تلك هي لُغتُك العربية يا صديقي، حروفها سحرُ و كلماتها قصيرة واضحة موجعة، أو ربما خادعة !
ألم تُعبر العربية عن أعظم المعاني الإنسانية بحرفين كوّنا معاً كلمة “حُب” ؟!
كلمة قصيرة تحمل داخلها أحلام أم بطفلها الذي لم يولد، دموع طفلة على دُميتها الضائعة، إبتسامتُه يوم زفافة و هو ينظر لها و لنورها الذي أضاء حياته.
تلك هي اللغة التي تقرأونها الآن. بأحرف ثلاثة صنعت “مِنَحْ” و بنفسها كانت “مِحَنْ”.
حتى أنها كلغة جعلت كلمات لأشياء ليس لها معنى محدد، فهناك “الزمن” و هناك “الوقت” و فيها أيضاً ما يُسمّونه “وطن”.
“وطن” ككلمة كانت تساوي عندي حتى وقت قريب كلمة أُخرى و هي “مصر”، نعم أنا وطني مصر، وطني الذي كنت أُنشِدُ له كل صباح في طابور المدرسة.
هي مصر، أم الدنيا، قلب الأمة العربية، قاهرة الأعداء و مقبرة الحُكام و أحياناً كثيرة مقبرة الشعوب.
لكن السؤال الذي يجب طرحُه في تلك اللحظة، هل هي مصر الآن، أم مصر و السودان، أم مصر و قطاع غزة، أم أنها تتغير كل فترة زمنية معينة فتتغير معها كلمة وطن لتناسبها في حجمها الجديد ؟!
عند خروجك مما تسميه وطنك تشعر أولاً بفقدانه، فأنت الطائر الذي ترك عُشّهُ بعد أعوام من العيش فيه، لكنك عندما تثقابل أؤلئك الذين تركوا أوطانهم مثلك تشعر بصِغَرِ مصر و عِظَمِ الوطن.
فذلك الذي جاء من أوروبا أو أمريكا أو إفريقيا ترك خلفه أيضاً ما يسميه – بالخطأ- وطن، فتألم و حزن لكنه أبداً لم يفكر و لو للحظة في تعريف ما يُسميه وطن. إن سألته لماذا تسمي دولتك التى منها أصلك وطن لن يجد إجابة واضحة، ليس لتقصير منه لكن لعدم وجود أي إجابة واضحة بالفعل.
الوَطَنُ : مكانُ إِقامةِ الإِنسان وَمقَرُّه ، وإليه انتماؤه ، وُلد به أَو لم يولد.
ذلك هو تعريف الكلمة في المعجم، هو في البداية مكان إقامة الإنسان و مقره، إذن فهو مُتحرك مع الإنسان، أينما ذهب كان وطنه إن توفر الشرط الثاني و هو الإنتماء.
الخلل الثقافي يكمن هنا بالفعل، فالعقل الباطن للكثير منها يرفض فكرة الإنتماء لأي مكان آخر غير الذي يُسميه هو وطناً له.
أنا مصري، إنتمائي وولائي الكامل لها و لا يجب أن يكون لي وطنٌ سواها، و إن كان هناك وطن سواها فسيكون فقط في عناوين الصُحف و كلمات الكُتاب الذين يتحدثون عن الوحدة العربية و أؤلئك العاملين على إستعادة أي شكل من أشكال التوحد و العمل على قلب رجل واحد، لكن المشكلة تكمن هنا في خلل عميق في عقول أؤلئك، فقد ورثوا مفهوم معين عن الوطن ولا يُريدون التخلي عنه بأي وسيلة كانت فالتخلي عنه في نظرهم خيانه و إثم عظيم.
كمصري كانت دائرة الوطن عندي تتسع لمصر وحدها، حتى إتسعت الدائرة قليلاً لتشمل بقعة أكبر من سطح المستدرية التي نعيش عليها فصارت “بلادُ العُرب أوطاني، و كلُ العُربِ إخواني.”
الوطن وقتها كان بلاداً عربية تجاوزت عدد العشرين دولة، فزادت المساحة و تناقص إرتباط كلمة “وطن” بكلمة “مصر”. حتى أنني في يوم عندما قرأت أسطراً قليلة عن “سايكس بيكو” شعرت بمدى السذاجة التي كنت بها، فلو إفترضنا فرضية أن الوطن هو مصر فالسؤال الآن هو ما هي مصر ؟!
بعدها بدأت في قراءة بعض الكتب للشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – و التي جعلت الدائرة تتسع أكثر، فبلادُ المسلمين كلها أوطاني، من الدول العربية حتى ماليزيا و بنجلاديش و البوتان وأفغانستان و باكستان و دولاً أخرى لا نعرف عنها أي شيء.
تناقص الترابط بين الوطن و مصر أكثر و أكثر، كل هذا و أنا أعيش فيها، أكبُر و أكبرُ على أرضها التي كانت وطني “الوحيد” يوماً ما. لكن التغيّر الأكبر حدث عندما تركتها و سافرت في رحلة أعرف أنها لن تقل عن خمس سنوات، خمسُ سنوات بعيداً عما اسميه وطني، تعرف أنت تلك الجملة التي كانت تقول “الله،الوطن” ثم أي كلمة ثالثة بعدها سواء كانت حقيقية أو ساخرة. أنا الآن تركت المعنى الأصيل في الكلمة الثانية، فالله معى هنا و هناك، لكن هنا، أنا في غير وطني، أنا في بلد ليس لها إنتمائي، فترابها ليس تراب مصر و مياهها ليست مياه النيل.
الوطن عندنا يُعبّر عن أرض، تراب، بعض الأماكن التى عِشنا بها، و هو أبداً لم يكن كذللك.
الوطن الصحيح “فكرة” في عقول أصحابها، إنتماؤهم لها لا لما تُمثله من حِفناتِ التراب، الوطن “طريق” هاجر من خلاله الرسول –صلى الله عليه و سلم- من مكة إلى المدينة على الرغم من أنه قال أنه لم يكن ليترك مكة لولا أن أهلها قد أخرجوه منها، نعم هي أحب البلاد إلى قلبه، نعم هي حياته، نعم هو الألم الذي صاحبه في هجرته و حياته ببعده عنها، لكنه ألم البُعد عن البلد، أما الوطن فهو طريقُه، للوطن و للطريق إنتماؤه.
هي رحلة في الحياة، تبدأ ببلد لها حُبّك، و تستمر بطريق له إنتماؤك، الوطن طريق نسعى إليه، حياتك طريق تسير فيه، وطنك حياتك التى تعرف أنها ستنتهي عاجلاً أو آجلاً فلا تختزلهما في قطعة أرض قد كان من الممكن أن تتغيّر بتغيير محل المولد و الإقامة.
البلد قطعة أرض، و الوطن ليس مكاناً بل هو الفكرة و الطريق، و الحياة رحلة يجب أن توجد لها الطريق، و مُعجم اللغة العربية قد يُثبتُ لك أنها لغة عميقة مخادعة !