ماذا لو كانت السعودية في سبيلها إلى حرق اتفاق الطائف؟ لِمَ العجب؟ فالمسألة ليست غيبية، ومن الواضح أن الاتفاق لم يعد يناسب الرياض خاصة بعد خطوات إيران الواسعة المتقدمة عليها في لبنان والإقليم والمنطقة، ليس هذا فقط، بل إنه أيضًا لم يعد يتناسب مع “تثقيل” وزن رئاسة الجمهورية.
لطالما كان لبنان بلد العجائب و”كل شي بهَلبلد بيصير”، اليوم وبعد ما جرى ويجري في المملكة مما اسمته بعض الأصوات الإعلامية “معركة تكسير العظام”، فمن الطبيعي أن ننتظر من السعودية مفاجآت لم تكن مُتوقعة يومًا.
الضباب كثيف والرؤية تخمينية، والواضح الوحيد أن واقع العلاقة بين الرياض ولبنان لا يقل إبهامًا عن واقع الأمور داخل الـ”ريتز كارلتون”، لذا فلا أحد ولا حتى المقربين مباشرة من بيروت والرياض، يعلم حق العلم ما يُصوِب عليه رجل المملكة القوي، وما الهدف الحقيقي لهذا الحراك المتخبط الدائر في عاصمة السكون؟
وفي غمرة هذه “الفوضى الخلاقة” تندلع كالصاعقة قضية إلقاء القبض بطريقة الخطف على أهم ملياردير عربي، رئيس مجلس إدارة البنك العربي صبيح المصري (الفلسطيني – الأردني ـ السعودي ـ الأمريكي)، ثم ردة الفعل العاجلة (بعد ظهر نهار السبت) من الطرف الأمريكي تحديدًا والغربي عمومًا، مع إنذار صريح بتجميد كل أصول المصارف السعودية ومنع تحريكها أو سحبها إلا بعد الإفراج عن صبيح المصري، والنتيجة الفورية كانت إطلاق سراحه.
الارتياح لم يعد من مكملات المملكة هذه الأيام، فقبضة الرياض خرجت من العراق وتهالكت في سوريا وتُعاني في اليمن، ولم يعد أمامها سوى “المُتنفس” اللبناني لإظهار سلطانها وتثبيته
إلا أن الجرة لم تسلم هذه المرة، فقد كشفت صحيفة “فايننشال تربيون” أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي إيه”، لم تعد ترغب في وصول محمد بن سلمان للعرش، وتفضل عودة ولي العهد السابق محمد بن نايف.
وبصرف النظر عن مدى دقة كلام الصحيفة، فالواضح أنها بطاقة أخرى صفراء تُرفع، بعد الأولى التي رُفعت إثر انقطاع الاتصال مع الحريري في الرياض، وعدم تجاوب المملكة مع رغبة وزير الخارجية الأمريكية “تيلرسون” يومها، حيث أشيع أن واشنطن أوفدت مايك بومبيو رئيس الـ”سي آي إي” بمهمة عاجلة، ورُوِيَ أنه خاطب ولي العهد السعودي بشكل فظ، ليتم إطلاق سراح المصري.
الاستنتاج الأساس من كل ذلك أن وضع ابن سلمان لم يعد سليمًا بعد أن اضطر واشنطن إلى “ركوب أعلى خيلها” مرتين خلال أسابيع لإلزامه بالانتظام والهدوء، وهذا ليس مجرد ملاحظة، وما يُغرده “مجتهد” تارة أو ينشره جمال الخاشقجي طورًا في الصحافة الأمريكية، لم يعد يكفي لإعطاء فكرة متكاملة عن الوضع، أما التشدد في تطبيق قانون الصمت في الرياض فلا يعني غير أن الأمور باتت قريبة من الخط الأحمر، وهذا ما ينعكس سلبًا على لبنان.
على كل حال، فالارتياح لم يعد من مكملات المملكة هذه الأيام، فقبضة الرياض خرجت من العراق وتهالكت في سوريا وتُعاني في اليمن، ولم يعد أمامها سوى “المُتنفس” اللبناني لإظهار سلطانها وتثبيته، وحتى اتفاق الطائف الذي حفظ الهيبة ونظم الحراك على الحافة، بات في غرفة العناية.
وهو بعد أن رفع الكرسي الثاني على حساب الكُرسي الأول في البلد، “لم يعد يعمل” اليوم بعد الذي استجد في طبيعة الوضع بوصول رئيس للجمهورية من قماشة ووزن ميشال عون، وليس من قبيل الاكتشاف ملاحظة أن الطرفين المعنيين في كلٍ من قصر بعبدا وقصر الحكم في الرياض لم يعد الاتفاق يلائمهما كلاهما، كلٌ لحساباته الخاصة.
فزمن المملكة في تلك الأيام يختلف عن زمنها الحاليّ، وحتى في 22 من أكتوبر/تشرين الأول من العام 1989، تاريخ التوقيع، لم يكن الاتفاق “مثاليًا” بنظر الرياض.
الأنظار تتجه نحو العدو الإسرائيلي، الطرف الأول الذي يتشارك مع السعودية العداوة لإيران، ولئن كانت تل أبيب لن تحارب من أجل السعودية، إلا أن قلقها المتزايد من تراكم القوة لدى إيران و”حزب الله” قد يدفعها خطوة في هذا الاتجاه
وما زاد الأمر إيلامًا اليوم أن الخصم المثالي (إيران) بات أقوى وأوسع تأثيرًا في معظم مناطق نفوذهما التنافسي، وأن واشنطن ترامب لم تُقدم على إلغاء الاتفاق النووي، يضاف إلى ذلك أن لا أحد يعلم علم اليقين حقيقة ما يدور في رأس “الإسكندر الأكبر” (وهو اللقب الذي أطلقته مجلة “إيكونوميست” الأمريكية على ولي عهد السعودية)، وما الذي يرمي إليه، لكن الكل بات على يقين أنه رجل المفاجآت.
فإلى أين من كل هذا؟
الأنظار تتجه نحو العدو الإسرائيلي، الطرف الأول الذي يتشارك مع السعودية العداوة لإيران، ولئن كانت تل أبيب لن تحارب من أجل السعودية، إلا أن قلقها المتزايد من تراكم القوة لدى إيران و”حزب الله” قد يدفعها خطوة في هذا الاتجاه، ثم إن روسيا (اللاعب الأبرز في المنطقة)، ليست غافلة عن “فوائد” يمكن أن تجنيها من أي حرب إسرائيلية ضد لبنان، وبمعنى آخر فإن ذهاب “إسرائيل” إلى الحرب سيخدم روسيا في النهاية بحسب ما كشفه تقرير في الـ”فورين أفيرز”.
هذا على فرضية أن موسكو التي ستمنع “إسرائيل” من إحراز نصر كامل لن تتدخل إلى أن تضعف الحرب إيران وحليفها (حزب الله)، ومن خلال إيقافها للصراع الدائر في لحظة صعبة، فسوف تستعيد دور المنقذ للحزب ولإيران، وستُثبت على مستوى آخر أن وجودها كقوة عالمية أصبح أقوى في المنطقة ولا غنى عنه، وهذا أهم من أن يُلقى به في سلة المهملات، خاصة أن تقليم أظافر إيران لا يضير واشنطن بل يدغدغها.
على هذا الأساس يمكن افتراض أن تكون المرحلة المقبلة مليئة بالتشويش: محاولات لتمزيق “الطائف” وإحراقه، أنشطة بهدف ضرب الاستقرار اللبناني لإضعاف حزب الله وإرباك التقدم الإيراني في الشرق، ثم خلخلة العهد من خلال الإطاحة بالانتخابات التي سيبني عليها سلطانه، وانشغاله، هو الآخر، في إدارة أزمة يراد لها أن تتواصل لأنها المنفس المثالي في المنطقة بعد سحب بساط الحروب الكبيرة.
فهل هذا ما قصده روبرت فيسك حين توقع أن اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” سيحرق المنطقة؟ أم أن المشكلة في حقيقتها ليست هناك ولا هنالك، بل هنا بحسب ما شخصته صحيفة “لوموند” الفرنسية إذ أجملت الصورة بقولها: “لبنان بلد إستراتيجي جدًا كي يُترك هادئًا، وضيعف جدًا كي يدافع عن نفسه بمفرده”.