روى الناقد الأمريكي الكبير ديريك مالكولم ذات مرة أنه عندما عرض على طلابه في الكلية الملكية للفنون مجموعة من كلاسيكيات السينما التي صنعت خارج الولايات المتحدة لمخرجين عظام من أوروبا وآسيا أمثال الإسباني لويس بونويل والياباني كنجي ميزوجوتشي والبنغالي ساتياجيت راى، فوجئ بأن الفيلم الذي أغرم به طلابه أكثر من أي فيلم آخر هو فيلم لمخرج إسباني غير معروف على نطاق واسع، وصاحب إنتاجات سينمائية محدودة جدًا من حيث الكم.
الفيلم هو “روح خلية النحل”، ومخرجه هو الإسباني فيكتور إريثه، اعتقد الطلاب على الفور أن مشاهدة هذا الفيلم كانت تجربة أقرب إلى السحر، إنه يقينًا أحد أجمل الأفلام في تاريخ السينما الإسبانية أو أي سينمات أخرى خلال العقود الخمس الأخيرة.
تدور أحداث الفيلم عام 1940 أي بعد عام واحد من انتهاء الحرب الأهلية، في قرية إسبانية معزولة في الريف القشتالي، لا يربطها بالعالم الخارجي سوى شريط سكة حديدي تمر عليه القطارات من وقت إلى آخر
ولد المخرج الإسباني فيكتور إريثه عام 1940 وأخرج أول أفلامه الروائية الطويلة “روح خلية النحل” عام 1973، وثاني أفلامه “الجنوب” عام 1983، أما ثالت أفلامه فقد كان “شمس شجرة السفرجل” عام 1992 وهو آخر أفلامه الطويلة إلى الآن.
ثلاثة أفلام طويلة فقط خلال ما يقرب من نصف قرن، إلا أن هذا العدد المحدود جدًا من الأفلام وضع فيكتور إريثه في مكانة متقدمة في قلوب عشاق السينما، وكرست مكانته كأحد أهم المخرجين وأكثرهم انحيازًا إلى السينما الفنية الخالصة، النقية، ذات اللغة الشعرية.
حقق إريثه فيلمه “روح خلية النحل” في العام 1973 وما زال الجنرال فرانكو يحكم إسبانيا بقبضة حديدية، إلا أنه استطاع التحايل على قيود الرقابة الصارمة عبر المجازات والرموز والصور القوية، ليوجه نقدًا حادًا إلى ذلك النظام الذي فرض على الشعب الإسباني حالة من الصمت والعزلة والأسى والإحباط، في أعقاب انتصاره في العام 1939 واستيلائه على السلطة بعد حرب أهلية شرسة ودامية مع أنصار الجمهورية.
الفيلم الذي تدور أحداثه في العام 1940 لا يصور تلك الحالة من خلال التفاصيل والوقائع المادية، بل من خلال الصمت والحوار الهامس والظلال والأطياف والفراغات والأجواء الخانقة، أشياء توحي بصدمة الحرب، بما تركته الحرب من خراب نفسي ومادي، بالتأثير المرعب على أولئك الذين تناحروا لثلاث سنوات ثم عادوا إلى بيوتهم وفي دواخلهم إحساس عامر بالهزيمة، بالدمار، بالخواء، إحساس طاغ بالذنب للتواطؤ في توطيد نظام وحشي.
تدور أحداث الفيلم عام 1940 أي بعد عام واحد من انتهاء الحرب الأهلية، في قرية إسبانية معزولة في الريف القشتالي، لا يربطها بالعالم الخارجي سوى شريط سكة حديدي تمر عليه القطارات من وقت إلى آخر، بطلة الفيلم هي الطفلة الصغيرة آنا التي جسدتها الممثلة الطفلة وقتها آنا تورنت ببراءة ما زالت عالقة في ذاكرة كل من شاهد الفيلم.
تعيش آنا مع أسرتها المكونة من الأب والأم وأختها إليزابيث التي تكبرها قليلًا، القرية وهي مسقط رأس الأب التي عاد إليها بعد انتهاء الحرب الأهلية تبدو كمنفى داخلي طوعي للأب والأم، يبتعدان فيها عن ذكريات الحرب الموجعة.
الأب الذي يبدو مثقفًا، انهمك في تربية النحل في منحل خاص به، ويرى في جهود النحل “الخادمات/الشغيلة” المستميتة داخل الخلية وتعبه الذي لا ينتهي، ثم موته بلا عزاء بعيدًا عن خليته، مجازًا غير صريح عن حالة من خسروا الحرب رغم جهودهم ونواياهم الطيبة، أما الأم فنراها تكتب رسائل لشخص أو عدة أشخاص مجهولين في المنفى بالخارج، ثم تخرج من المنزل وتركب دراجتها وتذهب بالرسائل إلى محطة القطار البسيطة، لتودعها في صناديق البريد التي تأتي مع القطارات، الأم آمنت بأن الحرب قتلت فيهم جميعًا كل إحساس بالحياة، بعد كل ما شهدوه من خسارة ودمار وفرقة.
أما الطفلتان فمنهمكتان في عالمها الطفولي الفانتازي بألعابه وخيالاته وبراءته بعيدًا عن الكبار وحاضرهما المثقل بتجارب الماضي القاتلة، تشاهد الطفلتان فيلمًا عن “فرانكنشتاين” في سينما القرية بصحبة الأطفال الآخرين، فيكون هذا الفيلم بداية التساؤلات بالنسبة للطفلة الصغيرة آنا، فهي كبقية الأطفال لا ترى في فرانكنشتاين كائنًا مخيفًا، بل كائن كبقية الكائنات يستحق العيش والصحبة.
تسأل أختها لماذا قتلوه بنهاية الفيلم؟ فتخبرها الأخت وهي الأكثر خيالًا بأنه لم يمت، بل إنها شاهدت فرانكنشتاين بنفسها في مكان مهجور خارج القرية، بعد انتهاء اليوم الدراسي تذهب إليزابيث بأختها آنا إلى مبنى أشبه بمخزن مهجور للغلال، يقع في أرض شاسعة مهجورة على مدى البصر خارج القرية، وتخبرها بأن هذا المكان الذي يظهر فيه فرانكنشتاين.
رأى الناقد روجر مورتيمر أن هذا الفيلم الاستثنائي “روح خلية النحل” كان يرغب في مساعدة الشعب الإسباني على مواجهة ماضيه بصدق وجرأة، لقهر ذلك الخوف العميق
تداوم آنا بعد ذلك على زيارة المكان علها ترى فرانكنشتاين في إحدى المرات إلا أنها تجد بدلاً منه جندي طريد جريح ممن كانوا يحاربون في صفوف الجمهوريين، وقد اختبأ في مخزن الغلال.
تقدم آنا له بكل براءة الطفولة تفاحة كانت في حقيبتها المدرسية، ثم تعود لزيارته وقد جلبت معها مزيدًا من الطعام لكي يأكل، ومعطف لأبيها كي يحتمي به من البرد، وساعة أبيها أيضًا لكي يعرف الوقت، بعد ذلك يتم العثور على الجندي وتتم تصفيته، حيث يرقد جثمانه بعد ذلك في قاعة السينما الصغيرة أمام شاشة العرض التي شاهد الأطفال قبل ذلك من خلالها فرانكنشتاين.
عندما تذهب آنا بعد ذلك إلى المخزن المهجور وترى دماء الجندي، تهرب وتسير هائمة على وجهها ليلًا، حيث تحلم تحت ضوء القمر بأنها جالسة مع فرانكنشتاين كما شاهدته على الشاشة، يعثر عليها والدها في صباح اليوم التالي نائمة، ويأخذها إلى المنزل حيث تبدو الطفلة مريضة، لا تأكل ولا تشرب ولا تعرف أفراد أسرتها.
يخبرهم طبيب الأسرة أنها مرت بصدمة قوية كطفلة وسوف تتجاوزها بمرور الوقت، وينتهي الفيلم وآنا تقوم من سريرها ليلًا، وتذهب كالمنومة إلى الشرفة المضاءة بنور القمر، وتغمض عينيها كما علمتها أختها، لتنادي فرانكنشتاين كي يحضر وتقول “إنه أنا، آنا”.
يقول المخرج فيكتور إريثه: “في الفيلم نحن نرى وعي الطفلة الصغيرة يتشكل طوال الوقت، هو أشبه بوعي فنان يرى أشياء لا يراها الآخرون، أو يراها بطريقة مختلفة، في البداية هي مجرد طفلة لا تفهم وتطرح الأسئلة على الآخرين، ما يريده المسخ “فرانكنشتاين” في بؤسه وشقائه أن يكون مقبولًا في المجتمع ومعترفًا به، لكن المجتمع يرفضه.
في ذلك المسخ يوجد شيء إنساني يصعب اكتشافه، لذا تماهي وتطابق الطفلة معه هو تماهٍ مع أولئك الذين يعانون ويتعذبون، ذلك أنها تختبر المعاناة أيضًا.
الطفلة بالنهاية تصبح أكثر معرفة ودراية بالعالم وأكثر استقلالية، لكن وعيها الذي تكتسبه لا يتشكل إلا من خلال الجرح، الفيلم يتحدث عن الجيل الذي عاش في فترة الحرب الأهلية الإسبانية، الحرب الأهلية من أكثر التجارب رعبًا لأي مجتمع، إذ يحارب فيها الأخ أخاه، وفي الحرب الأهلية الكل مهزوم، ليس هناك منتصر حقيقي.
ما ميز هؤلاء الناس في ذاكرتي – أيام الطفولة – أنهم بشكل عام كانوا أفرادًا صامتين، منكفئين على ذواتهم، لم يرغبوا في الكلام لأنهم جربوا شيئًا مرعبًا جدًا، ونحن الأطفال اختبرنا ذلك كشكل من أشكال الغياب، لقد شعرنا بأنهم – في العمق – بعيدون عنا جدًا، ربما لهذا السبب كان هناك فقدان الاتصال”.
رأى الناقد روجر مورتيمر أن هذا الفيلم الاستثنائي “روح خلية النحل” كان يرغب في مساعدة الشعب الإسباني على مواجهة ماضيه بصدق وجرأة، لقهر ذلك الخوف العميق، أنه يرغمهم على تذكر شيء كانوا قد روضوا أنفسهم على نسيانه، شيء تظاهروا بأنه لم يكن موجودًا أبدًا.