تمرّ العلاقات الجزائرية الإسبانية مرة أخرى بامتحان جديد قد يعيدها إلى عهدها السابق لمّا استدعت الجزائر سفيرها بمدريد قبل أكثر من عام، وذلك بسبب خلاف محتمل سببه الإمارات التي تمرّ علاقاتها بالبلد المغاربي بأسوأ فتراتها، حيث تحاول أبوظبي شراء أسهم في شركة ناتورجي الإسبانية، الشريك الأساسي لعملاق النفط الجزائري سوناطراك في أنبوب الغاز “ميدغاز” الرابط بين الجزائر والمملكة الإيبيرية، وهو ما ترفضه الجزائر وتهدد بوقف إمدادات الغاز إلى البلد الأوروبي في حال إتمام الصفقة.
رغم أن عجلة العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدَين استعادت دورانها، إلا أن العلاقات الدبلوماسية ما زالت تسير على حبل رفيع، الأمر الذي أجّل زيارة وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس إلى الجزائر التي كانت مقررة في فبراير/ شباط الماضي دون تحديد موعد جديد لها، وهو ما قد يزداد تعقيدًا في حال ما أقدمت مدريد على بيع أسهمها من ناتورجي لشركة طاقة الإماراتية.
صفقة سياسية
في 17 أبريل/ نيسان الماضي، أعلنت شركة أبوظبي الوطنية للطاقة (طاقة) أنها في محادثات مع أكبر 3 مساهمين في شركة الطاقة الإسبانية ناتورجي شريك سوناطراك الجزائرية، ومجموعة كريتريا وصندوقان للاستثمار المباشر، بهدف التوصل إلى اتفاق استحواذ كامل محتمل على مجموعة الطاقة الإسبانية.
تمتلك كريتريا، المساهم الرئيسي في مصرف كايكسابنك، حصة قدرها 26.7% في ناتورجي، ويملك صندوقا الاستثمار المباشر “جي آي بي (GIP)” و”سي في سي (CVC)” حصة تبلغ حوالي 20% لكل منهما.
أهمية تمويل هذا المشروع بالنسبة إلى الإمارات تتمثل في أنه قد يؤجّل أو يشوش على الأقل على سير مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء الرابط بين نيجيريا والجزائر
وقالت طاقة إنها تجري مناقشات مع شركة كريتريا الإسبانية القابضة فيما يتعلق بالتعاون المحتمل بشأن شركة ناتورجي، كما تؤكد أيضًا أنها تجري مناقشات مع صندوقي الاستثمار المباشر “سي في سي” و”جي آي بي” فيما يتعلق بالاستحواذ المحتمل على أسهمهما في ناتورجي. وفي حالة حدوث مثل هذا الاستحواذ، سيؤدي ذلك إلى أن تقدّم طاقة عرضًا لجميع أسهم ناتورجي، لكنها قالت إنه لم يتم التوصل إلى اتفاق مع كريتريا أو كايكسا أو “سي في سي” أو “جي آي بي”.
ويتطلب القانون الإسباني تقديم عرض شراء إلزامي عندما يرغب المشتري في الاستحواذ على أكثر من 30% من أي شركة مساهمة عامة، إضافة إلى الحصول على موافقة الحكومة الإسبانية لإتمام الصفقة، لأن ناتورجي تعدّ لاعبًا رئيسيًّا في نظام الطاقة في البلاد.
ورغم أن الصفقة تبدو في ظاهرها تجارية، إلا أنها تخفي أبعادًا سياسية كبيرة، بالنظر إلى أن الأمر يتعلق بالأساس بالشريك الرئيسي في أنبوب الغاز “ميدغاز” الرابط بين الجزائر وإسبانيا، إضافة إلى وجود عقود بينها وبين سوناطراك التي تمدّ إسبانيا بالغاز عبر هذا الأنبوب.
وتملك ناتورجي حصة في خط أنابيب غاز رئيسي بين إسبانيا والجزائر، ولديها كذلك عقود رئيسية مع سوناطراك التي تمدّ إسبانيا بالغاز عبر خط أنابيب، وتملك حصة أقل في “ميدغاز” لكنها تبقى كبيرة تصل إلى 49%، بينما تستحوذ سوناطراك على 51%، كما تملك عملاق النفط الجزائرية نسبة ضئيلة في ناتورجي تقدَّر بـ 4%، وهي نسبة لا تجعلها مؤثرة في قرارات ناتورجي، وبالخصوص في حال ما استحوذت عليها طاقة الإماراتية.
وتشيد الشركة الإسبانية على الدوام بعلاقاتها التجارية مع سوناطراك التي تزيد عن 50 عامًا، حيث تقول: “خلال كل هذه السنوات، لم تحدث أي انتهاكات من أي من الطرفَين. ولم يخرق أيهما العقود حتى في الأوقات الحساسة سياسيًّا”.
الغاز الجزائري شكّل نحو ثلث إجمالي واردات إسبانيا من مصدر الطاقة الحيوي في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024
وما يبرر الانزعاج الجزائري، وتصنيف هذه الصفقة أنها سياسية في باطنها، هو أن التحرك الإماراتي ليس الأول من نوعه ضد الاستراتيجية الطاقوية للجزائر، حيث أعلنت في ديسمبر/ كانون الأول الماضي تمويلها لإنجاز أنبوب الغاز الرابط بين نيجيريا والمغرب، رغم عدم جدواه الاقتصادية وفق توصية خبير الصناعات الغازية بمنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول “أوابك”، المهندس وائل حامد عبد المعطي، الذي يقول إن مشروع الغاز المغربي النيجيري لن يرى النور وعقباته أكبر من جدواه.
لكن أهمية تمويل هذا المشروع بالنسبة إلى الإمارات تتمثل في أنه قد يؤجّل أو يشوش على الأقل على سير مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء الرابط بين نيجيريا والجزائر، الذي اكتملت أغلب أجزائه عدا الجزء المارّ بالنيجر، بالنظر إلى أن الخلاف بين أبوظبي والجزائر بدأ يتضاعف منذ تصريح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون المتعلق بـ”رفض الهرولة للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي وعدم مباركته”، وهو ما اعتبرته أبوظبي موجّهًا إليها، لأنه يتعارض مع الدور الوظيفي الذي تلعبه في السنوات الأخيرة كعرّاب جديد للتطبيع مع الكيان العبري.
رسالة تحذيرية
لحدّ الآن لم تحقق المفاوضات بين طاقة وناتورجي أي تقدم منذ إعلان الشركة الإماراتية نيّتها في الاستحواذ على أسهم في الشركة العمومية الإسبانية، إلا أن هذا لا يعني أيضًا أن الصفقة قد أُلغيت.
كما لم تصدر تعليقات رسمية جزائرية بشأن انزعاجها من محاولة بيع بعض أسهم شريكها في أنبوب “ميدغاز” للإماراتيين، إلا أن “رويترز” نقلت عن مصدر مطّلع أن الجزائر ستوقف تسليم الغاز إلى شركة ناتورجي إذا قررت بيع أسهمها لشركة أخرى.
لكن هذا التصريح الذي لم يصدر حتى اليوم من قبل جهة رسمية جزائرية، يبقى مرتبطًا ببنود الاتفاق التي تحكم تأسيس أنبوب “ميدغاز” الذي تحوز فيه سوناطراك على 51% إن كانت تمنع هذا البيع أم تجيزه.
وحتى وإن لم يكن الاتفاق يتضمن اشتراط استشارة الطرف الأول لدى بيع أسهم الطرف الثاني لشركة أخرى، إلا أنها ستؤثر على العلاقة الطاقوية التي تجمع البلدَين، حيث تجريان هذا العام مراجعة للأسعار تخصّ عام 2023 بأثر رجعي والعام الحالي أيضًا، إضافة إلى أن العقد الذي يربطهما يمتد حتى عام 2030، ما قد يصعّب تجديده إن لم تولِ مدريد أهمية للتحفظات الجزائرية.
وحسب بيانات شركة إناغاس الإسبانية المشغّلة لشبكة الغاز الطبيعي، فإن الغاز الجزائري شكّل نحو ثلث إجمالي واردات إسبانيا من مصدر الطاقة الحيوي في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024، والذي يصل في أغلبه عبر خط أنابيب “ميدغاز”، لذلك قد تشكّل هذه المغامرة التجارية انعكاسات سلبية على إمدادات الطاقة لمدريد.
ميل مدريد إلى الموقف المغربي الإماراتي الإسرائيلي في نظرتها إلى الشراكة المتوسطية والبينية قد يعرّض هذه العلاقات لانتكاسات جديدة يصعب ترميمها، والتي ستصبّ في صالح إيطاليا الغريمة لمدريد في المجال الطاقوي
ونقلت صحيفة “إندبندنت” الإسبانية عن مصادر جزائرية قولها إنها مقتنعة بأنه “ليست المصالح التجارية هي التي تتحرك وراء هذه الصفقة”، مشيرة إلى أن الأمر يتعلق بتحالف إماراتي مغربي باعتبارهما المنتقدَين من طرف الدبلوماسية الجزائرية الرافضة للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، حيث يحاول هذا التحالف ضرب قطاع الطاقة الجزائري الذي يعدّ عصب اقتصاد البلاد، والذي زادت أهميته عقب الحرب الأوكرانية الروسية بعدما أصبحت الجزائر المصدر الموثوق الوحيد لإمدادات الغاز في المنطقة.
وتنقل الصحيفة الإسبانية أن هذه الاستراتيجية قد تم تصميمها في الرباط، حيث يسعى النظام العلوي هناك لنسف التقدم الذي يحققه الاقتصاد الجزائري، بالنظر إلى أن طاقة الإماراتية تستحوذ على أسهم في شركة طاقة المغرب المدرجة في بورصة الدار البيضاء.
وأشارت الصحيفة إلى أن الجزائر تعتبر أن الإمارات تتعاون بشكل فعّال في الأعمال “العدائية” التي يقوم بها المغرب، ما يتعارض مع المصالح الجزائرية في ليبيا ومنطقة الساحل.
ونقلت “إندبندنت”، عن مصادر مطلعة على العلاقات بين سوناطراك وناتورجي، أن كل قنوات التواصل والاستشارة مفتوحة بين الطرفَين، وأن أسباب الانزعاج الجزائري قد نُقلت عبر القنوات المذكورة، مضيفة أن إسبانيا تدرك أن الحفاظ على العلاقة مع الجزائر أمر حيوي، وأن الدخول “القوي” لطاقة في حصة ناتورجي يمكن أن يعرّض إمدادات الغاز الجزائري التي شكّلت أكثر من 29% من الغاز الذي استوردته مدريد العام الماضي للخطر.
ورغم هذا التخوف الإسباني، إلا أن أطرافًا في مدريد ترى أن الجزائر لن تقدم في الوقت الحالي على خطوة قطع إمدادات الغاز إلى إسبانيا، كون أنها ليست المرة الأولى التي تبيع فيها ناتورجي بعض أسهمها لشركة أخرى، إلا أن الأمر هذه المرة قد يختلف كونه يمسّ المصالح الاستراتيجية للبلاد.
تأثير سلبي؟
قبل نحو شهر، لم تبدِ وزيرة الطاقة الإسبانية، تيريسا ريبيرا، حماسها الكبير لبيع ناتورجي لطاقة الإماراتية، وهو ما قد يكون سببًا على عدم تعليق الجزائر رسميًّا على هذا الاستحواذ.
وقالت ريبيرا وقتها إنه من السابق لأوانه أن تقيم الحكومة احتمالية الاستحواذ على حصة في ناتورجي من قبل شركة أبوظبي الوطنية للطاقة (طاقة)، وأضافت: “سيتعيّن علينا أن نرى ما إذا كان من المنطقي أم لا أن تمتلك الدولة حصة في هذه الشركة… لكنني أعتقد أنه من السابق لأوانه النظر في ذلك. في الوقت الحالي، ما يتعيّن علينا القيام به هو التروي“.
وتتخوف الحكومة الإسبانية من تعقُّد موافقتها على بيع أسهم في ناتورجي لطاقة علاقاتها مع الجزائر، التي تأثرت بشكل كبير منذ تغيير حكومة بيدور سانشيز موقفها من الحل في الصحراء الغربية المستعمرة الإسبانية السابقة، بالانحياز إلى المقترح المغربي الذي يطالب بحكم ذاتي، فيما تدعم الجزائر تنظيم الاستفتاء الذي اتفقت عليه سابقًا جبهة البوليساريو والمملكة العلوية قبل أن تتراجع عن التزامتها الأممية السابقة، حيث لا تزال هذه القضية حتى اليوم مدرجة في الأمم المتحدة ضمن قضايا تصفية الاستعمار.
وقرر مجلس الأمن القومي الجزائري برئاسة الرئيس عبد المجيد تبون، المنعقد في 6 يونيو/ حزيران 2022، “التعليق الفوري لمعاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون مع إسبانيا، التي تمَّ التوقيع عليها في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2002″، إضافة إلى سحب السفير الجزائري بمدريد للتشاور، بسبب تغيُّر الموقف الإسباني من النزاع في الصحراء الغربية.
وظلت العلاقات بين البلدَين متشنّجة لأكثر من عام، إضافة إلى تراجع التعاملات الاقتصادية، حيث أشارت تقارير إسبانية إلى تكبُّد شركات ومورّدين إسبانيين خسائر بقيمة قاربت مليار يورو جرّاء القيود التي فُرضت عليهم إثر هذا التوتر الدبلوماسي، لكن الجزائر عيّنت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 سفيرًا جديدًا لها في مدريد عقب عودة إسبانيا لموقفها المعتاد من ملف الصحراء الغربية، خلال خطاب بيدرو سانشيز أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول.
غير أن هذا التحسُّن لم يعرف تقدمًا كبيرًا بالنظر إلى ما اعتبرته الجزائر أسلوب المناورة التي بدأت تنتهجه مدريد بشأن ملف الصحراء الغربية، لذلك أجّلت استقبالها وزير الخارجية الإسبانية في زيارته التي كانت مقررة في فبراير/ شباط الماضي.
لا أحد يمكن أن ينفي أهمية العلاقات الجزائرية الإسبانية لكلا البلدَين، خاصة في جانبها الاقتصادي بالنظر إلى أن مدريد في حاجة إلى مصدر طاقوي موثوق، والجزائر لا ترغب في خسارة سوق مضمون بأقل التكاليف، إلا أن ميل مدريد، حسب الجزائر، إلى الموقف المغربي الإماراتي الإسرائيلي في نظرتها إلى الشراكة المتوسطية والبينية قد يعرّض هذه العلاقات لانتكاسات جديدة يصعب ترميمها، والتي ستصبّ في صالح إيطاليا الغريمة لمدريد في المجال الطاقوي بالمنطقة، وهو أمر مرفوض في المملكة المتوسطية التي لا يوافق برلمانها على بعض خطط سانشيز الدبلوماسية والاقتصادية.