدم رئيس الجمارك، الذي كانت تميزه علامة سوداء على جبهته لكثرة السجود على “الحجارة”، وهي الحجارة المقدسة التي يسجد عليها الشيعة في الصلاة، ليقوم بالمزيد من التحقيقات. ولكن على غير المتوقع، فقد فرح لوجود شخص أجنبي مهتم بموسيقى ما قبل الثورة.
من دون أن يتلفظ بكلمة واحدة، أعاد المسؤول في المطار الأقراص الممنوعة إلى الحقيبة، وانطلقنا نحو باريس. وقد أخبرنا دوغ شيبتون بأننا كنا محظوظين جدا، حيث قال: “لقد صادرت الجمارك تسجيلات كوكوش التي كان يحملها صديق إيراني في مطار طهران، بل لقد تعرضت بنفسي إلى بعض المشكلات عند نقلي لأقراص موسيقية إيرانية إلى “إسرائيل”، وخضعت لتحقيقات مطولة”. بالنسبة لرئيس فايندرز كيبرز، يستحق الأمر العناء، حيث شدد على أن “ما هو مثير في الموضوع ليس الاكتشافات الموسيقية فحسب، ولكن أيضا تلك القصص التي تصاحب عملية البحث”.
المصدر: ليبيراسيون